كونية حقوق الإنسان في الحضارتين الغربية والإسلامية
لقد ورد في عدة مقالات منذ عقود أن التأسيس “المتعالي” لحقوق الإنسان الكونية في الحضارة الغربية قد استند على ثلاث فرضيات أساسية: “التطابق بين نظام العقل ونظام الطبيعة”، و”حالة الطبيعة” و”العقد الاجتماعي”. كما اشتد النقاش في السابق في موضوع مسألة الخصوصية الثقافية في الخطابات الرسمية وغير الرسمية بمنطق إعطاء الانطباع وكأن هناك تناقض ما بين هويتنا الدينية الإسلامية والأسس السالفة الذكر. لقد ارتقت جودة المشاريع الفكرية العربية والمغاربية بعد منتصف القرن العشرين وأصبح اليوم هذا الانطباع أمرا غير ذي موضوع. وعندما نتكلم عن هاته الخصوصية بالنسبة لنا نعني بذلك استحضار أحد أهم مكونات هويتنا الثقافية، وهو الدين الإسلامي.
ونظرا لما أولاه المرحوم محمد عابد الجابري من أهمية بالغة لمسألة الاجتهاد الفقهي في قضايا التحديث الثقافي وضرورة غربلة الثراث العربي الإسلامي من خلال ربط نصوصه الرسمية (القرآن والسنة) بأحداثه التاريخية (التفسير بأسباب النزول حسب الظروف والمستجدات الزمانية والمكانية)، ارتأينا اعتماد كتاباته في مجال إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي بروح عقلانية في أفق تأصيلها ثقافيا في مجتمعاتنا العربية والمغاربية. وفي هذه النقطة بالذات يقول الجابري: “مراعاة أسباب النزول واعتبار المقاصد هما الشرطان اللذان يؤسسان الموضوعية في الاجتهاد الفقهي… ذلك أن مراعاة “أسباب النزول”، بتعبير القدماء، هي، تقريبا، ما يعبر عنه اليوم ب”التاريخية”: أي فهم الشيء في ضوء ظروفه الزمانية والمكانية وتجنب إسقاط الحاضر على الماضي أو نقل الماضي إلى الحاضر، بصورة اعتباطية تعسفية. أما “المقاصد” في اصطلاح الفقهاء فهي ما يعبر عنه اليوم ب”البواعث” أعني الغايات والأهداف التي من أجلها كان الشيء”. وبخصوص الاجتهاد الفقهي قال: “إن الرأي الاجتهادي رأي اشترط فيه الفقهاء شروطا يراد منها أن تحرره من كل ما هو ذاتي وأن تؤسسه على أكثر ما يمكن من الموضوعية. وهكذا، فالرأي الاجتهادي في الفقهيات يجب أن يستند إلى نصوص صحيحة وعلى معرفة دقيقة بلغة تلك النصوص وبأساليبها في التعبير وعلى إطلاع واسع بتاريخية تلك النصوص، أعني بالظروف والمناسبات التي وردت فيها (أي أسباب النزول) وبالأهداف العامة التي ترمي إلى تحقيقها (أي مقاصد الشرع)”.
وفي هذا الصدد، إذا أخذنا بعين الاعتبار الفوارق الزمنية والحضارية وغيرها، وتجنبنا خطر إسقاط الحاضر على الماضي، يمكن أن نقر أن هناك تطابق بين الكيفية التي “تعالى” بها الإسلام ب”حقوق الإنسان”، وبين الطريقة التي سلكها فلاسفة أوربا في العصر الحديث لتحديد أسسها الفلسفية. ومن أجل تبرير ذلك، سنخصص هذا المقال لمناقشة الأرضية الفلسفية لحقوق الإنسان كما وردت في القرآن الكريم للوقوف على ما يؤكد عالميتها، ويفند في نفس الوقت كل الإدعاءات التي تدفع بوجود بعض التناقضات بينها وبين أسسها الفلسفية في الحضارة الأوربية.
