كيان يدخل مرحلة التدهور.. ما هي معالم ذلك؟
كلما تحدثنا عن مظاهر التدهور في المجتمع الإسرائيلي؛ خرج من يخبرك بما هو أسوأ في الفضاء العربي (الرسمي غالبا)، كأن ذلك ينفي الحقيقة الأولى، وأهميتها لجهة مستقبل الكيان، لا سيما أن الوضع العربي الذي انتصر عليه الصهاينة في النكبتين (48 و67) كان أسوأ بكثير من الوضع الراهن، فضلا عن حقيقة أن القوة الغربية التي أسندتهم ما زالت تعيش تراجعا متواصلا، أخذ يتبدى على نحو أكثر وضوحا خلال السنوات الأخيرة.
كما هي عادة الدول التي تقوم على أسس عقائدية؛ تبدأ بمرحلة الروح ثم العقل وصولا إلى الغريزة كما ذهب المفكر الجزائري المعروف مالك بن نبي؛ في قراءته لصعود الحضارات وهبوطها. ولا شك أن الكيان الصهيوني يصيبه ما أصاب سواه، وها إنه يتدحرج بالتدريج نحو مرحلة الغريزة رغم كل محاولات لجم ذلك عبر مختلف الوسائل المتاحة.
مؤخرا انشغلت وسائل الإعلام في الكيان باتهامات جنسية وجّهتها امرأتان، لأحد أهم رموز الكيان (شيمون بيريز)، وهي ليست المرة الأولى التي تطارد فيها قادة الكيان قصص من هذا النوع، إذ سبقتها خلال العقد الماضي قضايا فساد كثيرة جدا، ومن ألوان شتى؛ تورّط فيها رؤساء وزارات ورؤساء دولة ووزراء وقادة أحزاب، ومحاكمة نتنياهو لم تنته فصولها بعد، فيما لا يبشّر خلفه بنمط مختلف (مؤخرا طالب الإسرائيليين بعدم السفر “بسبب أوميكرون” ثم أرسل عائلته في إجازة خارجية!!).
والحال أن من لا يعرفون تاريخ الكيان قد لا يجدون في كل تلك القصص شيئا مذكورا، وبالطبع قياسا بأوضاع عربية و”عالمثالثية” أسوأ بكثير؛ ما يدفع إلى عرض مقارنة أجراها بعض الكتاب الصهاينة، وكثيرا ما يجرونها؛ لما كان الحال عليه قديما، وما وصل إليه الآن، مع التذكير بأننا نتحدث عن البُعد الأخلاقي فيما خصّ الكيان داخليا، وليس فيما يتعلق بالتعامل مع الأعداء، وفي مقدمتهم الفلسطينيون، حيث تغيب الأخلاق تماما، بل ربما كان الوضع أسوأ في الماضي تبعا لمعطيات الوضع الدولي وسطوة الإعلام هذه الأيام، والتي تلجم الكيان بدرجة أكبر.
قبل سنوات؛ وفي صحيفة “معاريف”، كتب “جدعون رايخر” يقول: “في تلك الأيام (القديمة يقصد) كان الوالدان يثوران ضد أي كلمة بذيئة ويهمسان: ليس جيدا أن نتكلم هكذا أمام الأولاد. اليوم كل طفل وكل صبي في بلادنا يقرأ ويسمع عن زعماء يلقّب أحدهم الآخر بألقاب وعبارات حفظ الله أسماعنا منها. هو يسمع عن قادة يسلبون أموال الجمهور، يكذبون ويقذف واحدهم الآخر”.
أما إسحق ليئور، فكتب في “هآرتس” بعنوان “ديودوردنت الطهارة”، ساخرا من بؤس الأخلاق في الداخل، مقابل غيابها في التعامل مع الفلسطينيين، لكنه يذكر قصصا جديرة بالتوقف عن الفارق بين زعماء الماضي، وأمثالهم في الحاضر.
يروي “ليئور” عدة قصص قديمة كالتالي: “قصة من سنوات الخمسين: دخل صحفي في إحدى الليالي الماطرة لمقابلة رئيس الدولة يتسحاك بن تسابي في مقر الرئاسة، جلس في غرفة الانتظار شرطي يحتسي الشاي. “أين الرئيس؟”، سأله الصحفي، أشار الشرطي من خلال النافذة إلى رئيس الدولة الجالس في كشك الحراسة في الخارج، في البرد، وقد حل مكان الشرطي إلى أن ينهي شرب الشاي”.
ثم “قصة من سنوات الستين: بينما كان وزير الاقتصاد (بنحاس سابير) متوجها نحو إيلات، توقف في “يتباتا”، وسأل بعض الأصدقاء عن مشكلة المحلبة الجديدة، أجابوه كذا وكذا، واصل طريقه نحو “إيلات” للتحكيم في نزاع عمل. في طريق عودته، دفع مما جناه من بدل التحكيم ما يكفي من المال لإصلاح المحلبة. هل نشير إلى سنوات السبعين؟ لدينا مناحيم بيغن وشقته المتواضعة”.
يضيف: “قصة أخرى ذات صلة: أعضاء الكنيست الشيوعيون، حتى نهاية سنوات الثمانينات، تبرعوا برواتبهم لصندوق الحزب، وحصلوا بالمقابل من الحزب على الدخل المتوسط لعمال المصانع”.
ثم سأل بعد ذلك: “ما هو المشترك بين هذه القصص؟”، فأجاب الروح المفقودة كليا”. ثم يتحدث عن “الارتفاع المضطرد لرواتب أعضاء الكنيست، وشروط التقاعد الفضائحية الخاصة بهم”.
لا يتوقف الأمر عند السياسيين، وهو لا يمكن أن يتوقف أصلا، فالسمكة تفسد من رأسها، إذ أن المجتمع برمته يفقد مبدئيته، ودليل ذلك لا ينحصر في معدلات الجريمة التي تزداد اتساعا (الجرائم الجنسية زادت بنسبة 30٪ خلال السنوات الخمس الأخيرة)، والروح الاستهلاكية التي تسيطر عليه، بل في الروح المعنوية للجنود الذي يقاتلون في الميدان، والتي تكشفت نفسيتهم المتدهورة في حرب تموز 2006، وفي حروب المقاومة في غزة بعد ذلك.
وإذا أضفت إلى ذلك ما ذكرناه سابقا حول تغيّر موازين القوى الدولية في غير صالح الكيان (تراجع الغرب)، والتطورات المثيرة في ميدان التسلح، والتي تهمّش تفوّق الطيران، مثل الصواريخ بعيدة المدى والطائرات المسيّرة، بجانب تحوّلات الرأي العام العالمي ضد الاحتلال وسياساته، والتي تشغل الإعلام الصهيوني على نحو واضح، فسندرك أنه كيان يدخل منحنى التراجع، والذي يعرف الجميع نهايته.
في المقابل، فإن المجتمع الفلسطيني، يزداد إقبالا على المقاومة والاستشهاد، ولولا قيادة بائسة تعشق التنسيق الأمني، وتدمن على المفاوضات، لكان الوضع مختلفا إلى حد كبير (دعك من فسادها، فتلك حكاية بؤس أخرى)، لكن ذلك مؤقت، وسيجد الشعب طريقه نحو مسار يوجع الغزاة، ويفرض عليهم التراجع، وصولا إلى دحرهم بالكامل.
لا ننسى بؤس الوضع العربي الرسمي، لكن ذلك لم يكن ليتجرّأ على هذا المستوى من الانحدار، لو لم يجد ما تفعله سلطة رام الله مبرّرا كافيا