إجمال الأصول الفكرية لجماعة الجهاد ومناقشتها
ـ
إن جماعة الجهاد تنظّم مجموعة من الشباب رأوا أمامهم أموراً أنكروها، وأزمات فكرية ومادية استاءوا لها، وأخذتهم الحمية والغيرة الدينية من أجلها، ورأوا أن عليهم واجباً يجب أن يقوموا به، ومسئولية معينة يجب أن يطلعوا بها، فاتخذوا لأنفسهم من بينهم قادة ومعلمين لم يتمرسوا على العلم، ولم يأخذوا بأسبابه إلا في القشور لا في اللباب.
وإني لأرى أن البعض من هؤلاء القادة والمعلمين حملتهم الرغبة في التميز على أن يستعجلوا الوصول إلى الصدارة، فوقعوا في بعض التجاوزات الفكرية، وأصلوا أصولاً فيها نظر للعارفين من الأمة، وقعدوا قواعد تحتاج إلى التصحيح.
ولم تتمكن هذه الأصول ولا هذه القواعد من أن تكون لبنات تشيد صرحاً متينا حول هؤلاء وأتباعهم يمنع المغرضين من أن يستللوا إليهم، ومن أن ينفذوا إلى صفوفهم فيدفعوا بهم أمامهم لتحقيق غاياتهم، والحصول على مآربهم.
وغايات أعدائهم متعددة، ومآربهم متنوعة، والكل يريد وصلا بليلى، والشئ العجيب أن ليلى قد أقرت لهم بهذا الوصل، ومنحتهم إياه عن غفلة من عامتهم، وعن معرفة ورضى من قادتهم وزعمائهم.
ونحن سنحاول أن نستعرض بعض الأصول الفكرية لهذه الجماعة حتى نوضح لعامتهم الأمر، فنحن نثق بعقول الكثير منهم، ونحتاج إلى غيرتهم وحركتهم لتنتفع بهما الأمة ويجني ثمارهما ديننا الحنيف.
الإفراط في التكفير :
ومن بين هذه الأصول أن هؤلاء قد أفرطوا في التكفير، إذ من السهل عندهم اتهام الجماعات، والأفراد بالكفر وما يترتب عليه من اهداء الدماء، وإسقاط الحقوق والحرمات.
وأول المهتمين بالكفر طبعاً حكام المسلمين قاطبة من غير تمييز أو تفريق.
والدليل على كفر هؤلاء الحكام ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، وما يليها من الآيات.
ورعايا هؤلاء الحكام إن لم يعلنوا البراءة من حكامهم يكونون كافرين، أو سفهاء في أقل القليل.
هذا هو المبدأ الأول من مبادئهم، والأصل الأصيل الذي يعتمدون عليه في عقيدتهم.
ونحن سنحاول أن نتوقف عند هذا الأصل نناقشه بشكل عام، ثم نناقش بعض تفصيلاته.
أ ـ مناقشة التكفير العام :
ومناقشة هذا الأصل في شكله العام تدور كلها حول هذه المقولة وهي أن طبيعة الإسلام تختلف عن بعض طبائع الديانات الأخرى التي دخل عليها التحريف ومستها يد البشر في أن الإسلام لا تقبل طبيعته أن يحكم البعض جزافاً على قلوب الآخرين، فلا يجوز بحكم طبيعة الإسلام أن يدعي إنسان باسمه أن مالك لقلوب غيره، بحيث يصف بعضها بالكفر وبعضها بالإيمان، ويحكم لبعضها بالنجاة يوم القيامة، ويحكم على البعض الآخر بالخذلان والطرد من رحمة الله في الدنيا والآخرة.
إن هذه الأمور كلها تأباها طبيعة الإسلام، وقد تقبلها طبائع أخرى لديانات مختلفة(1)
والنصوص الشرعية في الإسلام تحرم على الإنسان أن يدعي معرفة ما في القلوب، وأن يحكم على البعض أو على الكل بالخروج من الإسلام إلا أن يكون قد قام على هذا الكفر ما يدل عليه، وأن يكون هذا الدال قطعي الدلالة في موضعه، لا يحتمل الشك أو التأويل.
ومن المعلوم أن النبي صل الله عليه وسلم قد تعامل مع المنافقين في المدينة، وسلوكهم معه ومع المسلمين لم يكن ليخفى عليهم ولا عليه، غير أنهم كانوا يدعون أنهم مسلمون، ومسلكهم المنحرف يقبل التأويل أو التخريج ولو من وجه يقابله الطرف الآخر ألف وجه.
وفي السنة النبوية ما يدل على أن النبي صل الله عليه وسلم: قد وجه اللوم إلى بعض أصحابه الذي قتل من شهد أن لا إله إلا الله ظناً منه أنه إنما شهد شهادة الإسلام خوفاً من السيف، وكان النبي شديد في لومه إلى الحد الذي جعل الصحابي: يتمنى أن لم يكن أسلم قبل هذا اليوم ليتمتع بالحكم الشرعي ـ الإسلام يجب ما قبله ـ .
