“أيها الشعب الوفي.. مهما تمسكتم بالعروة الوثقى، ما كان شيء ليضركم كيفما كانت شِرته، إذ لا شِرة تدوم في الحياة الدنيا. أيها الشعب العزيز.. وعدتَ بالإخلاص ووفيت أحسن الوفاء، وكنتَ من الصابرين فكان لك ما وعد الله به؛ إنما يوفّى الصابرون أجورهم بغير حساب. أيها الشعب العزيز.. قد أخلصت الوفاء كما أخلصتُ، وأديت الواجب أحسن أداء كما أديتُ، وها أنا بينكم كما تعهدوننا، حب البلاد رائدنا وخدمتها غايتنا. الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور”.[1] الخطاب هنا لرجل كان يلقّب بالسلطان، أي الملك المغربي الراحل محمد الخامس، والمكان هو باحة مسجد حسان التاريخي بالعاصمة المغربية الرباط، بعد أول صلاة جمعة حضرها في وطنه بعد عامين قضاهما في المنفى الذي اقتاده إليه الاستعمار. كان ذلك يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1955، وهو اليوم الذي اختير لرمزيته الخاصة ليكون موعدا لعودة رسمية لملك ظل مخلوعا من عرشه منذ 20 أغسطس/آب 1953، لكنّه عاد بفضل تلاحمه مع قادة الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال وتمسكهم له. السلطان محمد الخامس يترأس حفل الولاء الذي أقيم على شرفه في عام 1927.
رمزية تتمثل في كون هذا التاريخ يصادف ذكرى اعتلاء محمد الخامس عرش المغرب من عام 1927، لكنه وبعد سنوات قليلة من الاحتفال بعيد الاستقلال المغربي في الثاني من مارس/آذار الذي كان قد شهد التوقيع رسميا على إنهاء الحماية الفرنسية بالمغرب عام 1956، سوف يعود الاحتفال بعيد الاستقلال إلى 18 نوفمبر/تشرين الثاني، ابتداء من العام 1961. لهذا لا يمكن الحديث عن عيد استقلال المغرب في معزل عن معركة المغاربة من أجل إعادة حاكمهم الشرعي قبل أي تفاوض أو اتفاق مع المستعمر من أجل ترتيب الانسحاب، كما أن احتلال الفرنسيين للمغرب منذ البداية -عبر ما يسمى باتفاقية الحماية- كان مداره الأصلي هو السيطرة على العرش واختيار صاحبه. ولفهم تحوّل تاريخ جلوس الملك محمد الخامس على العرش إلى عيد للاستقلال، لا بد من العودة إلى قصة الاحتلال الفرنسي للمغرب، وارتباطها الوثيق بمصير العرش.
استعمار يسكن قصر السلطان يبتدئ تفسير هذا الترابط بالرجوع إلى ثنايا المعاهدة التي فرضت الحماية على المغرب عام 1912 بين فرنسا والسلطان عبد الحفيظ عمّ الملك محمد الخامس فهذه الاتفاقية جاءت بعد عقود من التقهقر المغربي أمام ضربات الأوروبيين المتنافسين على استعماره، حيث أمسك المستعمر بخناق المملكة من خلال تقييده شخص السلطان بهذه المعاهدة، وهو ما خوّله عزل مولاي حفيظ بعد شهور قليلة من توقيعه المعاهدة، وتنصيب أخيه مولاي يوسف سعيا إلى جعل السلطان أداة طيّعة في يد المحتلين. واستمرّ هذا النهج مع اختيار الفرنسيين أصغر أبناء مولاي يوسف لخلافته إثر وفاته عام 1927، إلا أن السحر انقلب على الساحر حين تحوّل محمد بن يوسف تدريجيا إلى حليف أول للوطنيين الرافضين لاستمرار الحماية الأجنبية على البلاد، وهو ما انتهى بنفيه عام 1953، ليصبح مطلب عودته من المنفى مرادفا للاستقلال. وهناك وجه آخر لهذه المعركة التاريخية التي خرج منها المغرب بوضعه الحالي، وهو تدخّل قوى وطنية شعبية للفصل بين أفراد الأسرة الحاكمة وانتصارها للشرعية. فحدثُ استقلال المغرب كان أيضا إعادة لمحمد الخامس إلى سدة الحكم بدلا من ابن عمومته محمد بن عرفة الذي قلّده الاستعمار وحلفاؤه من أعيان وباشاوات المغرب السلطة عبر “بيعة إذعان” رفض المغاربة الاعتراف بها، بينما كان تسلّل الاستعمار إلى المغرب قد جرى بسبب التصدعات الداخلية للبيت السلطاني. بدأ هذا التسلّل مع نشوب الخلافات بين ستة إخوة ممن خلّفهم السلطان مولاي الحسن الأول (1836-1894) الذي قال التاريخ إنه جعل عرشه فوق حصانه وتمكّن من الحفاظ على استقلال ووحدة المملكة في وقت كانت تقع فيه بين فكي كماشة طاحنة هما الاستعمار الأوروبي والتهديد العثماني في النصف الثاني من القرن الـ19.
