محاولة للفهم لماذا وكيف تبخر الجيش الأفغاني؟
تونس اسيا العتروس
بعد الصدمة كان لا بد من طرح الأسئلة الصعبة لماذا وكيف تبخر الجيش الأفغاني وقوامه 300 ألف من القوات الأفغانية التي دربها الأمريكيون ومعهم قوات الحلف الأطلسي على مدى عقدين من الزمن؟
الأكيد أن أكثر من سبب وراء هذا الهروب المتكرر الذي سبق وأثار الاهتمام عندما أقدمت أمريكا على اجتياح العراق في 2003 ليتبخر الجيش الجمهوري العراقي وكأنه لم يكن ويعاد السيناريو مجددا عندما تقدم الدواعش للسيطرة على مدينة الموصل ثاني أكبر المدن العراقية في صائفة 2014 حيث انسحب الجيش العراقي الجديد الذي ساهمت أمريكا في تدريبه وتكوينه بعد حل الجيش العراقي وهرب الجنود العراقيين بعد أن تخلوا عن بدلاتهم العسكرية رمز شرفهم وتركوا أسلحتهم وراءهم ليجمعها الإرهابيون ويعززوا بها ترسانتهم ويواصلوا تقدمهم وفتكهم بالأهالي من نساء وأطفال تحولوا إلى سبايا ومغانم لدى التنظيم …
يصر البنتاغون وفي أكثر من مناسبة على التأكيد على أنه تم خلال السنوات الأخيرة تدريب جيش قوامه 300 ألف جندي أفغاني بأسلحة حديثة وتدريب عالي المستوى وكثير من هؤلاء من الشباب الذي ولد وعاش في مناخ مختلف عن مناخ حكم طالبان التي أزيحت من السلطة في أعقاب الاجتياح الأمريكي بعد هجمات 11 سبتمبر2001 ، علما وأن اغلب التقارير تذهب إلى أن قوات طالبان تعد نحو80 ألف مقاتل وهو رقم كبير بالنظر إلى أن التنظيم تعرض للتشتت والملاحقة بما اضطره للجوء إلى الكهوف والمغاور والجبال حيث يبدو انه أعاد تنظيم صفوفه ومواصلة التدريبات مستفيدا والأرجح بدعم من باكستان البلد الذي تعود نشأة طالبان إليه.. عودة طالبان نهاية الأسبوع المنقضي إلى المشهد والسيطرة على مختلف الولايات بشكل متواصل دون أدنى مواجهة من القوات الحكومية الأفغانية لا يحتمل أكثر من تفسير وأكثر من عنوان وهو الفساد الذي تجاوز كل المؤسسات ودواليب الدولة وجعل القوات الأفغانية التي كان يفترض أن تدافع عنها ترفض ذلك لأنها وهذا الأرجح تعتبر أن أصحاب السلطة الذين تواتروا على الحكم على مدى السنوات الماضية ليسوا أهلا بان يضحوا من اجلهم أو يبادروا بحمايتهم أمام تقدم حركة طالبان برغم كل ما ارتبط بها من ممارسات ظلامية استبدادية وتشدد في تاويل الإسلام ومن أحكام جائرة وظلم في حق النساء والشباب والأطفال تعرضوا للجلد او الإعدام او قطع الأيدي أو الاغتصاب.
بل إن في مشهد التدافع الحاصل لآلاف الأفغان على مطار كابول ومحاولة الهروب بجلدهم ما يعكس رفضا بغيضا لطالبان ولكن أيضا للنظام الرسمي الأفغاني وسلطة الرئيس اشرف غني الذي كان أول من ترك البلاد وهرب بحثا عن ملجأ امن له ولعائلته قد لا يجده في أمريكا التي منحته الحماية وجعلته حاكما على أفغانستان بعد ان كاد يخسر الانتخابات أمام منافسه عبد الله عبد الله الذي كان يمكن ان يكون قائدا أفضل منه علما وان عبد الله عبد الله وحتى كتابة هذه الأسطر لم يترك البلاد تماما كما هو الأمر بالنسبة للرئيس الأسبق حامد قرضاي الذي يقود جهودا ومفاوضات مضنية مع طالبان من اجل البحث عن حل يمكن أن يساعد أفغانستان على تجاوز المحنة بمشاركة سياسية لقيادات أفغانية قد يكون لها القبول إقليميا ودوليا غير قيادات طالبان التي من شانها أن تثير المخاوف والفزع من عودة المشانق في الساحات العامة ..
