فيلم «ريميني» للنمساوي أورليش سيدل: عن الاستغلال والبؤس الذي لا نراه في عالم اليوم
في فيلمه «ريميني» الذي يتنافس على الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي في
دورته الثانية والسبعين (10 إلى 20 فبراير/شباط الجاري) الذي تدور أحداثه في المدينة الإيطالية التي تعد من
أشهر المنتجعات الصيفية في البلاد، يقدم المخرج النمساوي الكبير المدينة المشهورة بشمسها وصيفها وبحرها،
كما لم نشهدها من قبل، يقدم ما يعتمل تحت سطحها المشرق الأنيق من تعاسة وحقارة.
عندما تطرأ على أذهاننا ريميني، نتذكر على الفور الصيف والشمس والبهجة، لكن سيدل، كما عهدناه في أفلامه،
لا يقدم لنا ما نتوقعه، ويقدم كل ما تعتمل به النفس البشرية من شرور وحقارات. كما عهدناه دوما، يقدم لنا سيدل
ما يصدم وما يوجع وما يصيب بالتقزز.
البؤس في شتى صوره هو ما نشاهده في الفيلم. تلك المدينة المشرقة صيفا تتحول إلى مشهد بائس حقير شتاء،
بعد أن تغلق الفنادق أبوابها ويهجرها المصطافون وتغلق المحال التجارية، وتصبح المدينة خاوية إلا من أعداد
ضئيلة من السياح، الذين جاءوا في رحلات زهيدة الثمن للمدينة بعيدا عن موسمها السياحي.
الاستغلال هو سيد الموقف في الفيلم.. ريتشي برافو، الشخصية الرئيسية في الفيلم، يعتاش على هذا الاستغلال،
ربما لا نجده تجسيدا للشر، لكنه تجسيد للحقارة والاستغلال، قد نرى منه بعض اللفتات الإنسانية، كما نرى دموعه
في جنازة أمه، لكن الجشع والدناءة لا يغيبان عن سلوكه. لا يتوانى سيدل عن تسليط الضوء على ما في العالم من
بشاعة. يأتينا سيدل في «ريميني» في أوج صنعته السينمائية، ولا يهادن، ولا يتوانى في عزمه على أن يكشف
لأعيننا ذلك البؤس الذي نتعامى عن وجوده. أجواء ريميني الموحشة المقبضة شتاء، حيث يكسو الجليد والصقيع
المدينة، ويسكن شوارعها وشواطئها المشردون واللاجئون، هي مسرح ريتشي برافو، الذي يؤدي دوره باقتدار
كبير المخضرم ميشايل توماس، الذي تعاون مع سيدل في العديد من أفلامه. ريتشي مغن، كان في سابق عهده
وسيما صاحب جسد جميل وصوت يشدو الأغاني العاطفية، لكن الأعوام مرت وفقد ريتشي شهرته ووسامته، ولم
يبق له من شهرته السابقة إلا معاقرة الكحول وجسد تهدل وصوت ما زال يجذب بعض النساء في منتصف العمر،
اللاتي يذكّرهن ريتشي بصباهن، واللاتي يأتين إلى ريميني شتاء من ألمانيا، بحثا عن بعض الدفء المفقود في
ريميني. لكن الغناء لحفنة من السائحات لا يكفي ليعتاش ريتشي من ورائه.
ولذا فهو يبيع جسده وخدماته الجنسية لبعض النساء اللاتي يجدن فيه عودة لذكريات شبابهن. غرف مقفرة مظلمة
في فنادق مغلقة باردة مظلمة شتاء، هي الأماكن التي يلتقي فيها ريتشي بالنساء اللاتي يمارس معهن الجنس مقابل
المال.
يصور لنا سيدل أن الاستغلال يحدث في دوائر تؤدي إلى بعضها بعضا. فالمنتجع الإيطالي الصيفي الشهير يقتات
على استغلال جهد اللاجئين الذين يفترشون شواطئه وشوارعه المكسوة بالثلوج شتاء. وريتشي يستغل الجميع،
خاصة النساء اللاتي يفترض إنه يسعى لتقديم بعض البهجة لهن، لكنه أيضا يجد من يستغله ردا على استغلال
سابق. إذ فجأة وعلى حين غرة تعود ابنة ريتشي، التي هجرها هي وأمها وتخلى عنهما منذ أعوام طويلة، تعود
شابة تسعى بكل الطرق للحصول على حقها من أب تخلى عنها. تطالبه ابنته، التي تترصده في الطرقات، بكل المال
الذي لم ينفقه عليها في صغرها، ربما نرى بعض مشاعر الأبوة تستيقظ لدى ريتشي حينا، لكنه لا يبتعد عن دائرة
الحقارة والاستغلال، فكيف له أن يأتي بالمال الذي يرضي به ابنته، دون أن يستغل الآخرين ويبتز من وثقن فيه في
لحظة ضعف إنساني. في أفلام سيدل لا نرى نهاية سعيدة زائفة تخفف من وطأة الألم والظلام الذي يخيم على العالم
والنفس البشرية. الألم هو سيد الموقف، والتقزز من دناءة البشر هو ما يبقى معنا بعد نهاية الفيلم.