حماية فرنسية لعرش ضعيف لم يكن الخاتم السلطاني الذي وُضع في مدينة فاس يوم 30 مارس/آذار 1912 على وثيقة معاهدة الحماية إيذانا بنهاية الصراع مع قوى استعمارية، بل حسما لصراع آخر بين أبناء البيت الواحد. كان “مولاي عبد الحفيظ” يوم توقيع معاهدة الحماية على مرمى حجر من نيران حكومة مؤقتة يقودها أخوه زين العابدين الذي بويع قرب مدينة مكناس، وانطلق يزحف على عاصمة المملكة حينها مدينة فاس التاريخية، في خاتمة حزينة لصراع طويل بين الإخوة على الحكم. قبل ذلك، كان الفرنسيون قد مدّوا نفوذهم وتغلغلوا في أوصال الدولة المغربية بعد إنهاكها في حرب مولاي عبد الحفيظ ضد أخيه السلطان مولاي عبد العزيز. وهذا الأخير خرج -بعد حرب طويلة مع تمرّد أخيه عبد الحفيظ الذي كان في الأصل ممثلا له في مدينة مراكش- من عاصمة مملكته فاس معوّلا على دعم فرنسي موعود، وتركها دون قوة عسكرية كافية للدفاع عنها ومواجهة أي تحرّك من سكّانها. “ومهما كان الاعتقاد، فإن الذين أشاروا على السلطان بالخروج من عرينه قد تسببوا في انحراف قطار مولاي عبد العزيز عن سكته” وفقا للمؤرّخ علال الخديمي.[2] لقد كان كبار أعيان الدولة المغربية وعلماؤها قد طعنوا في صحة البيعة التي حصل عليها عبد الحفيظ في مراكش كسند للتمرّد على أخيه السلطان عبد العزيز، لكنّهم وبعد تحالف هذا الأخير مع الفرنسيين، لم يجدوا حرجا في نقل البيعة إلى أخيه المتمرّد، باعتباره “سلطان الجهاد” كما تقول كتابات المؤرخين. هذه البيعة التي يعتبرها بعض الدارسين حاملة لما يشبه أول دستور مغربي بالمعنى العصري الذي يفيد التوافق بين الحاكم والمحكومين على شروط متبادلة؛ نصّت على التزام مولاي عبد الحفيظ بمقاومة الاحتلال الزاحف على أطراف البلاد، حيث كانت القوات الفرنسية قد اخترقت أراضي المغرب شرقا انطلاقا من الجزائر المستعمَرة منذ بداية القرن الـ19، وغربا عبر مدينة الدار البيضاء التي دخلها الفرنسيون تحت وابل من القصف المدفعي. ونصّت “البيعة الحفيظية” على شروط صارمة من جانب المبايِعين تجاه السلطان، ويصفها البعض بالبرنامج الإصلاحي الشامل الذي ينص على:[3] – إلغاء معاهدة الجزيرة الخضراء التي قبلها المغرب مكرهاً (عبارة عن ميثاق صدر عام 1906 بعد مؤتمر دولي ضم 12 دولة أوروبية والولايات المتحدة الأمريكية لتقاسم النفوذ في المغرب تمهيدا لاحتلاله). – استعادة المناطق المحتلة. – وضع حد للحمايات (نوع من الحصانة كان يتمتع به رعايا بعض الدول الأوروبية داخل المغرب). – إلغاء المكوس (ضرائب جديدة فرضت تحت ضغط القوى الأوروبية). – تقوية مبادئ الإسلام. – إلغاء الامتيازات الأجنبية. – إصلاح التعليم. – الدعوة إلى استشارة السكان في كل ما يتعلق بالعلاقة مع الأجانب.
