هل سيرحل الرئيس عبّاس؟ ولماذا غابَ عن رئاسة اللجنة المركزيّة؟ وما هي أسباب وصول سلام فياض المُفاجئ إلى غزّة؟ وكيف تستعدّ نابلس لقيادة الانتفاضة الثّالثة؟
عبد الباري عطوان
تزدحم وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيّام بالعديد من الأشرطة التي تُهاجم السّلطة الفلسطينيّة وتتّهمها بالعمالة للاحتِلال الإسرائيلي في تزامنٍ مع تعاظم الصّدامات بين آلاف المُتظاهرين في عددٍ من المُدن الفِلسطينيّة مُنذ اغتيال المُناضل الفِلسطيني نزار بنات بعد اعتقاله فجرًا على أيدي قوّات أمن اعتدت عليه بالقُضبان الحديديّة حتّى الشّهادة، وكان لافتًا مُطالبة المُتظاهرين، ومُعظمهم من الشّباب، برحيل الرئيس محمود عبّاس بصَوتٍ مسموع ودُون مُواربة.
من أبرز الأشرطة المُتداولة، شَريطٌ بالصّوت والصّورة يتعهّد فيه الرئيس عبّاس بالاستِقالة إذا تظاهر خمسة أشخاص ضدّه، وطالبوا برحيله، ولكنّ هُناك قناعة تتبلور لدى الغالبيّة السّاحقة من الفِلسطينيين في الوطن والمنفى أنّه لن يَفِي بهذا الوعد، حتّى لو تظاهر الآلاف أمام المُقاطعة، وهو ما يحدث حاليًّا، ولعَلّ اعتِداء قوّات الأمن بالعُصي على المُتظاهرين وإطلاقها الرّصاص الحيّ عليهم، في حالاتٍ أُخرى، وشجّ رؤوس الصّحافيين والصّحافيّات الذين تطوّعوا بفضح هذه الجرائم وتوثيقها بالصّوت والصّورة يُؤكِّد هذه الحقيقة.
المُدافعون عن الرئيس عبّاس وسُلطته المُتآكلة يقولون إنّه مُعيب ومُضَلِّل وجرى تشكيل لجنة تحقيق في جريمة اغتِيال الشّهيد بنات، وستكون نتائجها شفّافة وسريعة، وسيتم القصاص من كُل المُدانين، بينما يرى المُنتقدون الغاضبون وهم الأغلبيّة المُطلقة، أنّه يَعرِف كُل شيء وهو من يُصدِر الأوامر، وأنّ التّحقيق هو لذَرّ الرّماد في العُيون، فالحقائق مكتوبةٌ على الحائط، والمجموعة التي اقتحمت المنزل في السّاعة الثّالثة فجرًا معروفةٌ، والسّؤال الذي يتردّد بقُوّةٍ: هل سيتم مُحاكمة الرّؤوس الكِبار في قمّة قوّات الأمن الذين أصدروا القرار، بل هل يستطيع الرئيس عبّاس اتّخاذ مِثل هذا القرار، والمسّ بهؤلاء الذين يُنَسِّقون أمنيًّا مع الاحتِلال وهو يعلم جيّدًا حجم النّفوذ الأمريكي والإسرائيلي في دائرة القرار العُليا في قوّات الامن التي تُخَصِّص لها نظيرتها الأمريكيّة ميزانيّةً سنويّةً خاصّة، في استِقلاليّةٍ كاملةٍ عن ميزانيّة السّلطة ورئيسها.
***
اغتِيال الشهيد بنات جاء بمثابة المُفَجِّر، أو قمّة جبل الثّلج، لاحتِقانٍ مُتَضخِّم ناجمٍ عن سلسلةٍ من الأخطاء والمُمارسات الكارثيّة كان آخِرها صفقة لقاحات الكورونا المُنتهية الصّلاحيّة، والتّواطؤ مع الاحتِلال أثناء حرب غزّة الأخيرة، والصّمت على الاقتِحامات الإسرائيليّة للقدس المُحتلّة ومُقدّساتها، وإذلال المُرابطين المُدافعين عنها وإلغاء الانتِخابات.
الرّهان على تحذير السّلطة للمُنتَفضين في مُعظم مُدن الضفّة الغربيّة بتشكيل لجانِ تحقيقٍ، وعلى عُنصر الوقت ونسيان الشّعب، وتنظيم مُظاهرات مُضادّة “مُخجلة” دعمًا للسّلطة، رِهانٌ ساذج، وليس خاسِرًا فقط، لا يَشعُر الذين يَقِفون خلفه حجم حالة الغليان في الشّارع الفِلسطيني هذه الأيّام لأنّهم بكُلّ بساطة بعيدون عن هذا الشّارع، ويعيشون في أوهامِ الماضي السّحيق، ويتَنعّمون بالفساد وملايينه.