أخرج الإمام مسلم في صحيحه حديثاً في هذا المعنى قال [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو خالد الأصرح وحدثنا أبو كريب واسحق بن إبراهيم عن أبي معاوية كلاهما عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن أسامة بن زيد وهذا حديث ابن أبي شيبة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا، فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صل الله عليه وسلم : أقأل لا إله إلا الله وقتلته؟ " قال قلت: يا رسول الله ! إنما قالها خوفاً من السلاح قال " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا " فما زال يكررها على حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ قال فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البطين يعني أسامة، قال: قال رجل ألم يقل الله: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ؟ فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ] " (1)
وله شاهد من رواية ابن ماجة قال [ حدثنا سويد بن سعيد، ثنا علي بن مسهر عن عاصم عن السميط ابن السمير، عن عمران بن الحصين، قال: أتى نافع بن الأزرق وأصحابه فقالوا: هلكت يا عمران! قال: ما هلكت، قالوا: بلى قال: ما الذي أهلكني؟ قالوا: قال الله: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، قال: قد قاتلناهم حتى نفيناهم، فكان الدين كله لله إن شئتم حدثتكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: وأنت سمعته من رسول ا لله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بعث جيشاً من المسلمين إلى المشركين فلما لقوهم قاتلوهم قتالا شديداً فمنحوهم أكتافهم فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح، فلما غيه قال: اشهد أن لا إله إلا الله إني مسلم فطعنه فقتله فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت، قال " وما الذي صنعت؟ " مرة أو مرتين، فأخبره بالذي صنع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه؟ " قال: يا رسول الله ! لو شققت بطنه لكنت أعلم ما في قلبه، قال " فلا أنت قبلت ما تكلم به، ولا أنت تعلم ما في قلبه" قال فسكت عنه رسول الله صل الله عليه وسلم فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات فدفناه فأصبح على ظهر الأرض، فقالوا: لعل عدوا نبشه، فدفناه ثم أمرنا غلماننا يحرسونه، فأصبح على ظهر الأرض، فقال: لعل الغلمان نعسوا، فدفناه، ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الأرض، فألقينا في بعض تلك الشعاب ] (1).
ولرواية مسلم متابع من رواية أحمد قال [ حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا يعلي ثنا الأعمش عن أبي ظبيان ثنا أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلا فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فضربناه حتى قتلناه فعرض في نفسي من ذلك شئ فذكرته لرسول الله صل الله عليه وسلم فقال: من لك بلا إله إلا الله يوم ا لقيامة، قال: قلت يا رسول الله : إنما قالها مخافة السلاح والقتل فقال: الا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك أم لا ، من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ، قال: فمازال يقول ذلك حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ ] (2)
والمتأمل في وقائع التاريخ التي تسجل حياة النبي وصحابته ومسلكهم مع المنافقين.
والمتأمل فيما ذكرناه من النصوص وما لم نذكره مما يشابهه يتبين له صدق ما ذكرناه وذكره غيرنا من أن طبيعة الإسلام تأبى أن يتسلط بعض ا لناس على قلوب الآخرين فيحكمون عليهم بالنجاة أو بالهلاك.
ب ـ مناقشة التكفير الخاص :
وهذا هو الجزء الثاني من الأصل الأول الذي ذهبوا إليه:
وخلاصته : أن حكام المسلمين اليوم قد حكموا المسلمين بنظام غير نظام الإسلام وهو إما أن يكون مستورداً من الغرب وإما أن يكون مستجلباً من الشرق وإما أن يكون خليطاً من النظامين شائه الشخصية غامض الهوية، وعلى آية حال: فهم يحكمون جميعاً بغير ما أنزل الله، ولما كانت الحاكمية لله وحده: كان هؤلاء الحكام قد نصبوا أنفسهم في مكانة الألوهية فأدى مسلكهم هذا إلى كفرهم، ووجب على المسلمين أن يحكموا بردتهم وأن يخرجوا عليهم.
وفي القرآن الكريم شواهد كثيرة تدل على كفر هؤلاء الحكام وارتداهم عن الإسلام، وكذا في السنة النبوية المطهرة نصوص كثيرة في هذا الباب يعقلها من كان له قلب شيحان يحمله على الانتصار لدينه.
وعمدة هذه النصوص في القرآن الكريم آيات المائدة : " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها ا لنبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوهم واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . . وكتبنا ع ليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون .. وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين .. و ل يحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " (1)
هذه هي خلاصة وجهة نظر الجماعة في هذه المسألة، وهي جزء الأصل الأول من أصولهم الفكرية كما ترى .
وفي مناقشتنا لهذا الجزء نحب أن نقول: إنه ليس هناك من عالم في الإسلام ي يستطيع أن يقر المسلمين على ما هم عليه من إهمال شرع الله عز وجل، وإقصائه عن شئون الحياة، وسلوك الناس.
كما أنه ينبغي أن نقول: إنه لا يوجد عالم مسلم يحترم رأيه وقلمه، ويراعي ربه ودينه يستطيع أن يقر المسلمين على ما هم عليه باسم الإسلام، أو أن يجازف بنفسه ودينه فيخلع على أي نظام من النظم الحاكمة للمسلمين في كل قطاعات المعمورة صفة الإسلام.
إذ من المعلوم أن الشريعة الإسلامية قد نحيت تنحية كاملة في بعض البلاد أو شبه كاملة بحيث لا يوجد منها عاملا عمله إلا ما يتصل بالأحوال الشخصية في بعض البلاد الأخرى.
تلك قضية يجب الإقرار بها، ولا ينبغي أن يمنعنا من الإقرار بها مانع، أو يصرفنا عنها صارف.
وسواء قال جماعة الجهاد ما قالوه، أو أحجموا عن القول بما قالوه، فإن هذه مسألة تفرض نفسها، وينبغي على كل مسلم الاعتراف بها والعمل على تغييرها.
ونقطة الخلاف بيننا (وهذا رأى شخصي) وبين ما قرأناه في سلسلة إصدارات جماعة الجهاد هو فيما يترتب على إقصاء الشريعة الإسلامية من أحكام تتصل بالرعية أو تتصل بالحكام، كما أنه هناك خلاف بيننا وبين القوم في أسلوب معالجة هذا التجاوز وتصحيح الوضع القائم.