النتيجة التي لا تقبل تشكيكا أن الآلاف المؤلفة من القوات الأفغانية اختارت إما الاستسلام لطالبان أو الهروب ولم يكن هناك جندي واحد مستعد للدفاع عن الدولة حيث لم تطلق رصاصة واحدة بعنوان المقاومة والتصدي لحركة طالبان والأمر ذاته حدث مع مختلف أمراء الحرب السابقين الذين هددوا بالتصدي لطالبان قبل دخولها العاصمة ثم اختفوا نهائيا وربما يكونون غادروا إلى باكستان أو إلى الدول المجاورة تاركين القصور الفخمة التي حرصوا على بنائها بفضل أموال السلاح والمخدرات والمساعدات التي كانت تخصص للأفغان والتي استولوا عليها لملاذاتهم ونزواتهم وعائلاتهم.
يدرك الأفغان جيدا أنهم بسبب هذا التخاذل والتراجع يدفعون ثمنا باهظا ولكن الواضح أن هناك قناعة أيضا انه لا احد من أصحاب السلطة يستحق تضحية الجنود والقوات الأفغانية التي تتفوق من حيث العدد والعتاد والإمكانيات على مقاتلي طالبان ..
وهنا يمكن اعتبار ان ما ذهب إليه الرئيس الأمريكي جو بايدن من تبريرات بشان الانسحاب الأمريكي في جزء منه لم يجانب الصواب عندما اعتبر انه لم يكن بالإمكان توفير الإرادة المطلوبة لدى الجيش الأفغاني لمواجهة تقدم طالبان والتصدي لها.. ولكن الواقع أيضا أن بايدن لم يكشف سوى جزء من الحقيقة وآثر إخفاء الجزء الأهم في تحديد أسباب الفشل في توقع عودة طالبان بهذه السرعة.. لقد فشل الحكام الجدد في أفغانستان الذين رفعوا راية نشر الحرية والديموقراطية في بناء مؤسسات الدولة وفي رعاية مصالح المواطن وفي تعزيز انتمائه لموطنه بما يجعله مستعد للدفاع عن أرضه أمام كل المخاطر.. فقد ظل الفقر سيد المشهد فيما تفاقمت الفوارق الاجتماعية بين أمراء الحرب والأثرياء الجدد والمقربين وبين السواد الأعظم من الأفغان الغارقين في الجوع والفقر والتخلف.. وحتى عندما سقط الدرع الأمريكي الذي كان يحمي أصحاب السلطة في افغانستان فأنهم سارعوا بالهروب فقد كانوا يدركون ان الشعب الأفغاني لن يهب دفاعا عنهم المعضلة الأساسية ومع انهيار الدولة الأفغانية وغياب مؤسساتها فان التوجه لعموم الأفغان سيكون بالعودة الى القبيلة والعشيرة بحيث ستكون طالبان قادرة على التواجد والامتداد واستعادة السيطرة على البلد…
وربما تكون طالبان نفسها فوجئت من سرعة انهيار خصمها وانسحابه من المواجهة بما يعني تعزيز قدرتها على التفاوض وفرض شروطها مع القوى الإقليمية والدولية في مفاوضاتها التي تحتضنها وتدافع عنها الدوحة بشراسة منذ نحو سنين ..
حتى اقترابها من العاصمة كابول كانت القوى الدولية تراهن على جهوزية الجيش الأفغاني في خوض المعركة ومنع سقوط كابول او على الأقل تاجيله قبل أن يتضح أن أسطورة الجيش الافغاني الذي دربة الأمريكيون ومعهم الناتو كان جيشا من ورق واغلب عناصره تحلم اليوم بالهروب والعيش بعيدا عن هيمنة طالبان.. طبعا لن يفصح البنتاغون عن الأسباب الحقيقية وراء الفشل في أفغانستان والانسحاب المذل للأمريكان من هناك بما أعاد إلى الأذهان ما حدث قبل نصف قرن في سايغون.. حتى الآن تصر إدارة البيت الأبيض على انه في منع هجمات القاعدة على الأراضي الأمريكية نجاح لحربها على الارهاب وكان بإمكان الرئيس الأمريكي بعد خطابه أمس أن يعود لمواصلة قضاء عطلته الصيفية في هدوء