فخّ فرنسي في طريق السلاطين كانت طريق مولاي عبد الحفيظ نحو الخروج من الحكم في المغرب من بابه الضيّق مفروشة بتقاعسه عن “الجهاد” الذي كان بصدد القيام به في منطقة الدار البيضاء ضد الغزو الفرنسي، وذلك بمجرد حصوله على البيعة. فرغم إظهاره الرغبة في صدّ الفرنسيين، فإن مولاي عبد الحفيظ كان يميل أكثر إلى فتح باب التفاوض للتفاهم معهم قصد إرضائهم مقابل تثبيته في الحكم، وهو ما عبّر عنه كاتب السلاطين حينها محمد الغالي السنتيسي في كتابه المخطوط “الدرر اللفظية في المملكة الحفيظية” بالقول: سيدنا المؤيدة أعلامه، المفعمة بالنصر لياليه وأيامه إلى الآن؛ لم يعقد معهم حربا بقاعدته المعلومة، ولا استنفر أحدا للجهاد بمراسمه المرسومة.[4] بعد عودته إلى فاس عاصمة الحكم بالمغرب إلى ذلك الحين، أخذ مولاي عبد الحفيظ يبحث عن اعتراف دولي بشرعية سلطته، واجتهد في إيفاد السفارات والمراسلات مع القوى الدولية. لتنطلق في يناير/كانون الثاني 1909 أولى المفاوضات مع الفرنسيين، ويتم التوصل إلى اتفاق بجلائهم من منطقة “الشاوية” دون أن يشمل ذلك مدينة الدار البيضاء، وهي النقطة التي أخرت التصديق على الاتفاق، لتنتقل المفاوضات بعد ذلك إلى باريس. هناك في العاصمة الفرنسية، أصرّ الطرف القوي على ربط مسألة الجلاء والحدود بالمسائل المادية، أي ربط ذلك بدفع الديون المتراكمة والتعويض عن مصاريف الاحتلال، بينما كان عبد الحفيظ يحاول تجاوز هذه الضغوط عبر اتصالات مع كل من ألمانيا وإيطاليا وتركيا من أجل الحصول على مساعدتهم، لكنه لم يفلح إلا في شراء بعض الأسلحة الألمانية. توالت التدخلات العسكرية لجيش الاحتلال في عدد من المناطق المغربية بذريعة ملاحقة بعض القادة المقاومين المغاربة، وعادت عدد من القبائل في أحواز فاس ومكناس للانتفاض ضد “المخزن” الحفيظي. وبقدر ما كان تمرّد القبائل المغربية يضعف شرعية وسلطة مولاي عبد الحفيظ، بقدر ما كانت فرنسا تستثمر ذلك للدفع بقواتها أكثر داخل البلاد مدّعية حماية مصالحها في ظل ضعف السلطة المركزية، وكانت ثورة القبائل المحيطة بالعاصمة فاس فرصة الفرنسيين للتدخل من أجل إخمادها ومحاصرة السلطان الضعيف داخل قصره، ومن ثم فرض معاهدة الحماية عليه. السلطان مولاي عبد الحفيظ
القبض على السلطان عندما بدأت المفاوضات الألمانية الفرنسية على مصير المغرب، رأى عبد الحفيظ أن يستبق ما ستسفر عنه ويتوصّل إلى اتفاق ثنائي مع فرنسا، فتقدّم بمذكّرة تحتوي على الشروط التي يرى أن التعاون المغربي الفرنسي يجب أن يسير عليها، وتسلّم الجانب الفرنسي تلك المذكّرة يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 1911، وتضمّنت مطالب خصوصية تتعلّق بمصالح الأسرة الملكية وأملاك السلطان الخاصة ومستقبله، وأخرى تهمّ عموم الشعب ومصالح الدولة المغربية. استمرّت المفاوضات الثنائية المغربية الفرنسية ليخضع عبد الحفيظ في النهاية لإملاءات الفرنسيين، ويوقّع معاهدة الحماية في 30 مارس/آذار 1912. يقول المؤرخ زكي مبارك “لقد رضخ السلطان تحت ضغوط بعض أعضاء حكومته وعناد المندوب الفرنسي الذي تشبث بنص المعاهدة كما أعدتها حكومته”. إلا أن مولاي عبد الحفيظ -حسب مبارك- رفض التوقيع على المعاهدة إلا بعد أن تتعهد له الحكومة الفرنسية كتابةً بقبول الشروط الآتية:[5] – حقه في التنازل عن العرش. – ضمان وضعية لائقة بشخص السلطان وذلك بوضع مبلغ 500 ألف فرنك في البنك المخزني تحت تصرفه الخاص. – تتعهد الحكومة الفرنسية بحماية السلطان وعائلته وبضمان معاش مناسب له إذا اختار التنازل عن العرش. كما تنص المعاهدة التي شرعنت فرنسا بواسطتها وجودها في المغرب؛ على اعتراف “صاحب الجلالة الشريفة” للحكومة الفرنسية بالحق في “نشر قواتها العسكرية على التراب المغربي، كما تعتبرها مهمة للحفاظ على أمن وسلامة المبادلات التجارية وتدبير الشؤون الأمنية على البر وفي المياه المغربية”[6]. وفي مقابل ذلك، تعهّدت فرنسا “بمساندة صاحب الجلالة الشريفة ضد كل خطر يمس شخصه الشريف أو عرشه أو ما يعرض أمن بلاده للخطر. على أن تشمل المساندة أيضا ولي عهده وسلالته”. السلطان مولاي يوسف بن الحسن (يسار)
