حزب الله و"إسرائيل" ومرتكز الردع… دراسة تحليلية (1)
تعد "إسرائيل" حزب الله من التهديدات الاستراتيجية على أمنها القومي، وقد تكرس هذا التصنيف
الإسرائيلي للحزب على مدار تاريخ طويل من الصراع، و شهد الكثير من التحوّلات.
تعد "إسرائيل" حزب الله من التهديدات الاستراتيجية على أمنها القومي، وقد تكرس هذا التصنيف
الإسرائيلي للحزب على مدار تاريخ طويل من الصراع، و شهد الكثير من التحوّلات، إذ نظرت "
إسرائيل" إلى حزب الله - حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي - على أنه تنظيم لبناني شيعي،
ضمن منظومة المقاومة اللبنانية محدود الفاعلية، يعتمد على مجموعات عسكرية بسيطة بدائية،
ولكن بدأت النظرة الإسرائيلية تختلف مع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وتوقيع اتفاق الطائف عام
1989، فقد تحوّل حزب الله في النظرة الإسرائيلية إلى حركة المقاومة العسكرية الرئيسة ضدها في
لبنان، والتي تعتمد على أسلوب حرب العصابات ضد القوات الإسرائيلية، و"جيش لبنان الجنوبي"
الموالي لها، في منطقة جنوب لبنان المحتلة.
ارتفع تهديد حزب الله بالتصنيف الإسرائيلي درجة أعلى، مع امتلاكه سلاح صواريخ "الكاتيوشا"
قصيرة المدى، التي هددت المستوطنات الإسرائيلية في الشمال منذ أواسط التسعينيات، ما أجبر "
إسرائيل" على النظر بجدية أكبر إلى خطر حزب الله على أمن "إسرائيل"، خاصة بعد عمليتَي "
الحساب والعقاب" عام 1993 و"عناقيد الغضب" عام 1996، التي حملت بطيّاتها جذور التغيير،
في معادلة الردع الإسرائيلية تجاه حزب الله، وتجاه ما يمكن تسميته بداية معادلات الردع المتبادل، ما
جعل "الجيش" الإسرائيلي يشك في كفاءة المصطلحات التقليدية للردع في العقيدة العسكرية
الإسرائيلية من حيث ارتباط الردع الإسرائيلي بقدرة العمليات العسكرية الإسرائيلية، على تحقيق
الحسم تجاه حزب الله، وبدأ التفكير الإسرائيلي العسكري بالتوجه إلى العمليات العسكرية الهادفة إلى
إحداث تأثيرات محدودة، ينتج منها احتواء سلوك حزب الله الاستراتيجي تجاه "إسرائيل" وتقييده،
كأسلوب ردعي جديد.
يعدّ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، مرحلة تاريخية مهمة في الصراع بين حزب الله و "
إسرائيل"، باعتبارها المرة الأولى التي تنسحب فيها "إسرائيل" من أرض عربية، تحت وطأة
ضربات المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، وبعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، بدأت
استراتيجية إسرائيلية جديدة في التعامل مع تهديدات الحزب، اتسمت بالاحتواء، وعدم الاندفاع بالرد
العسكري المكثف على عملياته، ما دام لم تتخط تلك العمليات السقف المقبول إسرائيلياً من جهة،
والامتناع عن ردود الفعل الإسرائيلية التي من الممكن أن تؤدي إلى حرب مفتوحة، والاقتصار على
عمل عسكري عقابي محدود، معتمد على النيران الموجهة، من جهة أخرى
وقد ارتكزت سياسة الاحتواء على عوامل عدة، أهمها ما ذكره الباحث الإسرائيلي، يائير عفرون: "
التهديد العسكري العقابي المتبادل من جهة، والعوامل السياسية الاجتماعية من جهة أخرى"، وسعت
الحكومة الإسرائيلية، إلى عدم تعطيل الحياة في الشمال، والعمل على استعادة نسيج الحياة المدنية،
وازدهار الاقتصاد للمستوطنات هناك، بعد فترة طويلة من الاضطراب (قبل انسحاب الجيش
الإسرائيلي من جنوب لبنان)، وبناءً على هذه الخلفية، لم تجد "إسرائيل" أي جدوى من الرد المكثف
ضد حزب الله وتصعيد الموقف، علاوة على ذلك، كانت هناك تلميحات أولية في عام 2005، أن
النظام السياسي في لبنان سيتغير للأفضل، من وجهة نظر المصلحة الإسرائيلية مع خروج القوات
السورية من لبنان، وفقاً لقرار مجلس الأمن (1559)، الذي منح "إسرائيل" بارقة أمل بتشكل ضغط
لبناني داخلي، لسحب سلاح حزب الله، ناهيك بالخوف الإسرائيلي من فتح جبهة قتال ثانية، في
الوقت الذي كان "الجيش" الإسرائيلي منخرطاً، في الجبهة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة (
انتفاضة الأقصى).
الأمر الذي أنتج توازناً شبه ردعي، بين حزب الله و"إسرائيل"، تعتمد معادلته على ردع "إسرائيل"
حزب الله، من الاستمرار في استنزاف المستوطنات الإسرائيلية، في المقابل، استطاع حزب الله ردع
"إسرائيل"، من مغبّة القيام بعملية هجوم عسكري شامل، بهدف هزيمة الحزب وسحقه، مع
الاستمرار في تعزيز قوته العسكرية خلال الفترة من 2000-2006، وعلى مستويات متعددة، ناهيك
بتنفيذه عدة عمليات عسكرية ضد "الجيش" الإسرائيلي، وصلت إلى أكثر من عشرين هجوماً
عسكرياً حتى يوم 12 تموز/يوليو 2006، لكن ردة الفعل الإسرائيلية حافظت على سياسة الاحتواء
تجاه حزب الله، الأمر الذي ولّد لدى الحزب قناعة، كما كتب الباحث الإسرائيلي عمير دوستري " أنه
لن تجرؤ أي حكومة إسرائيلية على وضع أكثر من مليون من مستوطني إسرائيل في الملاجئ
يعيشون في شمال البلاد، وكل ذلك بسبب جندي أو حتى جنديين مختطفين".
من الممكن أن نخلص إلى أن حرب لبنان الثانية، كانت نتيجة تأكّل طويل الأمد، في الردع الإسرائيلي
تجاه حزب الله من جهة، وعدم قدرة "إسرائيل" على توصيل رسائل واضحة إلى الحزب عن عدم
رغبتها في الاستمرار في سياسة الاحتواء تجاهه، خاصة مع انتهاء انتفاضة الأقصى في الجبهة
الفلسطينية، والتغير السياسي في الحكومة الإسرائيلية، وصعود رئيس الوزراء، إيهود أولمرت،
الذي لا يعاني من عقدة لبنان، كما كان يعاني منها رئيس الوزراء السابق آرييل شارون، من جهة
أخرى.
في نهاية المطاف، فشلت سياسة الردع الإسرائيلية السابقة في حرب لبنان الثانية، في أن يدرك
حزب الله بأنه لا يمكنه الاستمرار في توسيع حدود مناورته، من دون كسر قواعد اللعبة من الجهة
الإسرائيلية.