فعلى أساس اعتبارنا لكون الشورى إسلاميا لا يمكن أن تكون إلا دعامة ثقافية لمقومات الحكامة الجيدة، كمقارنة ومقاربة مع فكرة “العقد الاجتماعي”، سننكب في هذا المقال على مناقشة محورين أساسيين سنخصص الأول لمفهوم الإنسان في المرجعيتين الغربية والإسلامية، والثاني لتوضيح التطابق في شأن الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان الكونية بين هاتين المرجعيتين باستحضار المبدأين الأساسيين: “تطابق نظام الطبيعة ونظام العقل” و”حالة الطبيعة”.
المحور الأول: مفهوم الإنسان في المرجعيتين الغربية والإسلامية: من اختلاف المنطلقات إلى الحسم في مسألة الوحدة بين الروح والجسد.
قبل الدخول في صلب موضوع هذا المحور، نود أن نستحضر في بدايته ما قاله المرحوم الجابري بشأن ما يسمى ب”الحقيقة النهائية” حيث أكد أن الإنسان لا يمكن أن يصل إليها دفعة واحدة ومرة واحدة، بل “الحقيقة” يبنيها الإنسان بتراكم ما يحالفه من صواب وما يكتشفه من أخطاء. وإذا كان الصواب في العلوم تبنيه التجربة، فإن الصواب في الحقوق والتشريع هو ما يحقق أكبر قدر من المصلحة العامة، أكبر قدر من الخير للفرد وللمجموع. كما أكد الجابري أن وجاهة الاعتراض على رأي من الآراء لا تعني بالضرورة فساد هذا الرأي ومخالفته الحقيقة، بل تعني فقط وجود أكثر من إمكانية واحدة لتشييد معقولية الموضوع المختلف فيه. وبذلك، تكون النصوص الدينية، مثلها مثل النصوص التراثية عامة، نصوصا مفتوحة قابلة للتأويل، وبالتالي يجد الناس فيها عادة ما يريدونه منها، ويترتب عن ذلك تعدد للمذاهب والفرق في جميع الأديان. وأمام هذه الحقيقة، ولولا ظهور النزعات المتشبثة باستغلال الدين كمطية لتحقيق السيطرة السياسية، كان سيكون الاختلاف في الرؤية والتفسير والتأويل بين الناس أساسا لتطوير الحوار الدائم بين الثقافات وضمان تصالحها وتفاعلها إيجابيا في الزمان والمكان. موضوعيا، التباين في تأويل النصوص الدينية يجب أن يكون مطلبا محبذا لتفادي الجمود الفكري ودعوات الرجوع إلى الوراء، والسقوط في الأوضاع النزاعية التي تتشبث فيها كل فرقة من الفرق المشكلة بكونها صاحبة الفهم الصحيح (امتلاك الحقيقة)، وأنها وحدها “الفرقة الناجية”. نقول هذا لأنه تبين أن القبول بالاختلاف هو أمر محبذ وضرورة تاريخية، لأن الإنسان بطبيعته، بقدر ما يعترف بوجود خصوصيات سلوكية مرتبطة بطبعه، بقدر ما يطمح إلى الكمال بروحه وجسمه، وإلى الرفع إلى أقصى الحدود لكل طاقاته العقلانية والجسمانية من أجل التقدم في اكتشاف الطبيعة وإمكانياتها والسيطرة عليها وتسخيرها للخير العام، مع احترام مقومات وجودها العلمية.
واعتبارا لما ورد في هذا التقديم الخاص بهذا المحور، نقول منذ البداية أن ما تم بناءه في الحضارتين الغربية والإسلامية بشأن مفهوم الإنسان، بالرغم من منطلقاتهما المختلفة، لم يتوج بالتباين والاختلاف، بل كانت النتيجة واحدة زكت الوحدة ما بين الجسم والنفس. وهذا ما سنحاول تبريره مستحضرين دائما ما جاء في كتابات الجابري. فهذا الأخير، من أجل تحليل موضوع “مفهوم الإنسان” وحقوقه الكونية، استحضر أربع مفاهيم بالغة الأهمية: “المفكر فيه”، و “ما هو قابل للتفكير فيه”، و”اللامفكر فيه”، و”ما هو غير قابل للتفكير فيه”.
مفهوم الإنسان في المرجعية الأوربية.