عهد اليد المطلقة رحل عبد الحفيظ عن البلاد في يونيو/حزيران 1912، ونصّبت فرنسا أخاه يوسف سلطانا للمغرب، وشكّل عهد هذا الأخير الذي استمر إلى غاية وفاته عام 1927؛ عهد اليد الفرنسية المطلوقة في المغرب، حيث كان يكتفي بتوقيع الظهائر التي تعدّها الإقامة العامة الفرنسية، وهذا جسّد بالنسبة للفرنسيين نجاحا باهرا نظير حُكم المغرب عبر ملك ضعيف ومنقاد لها بشكل مطلق. يقول الصحفي الذي رافق جزءا من قادة الحركة الوطنية المغربية المنتمية إلى حزب الاستقلال عبد الكريم غلاب: كان وجهه جميلا محاطا بلحية كثة تميل إلى الحمرة، وبجسم ممتلئ في قليل من الطول، وفي صحة جيدة في ما يبدو للناظر، يلبس جلبابا وسلهاما أبيضين، ورأسه محاط بشاشية حمراء تعصبها عمامة بيضاء. وكان عبد الكريم غلاب الذي توفي صيف 2017، خلّف مذكرات يصف فيها مشاهد رؤيته للسلطان مولاي يوسف خلال بعض الاحتفالات الرسمية التي كانت تشهدها مدينة فاس بالقول: رأيته يسير بخطوات وئيدة، يبتسم ابتسامة عريضة للمتفرجين الذين يقفون هادئين صامتين كأن على رؤوسهم الطير. لم يكن أحد آنذاك يهتف للسلطان، الهدوء يجعل من الموكب -الذي يحضره المقيم العام الماريشال ليوطي- كأنه موكب جنائزي.[7] بحث الفرنسيون يومها بين أبناء السلطان المتوفين فوجدوا أصغرهم وأقلهم معرفة بالسياسة ودواليبها الشاب محمد الذي كان بالنسبة للمحتلين أكثر إخوته قابلية للانقياد، فقاموا باختياره وريثا للعرش وأنجزوا له طقوس البيعة الشرعية. لكن ما لم يضرب له الفرنسيون حسابا هو أن هذا السلطان الشاب استهويه أفكار أقرانه الوطنيين الرافضين لاستمرار وضعية الخضوع المغربي للحماية الفرنسية، وذلك بعدما راكموا من المعرفة والعلم من مختلف جامعات العالم مما فتح أعينهم على حقائق التاريخ وحسابات السياسة.
سلطان المقاومة ولد محمد الخامس بن السلطان مولاي يوسف يوم 10 أغسطس/آب 1909 في مدينة فاس المغربية، وهو أصغر إخوته الثلاثة. قضى طفولته في القصر الملكي بفاس التي كانت عاصمة للبلاد قبل أن يتم الانتقال إلى الرباط التي أصبحت عاصمة للمغرب، وتربى في أجواء التنشئة التقليدية المحافظة للأمراء.[8] تلقى محمد الخامس في طفولته تعليما عربيا تقليديا، تركز أساسا على التربية الدينية ودروس اللغة العربية طبقا للمناهج التقليدية. وتخللت الدروس مبادئ أولية في اللغة الفرنسية. ويعلل المؤرخ البريطاني روم لاندو هذا التكوين التعليمي البسيط لمحمد الخامس بكونه لم يكن يحضّر لتولي العرش بوصفه أصغر الأبناء. فخلال فترة المرض الذي أودى بالسلطان، كان ابنه إدريس يستعد لخلافة والده تكريسا لعرف تولية أكبر الأبناء، لولا أن الإقامة العامة للحماية الفرنسية كان لها رأي آخر تَقاسمه معها أيضاً “الصدر الأعظم” القوي آنذاك محمد القري. ورغم معارضة بعض الأعيان والفقهاء لهذا القرار، فان إرادة الأقوى سادت وأُعلن الأمير محمد بن يوسف ذو الـ18 عاما، سلطانا على المغرب يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1927. في بداية عهد محمد بن يوسف، أخذت جذوة المقاومة الوطنية تشتعل من جديد، حيث كانت إحدى كبرى المعارك التي جرت في عهده هي ما يعرف بـ”الظهير البربري”، والذي نجحت الإقامة العامة الفرنسية في تمريره مع ما يتضمنه من مقتضيات تُخرج القبائل الأمازيغية للمغرب من سلطة الملك ونفوذ القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية، وذلك تمهيدا لتفتيت المغرب وإضعاف تماسكه الداخلي. وكان للثورة الشعبية العارمة -التي هزّت المغرب حينها رفضا لهذا الظهير وإعلانا للتمسّك بالوحدة والمرجعية الإسلامية- أثر حاسم في توجّه محمد بن يوسف نحو الانخراط في مسار المقاومة الوطنية، حيث “أخذ منها العبرة الأولى إذ حزم أمره على سياسة أخذ يسلكها تدريجيا منتهجا لها كل فرصة مواتية ليتطور بها ويزيد معالمها إبرازا وتبيينا”.[9]