منظّمة التّحرير الفِلسطينيّة في صُورتها المُخجلة الحاليّة لم تَعُد تُمثّل الشّعب الفِلسطيني ولا يحقّ لها أن تتحدّث باسمه، ومُؤسّساتها أصبحت أُضحوكةً، وعمليّات “التّرقيع” لم تَعُد مُمكنةً، لأنّ الخرق اتّسع على الرّاقع، ولا بُدَّ من ثوبٍ جديد نظيف ناصِع البياض يرتقي إلى مُستوى طُموحات الجيل الفِلسطيني الجديد الشّاب الذي انتصر في الأقصى والشّيخ جرّاح وسلوان، والخليل، ونابلس، ولا ننسى قِطاع غزّة.
السّلطة الفِلسطينيّة لم تَعُد عِبْئًا على الشّعب الفِلسطيني بسبب دورها الوظيفي في خدمة الاحتِلال، وإنّما أيضًا على كاهِل من وقفوا خلفها ودعموها، وخاصّةً في واشنطن وتل أبيب، وأصبحت حركات المُقاومة التي هزمت الاحتِلال وانتصرت للقدس هي المُمَثِّل الحقيقيّ للشّعب الفِلسطيني لأنّها انتزعت هذا التّمثيل عبر شرعيّة الصّاروخ، مثلما انتزعته حركة “فتح” عبر فُوّهة البُندقيّة في الستّينات من القرنِ الماضي.
تطوّران لفَتا الأنظار في اليومين الماضيين يَستَحِقّان التّوقّف عندهما لمُحاولة التّعرّف عمّا يتم طبخه للمرحلة القادمة:
الأوّل: انعِقاد اجتماع لرئاسة اللّجنة المركزيّة لحركة “فتح” في رام الله السبت وغاب عنه الرئيس عبّاس للمرّة الأولى، وأناب عنه السيّد محمود العالول، دُون تقديم أيّ تفسيرات، حيث يقول البعض إنّها إجراءات أمنيّة خوفًا من الانتقام، بينما يرى البعض الآخر أنّها ربّما لأسبابٍ صحيّة، أو تمهيد للرّحيل.
الثّاني: وصول الدكتور سلام فياض إلى قِطاع غزّة عبر حاجز إيريز فجأةً، واللّقاء ببعض القِيادات “الحمساويّة” و”الفتحاويّة” وعدد من المُستقلّين، الأمر الذي أثار العديد من علاماتِ الاستِفهام، فالانتخابات التشريعيّة التي كان يُريد الدكتور فياض خوضها كمُستقل أُلغِيَت، فهل سيكون رئيس الوزراء البديل للدكتور محمد اشتيه “كبش الفداء”، ويتزعّم حُكومة الوحدة الوطنيّة القادمة التي يَكْثُر الحديث عنها هذه الأيّام؟
***
نقول للمَرّة الاف إنّ الكارثة الكًبرى التي يعيشها الشّعب الفِلسطيني هذه الأيّام ليست ناجمةً عن اغتِيال المُناضل نزار بنات، أو حُكومة فاشلة، أو صفقة لقاحات مُنتهية الصّلاحيّة، وإنّما بوجود نهج سياسي وأمني يعمل ضدّ ثوابت الشّعب الفِلسطيني، ويُعَزِّز بقاء الاحتِلال واستمراريّته ويمنع مُقاومته، ويُصادر الحُريّات ويقتل الشّرفاء والأحرار من أبناء شعبه مُتَفَوِّقًا على الاحتِلال في هذا المِضمار.
الشّعب الفِلسطيني في الضفّة الغربيّة بدأ يعود بقُوّةٍ إلى المُقاومة، بالإطارات المَحروقة، ومسيرات المشاعل، والحِجارة، وضجيج مُكبّرات الصّوت، والألعاب الناريّة، لمُضايقة المُستوطنين في “إيتار” بنابلس جبل النّار، وقبلها عمليّة حاجز زعترة، وحيّ الشّيخ جرّاح، وجنين والخليل، مُتَبَنِّيًا مُقاومة أشقائه في القِطاع، وكمُقَدِّمة لِما هو أخطر، وتكنولوجيا الصّواريخ والبالونات الحارقة ليسَت بَعيدةً.
عندما يُطالب الآلاف رئيس السّلطة بالرّحيل وأمام مقرّه في المُقاطعة، فإنّ التّجاوب هو أقصر الطُّرق للنّجاة، والإيفاء بالعهد، وتقليص الخسائر وكُلّ عمليّات التّرقيع، ورِهانات كسب الوقت لن تُفيد، فالشّعب، وبعد انتِصار غزّة الأخير واغتِيال الشّهيد نزار بنات هو غير قبله، فمَن استَطاع إرسال 6 ملايين إسرائيلي إلى الملاجئ، وفرض الحِصار على “إسرائيل” بإغلاق جميع مطاراتها، ودَمَّر أُسطورة القبب الحديديّة، يستطيع اجتِثاث هذه السّلطة من جُذورها، وإقامة نِظام فِلسطيني رشيد جديد، شفّاف ووطني، على أرضيّة المُقاومة بأشكالها كافّةً، والأيّام والأسابيع المُقبلة حافِلَةٌ بالمُفاجآت..