ما أكدته كتابات الجابري كون الثورة العقلانية في أوربا قد تجاوزت معرفيا وثقافيا مفهوم الإنسان كما كان “مفكرا فيه” في القرون الوسطى، تجاوز أحدثته الوثيرة السريعة لتحويل “ما هو قابل للتفكير فيه” إلى “مفكر فيه”، مع تحقيق تقدم مستمر وملموس في غزو مجالات “اللامفكر فيه” واكتشاف “ما هو غير قابل للتفكير فيه”. لقد حققت العقلانية الأوروبية حركية دائمة في التفكير وضعت حدا للجمود والتقليد المفتعل من طرف رواد الكنيسة المدعم لسلطتهم السياسية. لقد تمكنت المرجعية الأوروبية من تشييد مفهوم الإنسان على أساس إعادة الاعتبار للفرد البشري وتحريره من الشعور بوزر ما يسمى ب”الخطيئة الأصلية” (الأكل من شجرة الجنة المنهى عليها). فبعدما ساد الاعتقاد في القرون الوسطى بكون الإنسان مشدود بروحه إلى مملكة الله (الروح المقدسة)، وبجسده إلى مملكة الشيطان (الجسم المدنس)، نجح الفلاسفة والمفكرون والسياسيون من إعادة الوحدة بينهما (بين الجسم والروح)، وبالتالي التمكن من تحرير الإنسان بنفسه وجسده من سلطة الكنيسة (التي فرضت نفسها ممثلة لمملكة الله) و”الأمير” الخاضع لها. ومن هنا برز أول حق للإنسان في المرجعية الأوربية وهو حقه في جسمه، وفي ملكيته والتمتع به وتمتيعه. وانطلاقا من تأصيل هذا الحق ثقافيا، صار ينظر إلى الإنسان، لا على أنه الكائن المدنس، بل أنه الكائن الذي يجب أن تتجه جميع أنواع أنشطته إلى تنمية جسمه وروحه وحريته وكرامته. وبذلك، تكون النهضة الأوربية قد مكنت الإنسان الأوربي من تجاوز الثنائية ما بين الروح والجسد والتي روج لها بكل الوسائل كمعتقد واهي مكن من ضمان سيطرة الكنيسة على مصير الشعوب الأوروبية لقرون. لقد تمت بالفعل إعادة الاعتبار إلى الجسد بوصفه جزءا لا يتجزأ من ماهية الإنسان نفسه، الإنسان الذي أصبح ينظر إليه على أنه يسمو بإنسانيته ذاتها، لا بشيء خارجها.
مفهوم الإنسان في القرآن.
قال الجابري رحمه الله، على عكس ما حدث في التاريخ الأوروبي من تطورات في شأن “مفهوم الإنسان”، نجد أن هذا المفهوم كان دائما حاضرا في النصوص القرآنية (أي أنه كان مفكر فيه وقابل للتفكير فيه). فالمفسرون القدامى فكروا فيه حسب مشاغلهم آنذاك، ولكن لم يرق تفكيرهم إلى مستوى الأبعاد والآفاق نفسها التي تؤطر الرؤية المعاصرة بسبب تداخل الحرية في التفكير (مجال “المفكر فيه”، ومجال “القابل للتفكير فيه”) بالسلط السياسية التقليدية. لكن على مستوى النصوص القرآنية التي تناولت “مفهوم الإنسان”، قال نفس الكاتب، نجدها تلتقي على طول مع المفهوم الذي شيده الفكر الأوربي الحديث، ويتبناه الفكر العالمي المعاصر. لقد أكد القرآن أن الله فضل الإنسان على جميع المخلوقات بما في ذلك الملائكة وميزه وحده ببعده الحضاري: صانع الحضارة (انظر مفهوم العمران لابن خلدون). إضافة إلى هذا التفضيل، خلت كل الآيات القرآنية من ثنائية النفس والجسد التي كانت منطلقا “للمفكر فيه” أوروبيا في العصور الوسطى. فالقرآن الكريم جعل من الإنسان روح وجسد ولم ينقص من قيمة الجسم قط، بل مجدهما الاثنين معا. فمفهوم الإنسان ككائن حضاري كرمه الله بالعقل والنطق والتمييز والحظ، ودعاه للتمتع بدنياه كأنه سيعيش أبدا، وأن يعمل لآخرته كأنه سيموت غدا. وهبه العلي القدير جسم وصورة حسنة قويمة وقامة معتدلة (للجسم حق والنفس حق)، واستخلفه في الأرض. ومن ضمن الآيات التي أثبتت هذا التفضيل والتمجيد نذكر:
“ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا” (سورة الإسراء الآية 70).
“وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا. قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا” (سورة الإسراء الآيتان 61-62).
“وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون. وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم” (سورة البقرة الآيات 29-31).
“وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين. وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم”. (سورة البقرة الآيات 33-36).
“هو أنشأكم من الأرض. واستعمركم فيها” (سورة هود الآية 60).
“وأثاروا الأرض وعمروها…” (سورة الروم الآية
.
“ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون” (سورة يونس الآية 14).
“لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم” (سورة التين الآية 4).
“وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات” (سورة غافر الآية 64).
المحور الثاني: الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان الكونية بين الحضارتين الإسلامية والغربية.
مسألة “التطابق بين نظام الطبيعة ونظام العقل”.
بخصوص اعتبار العقل المرجعية التي تعلو على كل شيء، دعا القرآن الكريم صراحة مرارا وتكرارا إلى تأمل نظام الطبيعة واستخلاص النتيجة منه، بل أكثر من ذلك، ختمت عدة آيات بعبارات توحي بأن نظام الطبيعة هو نفسه نظام العقل. وفي هذا الصدد، قالى تعالى: “إن خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، لآيات لقوم يعقلون” (سورة البقرة الآية 163). ونفس هذه الحقيقة أقرها كذلك فلاسفة أوربا حيث أكدوا أن الله هو الذي خلق نظام الطبيعة ونظام العقل على ما هما عليه من التطابق والتساوق، وأنه ما كان للعقل أن يدرك مغزى نظام الطبيعة لو لم يكن نظامه هو نفسه مطابقا لنظام الطبيعة، ولو لم تكن أحكام العقل وقوانين الطبيعة متطابقة كذلك. ونظرا للأهمية التي أعطاها الله (سبحانه وتعالى) للعقل البشري، نجد القرآن يوظف مرارا تكرار كلمة “العقل” سلطة وحكما، مؤنبا الذين يخضعون للتقليد، داعيا إياهم إلى تحكيم العقل وحده (الآية): “قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون” (سورة الشعراء الآيات 71-74). إنها دعوة ربانية صريحة إلى اعتماد العقل وترك التقليد والاهتداء بآيات الكون (أي نظام الطبيعة).
الدعوة إلى الرجوع إلى “حالة الطبيعة”
جاءت الدعوة إلى الرجوع إلى “حالة الطبيعة” في القرآن مرادفة للدعوة إلى “نظام الفطرة”، حيث عندما يدعوا الله إلى الرجوع إليه فإن ذلك يتطابق و”حالة الطبيعة”. وبذلك يكون “قانون الفطرة” هو “القانون الطبيعي” الذي فطر الله الناس عليه. الأهمية القصوى لهذه المطابقة ليست اعتباطية بل مستمدة من كون اعتبار الإسلام دين الفطرة، دين إبراهيم السابق للأديان (يقول الجابري أن المقصود ب”الإسلام” هنا هو دين إبراهيم، لأنه أصل كل دين وهو سابق على كل خلاف ديني، إذ هو الفطرة التي ناهضت الاستبداد). وفي هذا الشأن، جاء في القرآن ما يبرر مقاربة “حال الفطرة” بالمفهوم الإسلامي مع “حالة الطبيعة” التي أسس عليها فلاسفة القرن الثامن عشر بأوربا مفهوم حقوق الإنسان مضامينه الحديثة، حيث يقول الله تعالى:
“فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون” (سورة الروم الآية 29).
“ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما، وما كان من المشركين” (سورة آل عمران الآية 66).
“إن الدين عند الله الإسلام” (سورة آل عمران الآية 19).
“وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه” (سورة آل عمران الآيتان 83-84).
“وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم” (سورة آل عمران الآية 19)
خاتمة
فإذا حاول جون جاك روسو، المؤسس لحقوق الإنسان على فكرة “حالة الطبيعة”، إثبات معقولية المسيحية وتبرير ضرورة الاستغناء على التقاليد الكنائسية، فإن إثبات “معقولية الإسلام” وتأصيلها ثقافيا تتطلب منا كذلك التشبث بالعقلانية والإيمان بالاختلاف والتطور والمستقبل والابتعاد عن التقليد ودعوات الرجوع إلى الوراء والاستغلال “السياسوي” للدين. لقد حان الوقت لتربية الأجيال على التمييز ما بين مجال العقل (الأمور التي توافق أو تناقض العقل) ومجال الوحي (الأمور التي تعلو عليه). ولتوضيح هذا الأمر، أعطى جون لوك أمثلة مجسدة لذلك حيث قال : “فإن القول بوجود إله واحد قول يتفق مع العقل، والقول بوجود أكثر من إله قول مناقض للعقل، والقول ببعث الأموات قول يعلو على العقل”.
إن ما تحتاجه الإنسانية اليوم هو الاحتكام إلى العقل من أجل توفير شروط تحسين ظروف العيش المشترك. وهذا الهدف لن يتأتى ما لم تحسم المجتمعات في الصراعات المفتعلة المعرقلة للمساعي التحديثية الرامية إلى تحرير الإنسان من القيود المصطنعة وتمكينه من تفجير طاقاته إلى أقصى الحدود، ومن أن يطلق العنان لمخيلته لتنمية قدراته الإبداعية، واستغلال طاقته الجسمانية وتسخير إمكانيات روحه وجسمه الفنية والجمالية من أجل إسعاد نفسه ومحيطه.
إن فلاسفة أوربا، الذين حملوا مشعل “التنوير” الثقافي، وأسسوا ل”حقوق الإنسان” في الفكر الحديث، لم يقفوا بذلك ضد الدين كدين، وإنما وقفوا ضد نوع من الممارسة الدينية التي كانت تقوم بها الكنيسة. كما أن بناء النظريات على فرضية تطابق ما هو “عقلي” مع ما هو “طبيعي”، لا يعني اعتبار هذا الأخير بديلا من “الإلهي”، بل هو كل موحد. ف”الطبيعي” لا يمكن أن يحل محل “الإلهي”، ولا “العقل” محل “الدين”، بل على عكس ذلك، فالدين الطبيعي عندهم هو نفسه الإلهي. وهذه الأمور لا تتناقض مع مقومات الدين الإسلامي. فهذا الأخير يدعو بدوره إلى العقلانية لإزاحة التقاليد الواهية وسلطتها المكبلة ليحل محلها العقل وسلطته. فاعتماد العقل (تطابق نظام طبيعة مع نظام العقل) والفطرة (حالة الطبيعة) والميثاق والشورى (العقد الاجتماعي) هي نفس الأسس التي اعتمدها رواد الفكر الفلسفي الأوروبي من أجل بلورة الميثاق العالمي لحقوق الإنسان. أما فيما يخص الجدل في تحديد “مفهوم الإنسان” في المرجعيتين الغربية والإسلامية، فقد توج التفاعل العقلاني بالتقائية فندت المساعي “الكنائسية” للتمييز ما بين الجسد (المدنس) والروح (المقدس). لقد فضل الله الإنسان كجسد وروح على سائر المخلوقات بما في ذلك الملائكة وكرمه ومتعه بجملة من الحقوق حث القرآن على احترامها وتأصيلها في ثقافة الشعوب والأمم. وهنا يقول الجابري :”… ذلك أن الإنسان في المنظور القرآني هو روح وجسم، ولم يرد في القرآن قط ما يحط من قدر الجسم، بل بالعكس يذكر الجسم في القرآن في معرض الأمور التي بها يكون الفضل والتفوق، من ذلك قوله تعالى “وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا، قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال، قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم” (سورة البقرة الآية 245)”.