بداية التمرّد تنامت الروابط بين السلطان الشاب وقادة الحركة الوطنية تدريجيا، وبات في أواسط الأربعينيات يتقدّم المشهد ليقود العمل الوطني إلى جانب مؤسسي الحركة الوطنية، وذلك من خلال دعمه لائحة المطالب الإصلاحية التي رفعها الوطنيون المغاربة في مواجهة فرنسا عام 1944، كما قام في أبريل/نيسان 1947 بزيارة -تعتبر تاريخية ويحتفل المغاربة بذكراها إلى اليوم- إلى مدينة طنجة التي كانت القوى الدولية تُخضعها لوضع خاص خارج السيادة المغربية، وهو ما كان يشير إلى عزم المغاربة على استعادة استقلالهم كاملا. وفي بداية الخمسينيات، عرضت فرنسا على السلطان محمد بن يوسف مجموعة مراسيم جديدة كي يوقّع عليها لتتحوّل إلى قوانين، وكانت تلك الوثائق تنص على تغييرات كبيرة تجعل الفرنسيين -وخاصة منهم المستوطنين الذين هاجروا من بلادهم إلى المغرب- يقتسمون سلطة الحكم المباشر للمملكة بدل نظام السلطة المزدوجة التي كانت قائمة بمقتضى معاهدة الحماية، أي حكومة السلطان المغربي إلى جانب “إقامة عامة” فرنسية.[10] أعلن محمد بن يوسف حينها “تمرّده” على الإملاءات الفرنسية وأضرب عن التوقيع، ليشتد الصراع بين السلطان محمد بن يوسف المتحالف مع الوطنيين، وبين الاستعمار وحلفائه من كبار الأعيان المحليين. ويروي عبد الصادق الكلاوي في كتابه عن والده باشا مراكش الشهير، كيف أن محاولة أولى لعزل السلطان جرى التحضير لها عام 1951، لكن الفرنسيين سرعان ما تراجعوا. فصعوبة الأمر كانت قد برزت منذ العام 1950، وذلك حين بادر كبار القادة التقليديين الذين ورثوا نفوذا يشبه الإقطاع في التاريخ الأوروبي، إلى مطالبة الفرنسيين بعزل السلطان لأنه بات يتقرّب من الوطنيين ويُعقّد تنفيذ السياسات الاستعمارية التي تخدم المستوطنين وحلفائهم المحليين من كبار الأعيان يتقدمهم باشا مراكش القوي التهامي الكلاوي. المحاولة الثانية في أغسطس/آب 1953 وكانت أكثر فعالية، “خصوصا عندما نُقل محمد بن عرفة (الذي عُين سلطانا جديدا من طرف الفرنسيين) من مدينة فاس التي كان يسكنها مهمَلا بحومة عقبة السبع؛ إلى مدينة مراكش التي شهدت اجتماعات الباشا الكلاوي ومن معه من العملاء والخونة بإشراف رجال الإقامة العامة منذ يوم 13 أغسطس/آب 1953 إلى يوم 19 من الشهر نفسه”.[11] عيّن الفرنسيون السلطان الجديد، ونقلوا محمد بن يوسف إلى جزيرة كورسيكا في البحر المتوسط، ثم إلى جزيرة مدغشقر القصية في مياه المحيط الهندي. لكن، ما إن دخل ابن عرفة قصر الرباط حتى اضطر للخروج منه ملاحَقا بلعنات الجماهير، حيث تم نقله إلى مدينة فاس خوفا عليه من الاضطرابات الشعبية. سيدي محمد بن مولاي عرفة
ثورة لاستعادة الشرعية امتدت أشكال المقاومة الوطنية للاستعمار الفرنسي بعد ذلك لتشمل مقاطعة المغاربة استهلاك السجائر الفرنسية، “واعتزم الوطنيون توسيع ذلك القرار ليشمل حتى السكر والحليب”. كما عمد الفلاحون المغاربة إلى الكف عن استعمال الآلات الحديثة التي تأتي بها فرنسا، وعمدوا كذلك إلى إحراق محاصيلهم الزراعية، “وتقول تقارير استخباراتية إن عمليات إحراق المحاصيل قد تمتد قريبا لتشمل أراضي المستوطنين”.[12] استمرّت الثورة عامين كاملين طبعهما الغليان والمواجهات والتضحيات الشعبية، وانتهت برضوخ فرنسا للمطالب المغربية ودخولها في مفاوضات مع الوطنيين، ليكون أول المطالب وقبل الحديث عن أي من صيغ إنهاء معاهدة الحماية بين المغرب وفرنسا، عزل السلطان البديل وعودة السلطان الشرعي إلى عرشه، ثم التفاوض معه على تفاصيل الاستقلال.
الاستعمار بين فكي كماشة وتحت ضغوط الثورة المغربية التي وحّدت لأول مرة المدن والبوادي في أشكال متنوعة من المقاومة جمعت بين الحرب المباشرة في القرى والعمليات الفدائية في الحواضر؛ بعثت فرنسا وفودا للتفاوض مع محمد بن يوسف في منفاه القصي في جزيرة مدغشقر في أقصى جنوب القارة الأفريقية، ثم دعت ممثلي الوطنيين إلى منتج “إكس ليبان” الفرنسي لتعرض عليهم مخططا إصلاحيا يستجيب لمطالبهم. أصبحت فرنسا بين فكي كماشة مغربية، أي السلطان محمد الخامس الرافض لأي تنازل أو مساهمة في دعوة المغاربة إلى التهدئة قبل إيقاف العمليات الإرهابية للمستوطنين الفرنسيين من جهة، والوطنيين المغاربة الرافضين لأي تفاوض قبل عودة السلطان الشرعي. يقول الراحل محمد بن يوسف في خطاب 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1955 الذي كان بمثابة إعلان رسمي للاستقلال: الآن وقد تجلت أهدافنا، يجب عليكم أن تتمسكوا بحبل الإخاء وتتجنبوا ما يؤدي إلى التفرقة والبغضاء، إذ لا نجاح يرجى إلا بصفاء القلوب وتوحيد الصفوف، حتى نكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
[2] الخديمي علال، الحركة الحفيظية أو المغرب قبيل فرض الحماية الفرنسية، الوضعية الداخلية وتحديات العلاقات الخارجية 1894-1912، دار أبي رقراق، الرباط، 2009.
الأمير علي باي.. رحلة جاسوس إسباني من قصر سلطان المغرب إلى مكة بمناظر تصويرية غاية في الروعة والجمال، وجودة تقنية عالية في الصوت والصورة، ووجوه فنية رفيعة تنحدر من بضع دول أوروبية إلى جانب المغرب، استرعى المخرج المغربي سهيل بن بركة انتباه عشاق السينما نهاية سبتمبر/أيلول 2019 بعروضه ما قبل الأولى لفيلمه الجديد “من رمل ونار.. الحلم المستحيل”. ليست عودة المخرج السينمائي القدير إلى مزاولة إبداعه خلف الكاميرا، ولا ضخامة الإنتاج وسحر “المقبلات” التي قُدّمت للمتابعين منذ انطلاق تصوير هذا الفيلم الجديد قبل بضع سنوات.. ليس ذلك كله ما أثار انتباه الجمهور بقدر ما كان وقع القصة المنبعثة من رماد الماضي القريب لذلك الجاسوس الإسباني المسيحي الذي اندسّ في قصر السلطان المغربي المسلم “سليمان بن محمد” على مدى أكثر من عامين في بداية القرن الـ19، ونجاحه في إيهام الدولة المغربية وبعدها عدد من الحكام والدول العربية بشخصيته المنتحلة كأمير عربي منحدر من سلاسة الرسول صل الله عليه وسلم.
اكتشاف جديد للجاسوس
بمشهد صاخب يظهر فيه البطل الذي جسده الممثل الإسباني الشهير “رودولفو سانشو” في شخصية الأمير علي باي وهو يتلقى رسالة من حكام إسبانيا يدعونه فيها إلى وقف مهمته التجسسية والعودة إلى الديار فتنتابه هستيريا الغضب والتكسير؛ حمل المخرج سهيل بن بركة جمهور عروضه الأولى المخصصة لنخبة من الضيوف والصحفيين على الاقتناع بأنهم على موعد مع عمل سينمائي كبير. “هي قصة جاسوس إسباني بُعث إلى المغرب لإسقاط السلطان مولاي سليمان المتحالف مع بريطانيا من أجل جبل طارق، وإلى جانب القصة المركزية يصوّر الفيلم قصة لقاء البطل ببريطانية أحبته بجنون، والتي انتقلت بدورها إلى سوريا وأسلمت”.. هكذا لخّص ابن بركة قصة فيلمه الجديد في بداية أحد عروضه التي سبقت خروج الفيلم إلى القاعات مع بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول 2019. في حديث أدلى به لوكالة الأنباء الفرنسية في مايو/أيار 2017 أثناء لحظات استراحته في أحد مواقع التصوير، قال المخرج سهيل بن بركة متعجبا: غريب جدا أنه لم يُعدّ أي فيلم عن علي باي حتى الآن[1]. أهم ما يُحسب للفيلم ومخرجه ومنتجيه هو وقع المفاجأة الذي خلّفه لدى الجمهور المغربي، والذي اكتشف لأول مرة هذه الشخصية التاريخية الحقيقية للأمير المزيّف الذي اخترق قصر السلطان المغربي ونفّذ جزءا من مخططاته وبلغ به الأمر حدّ الطمع في الانقلاب على السلطان وأخذ موقعه. يقول المخرج سهيل بن بركة “قرأت كتابه عن رحلته إلى المغرب، لم أجد فيه سوى أمور تافهة عن حياته في قصر السلطان، لكني بعد ذلك اكتشفت أهمية هذا الجاسوس الذي أرسله ملك إسبانيا كارلوس الرابع للإطاحة بالسلطان”[2].
“برشلوني” في مهمة خاصة
في أحد أعداد مجلة “دعوة الحق” الفكرية التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، نجد مقالة منشورة في عام 1971 بعنوان “الجاسوس المغامر.. علي باي العباسي بالمغرب”. يقول كاتب المقال في بدايته: لا يُعرف عن نشأته وتكوينه إلا أنه كان من طلبة جامعة بلنسية (Valencia) ، وأنه كان ذا إلمام بعلوم الرياضيات والفيزياء والفلك والطبيعيات، كما كان يتكلم بالإضافة إلى الإسبانية عدة لغات كالفرنسية والإيطالية والإنجليزية وحتى اللغة العربية التي تعلمها بمدريد[3]. وفي دراسة تعتبر من أهم ما كتب عن هذه الشخصية، نشرت مجلة الفكر العربي سنة 1988 سيرته المفصلة بقلم الدكتور الطاهر أحمد مكي بعنوان “أول رحالة إسباني يزور العالم العربي في مطلع القرن الـ19”. يستهل الكاتب دراسته هذه بالقول إنها “كان رحلة عجيبة، وكان رحّالة أعجب.. أما الرحلة فإلى العالم العربي في مطلع القرن الـ19 وبالتحديد بين عامي 1803 و1807. وأما الرحالة فإسباني تقمّص دور شخصية عربية وارتدى زيا شرقيا واصطنع لنفسه نسبا عباسيا، ومضى يطوف العالم العربي تحت هذا الستار”[4]. وتُجمع المصادر على شح المعلومات الخاصة بطفولة ونشأة هذا الجاسوس الإسباني، باستثناء كونه ترعرع في برشلونة. كما لم يثبت أنه صاحب تعليم أو مسار أكاديمي، غير أن أحدا لا ينكر أنه تميز بالذكاء وحب المعرفة والولع بالقراءة، والميل إلى دراسة الرياضيات والجغرافيا والعلوم الطبيعية[5].
حلم أفريقي
اختار المخرج السينمائي سهيل بن بركة أن يبدأ سيناريو فيلمه الجديد من لحظة تكليف الجاسوس الإسباني باختراق القصر السلطاني بالمغرب. تقول مجلة “دعوة الحق” إن “باديا” بلغ سن الرجولة في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، في وقت كانت الدول الغربية ومنها إنجلترا وهولاندا وإسبانيا وفرنسا تسعى حثيثا إلى ضبط الوسائل التي تتيح لها تثبيت أقدامها في المناطق الشرقية والأفريقية لترويج تجارتها وتنمية مواردها وفتح مجالات العمل لرجالها، فاشتاقت نفسه للأسفار وتاقت للمغامرات؛ فاقترح على حكومته أن يقوم برحلة استكشافية علمية وسياسية في الأصقاع الأفريقية وبوجه خاص في المغرب الأقصى. وتقوم الفكرة الأصلية لرحلة باديا على استكشاف كامل الصحراء الأفريقية التي تصل بين المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، والغاية من ذلك تمكين إسبانيا من طُرق تجارية مختلفة عن تلك التي تسلكها باقي القوى الاستعمارية الأوروبية عبر البحر[6]. هذا الحلم باستكشاف المناطق العميقة في الصحراء الأفريقية انطلاقا من المغرب، تُفصّله رواية الإسباني رامون مايراتا “علي باي العباسي.. مسيحي في مكة” التي ترجمها إلى العربية رفعت عطفة، وتُعتبر بمثابة سيرة واقعية تبيّن مقدار الشغف الذي كان يسيطر على هذا العسكري الإسباني لإقناع القائمين على الحكم في مدريد بقدراته العلمية وأهمية ما يمكنه أن يعود به من رحلة علمية تتطلّب الكثير من الأموال[7]. ويكشف مقال مجلة “دعوة الحق” الدور الحاسم الذي لعبه “غودوي ألفارو دي فاريا” وزير الملك شارل الرابع الملقّب بـ”أمير السلام”، حيث ساند مطالبه حتى تمكّن من الحصول على حاجته من مال وأدوات لينجز مشروعه. وجاء في المقال: كان من الأهداف التي وُكلت إليه الاتصال بعاهل المغرب مولاي سليمان ليلتمس منه أن يجعل تحت نفوذ إسبانيا مرسيين من المراسي المغربية الموجودة على المحيط الأطلسي، وأن يمنحها امتيازات تجارية خاصة مقابل وعد دولته بمساندته للقضاء على خصومه والمنشقين عنه[8]. ويضيف الكاتب المغربي صاحب مقالة “الجاسوس المغامر.. علي باي العباسي بالمغرب” في مجلة دعوة الحق، أن الوزير “دي فاريا” وجه “دومنغو باديا” للانتقال إلى خطة بديلة إذا لم يجد تفهما لدى مولاي سليمان، وهي التقرب من أنشط المنافسين له ليعرض عليه مساعدة إسبانيا، ويُحكم معه خطة الاستيلاء على العرش والقبض على مقاليد الحكم.
مسلم في باريس وعاشق في لندن
بدا الوزير “دي فاريا” في المشاهد الأولى من فيلم سهيل بن بركة شديد الحماسة للمهمة التجسسيّة، لكنه حرص على إخفائها عن الملك مكتفيا بتقديمها على أنها رحلة استكشافية علمية. ورغم أن بعض الكتابات تنسب فكرة انتحال شخصية “علي باي” إلى هذا الوزير الإسباني، فإن فيلم “من رمل ونار.. الحلم المستحيل” يؤجلها إلى المرحلة الفرنسية من خروج الجاسوس الإسباني بحثا عن عناصر تقمّص ناجح لشخصية العربي. هناك في باريس نضجت فكرة اتخاذ اسم “علي باي” كهوية جديدة سيعمل على صقلها في لندن التي توجه إليها بغايتين: الأولى هي التزود بأكبر قدر من الثقافة العربية على يد العارفين بها هناك، والثانية اقتناص آخر ما توصّلت إليه العلوم في مجال التنجيم وهو العلم الذي يستهوي السلطان المغربي سليمان بن محمد. لكن سيناريو الفيلم السينمائي الجديد يجعل من لندن محطة رئيسية في القصة الثانوية المكرسة لخدمة البعدين الدرامي والتجاري في الفيلم، أي لقاء “دومينغو باديا” المتقمص لشخصية الأمير العربي بـ”ليدي سوسي هيستر ستانهوب” الحسناء البريطانية التي سيجعلها المخرج سهيل بن بركة بطلة قصة حب حارقة مع بطله. وفي بعض النصوص التي خلّفها “دومنغو باديا” عن مغامرته الشيقة هذه، يُصرّ كثيرا ويؤيده في ذلك الكُتاب الإسبان الذين ألفوا حوله الروايات؛ على الطابع السفاري المحض لتجربته هذه، حيث يصرّ هؤلاء على أن الشق الجاسوسي منها لم يكن سوى وسيلة للتمويه على السلطات الإسبانية وإقناعها بتمويل الرحلة. فقد سافر دومنغو إلى إنجلترا صحبة مرافقه المقترَح، وهو المستعرب “سيمون دي روخاس كلِيمِنْت” الذي اتخذ لنفسه لقبَ محمد بن علي. وهناك خضع للختان في نيسان/أبريل 1803 كي يُمكنَه البرهَنة على إسلامه أثناء وجوده في المغرب؛ البلاد التي عبر إليها يوم 29 يونيو/حزيران 1803، ودخلها في اليوم ذاته[9].
“أمير” في طنجة
بعد تعريجه على المحطتين الباريسية واللندنية مستغلا فخامة القصور التاريخية والمشاهد الطبيعية الخلابة في تأثيث فيلمه بمشاهد جميلة؛ يوصِل المخرج المغربي سهيل بن بركة بطله إلى مدينة طنجة شمال المغرب، والتي عُرفت طويلا بطابعها الدولي المنفتح. هنا يبدو “دومنغو باديا” وقد استأنس بشخصيته الجديدة وبات مرتاحا في هندامه العثماني ومدرّبا على الحديث العربي الفصيح الذي تعلّمه خصيصا لهذه الرحلة. وفي الوقت الذي يركّز فيه الفيلم على الاتصال المباشر بين “علي باي” والسلطات المغربية في طنجة، يكتب الجاسوس الإسباني في إحدى وثائقه كيف عاد من لندن إلى إسبانيا في أبريل/نيسان من سنة 1803 ويقول: أبْحرتُ من طريفة على متن قارب صغير، وبعد عبور مضيق جبل طارق في أربع ساعات دخلتُ إلى ميناء طنجة في العاشرة صباحا يوم 29 يونيو/حزيران من السنة ذاتها، وهو الموافق ليوم الأربعاء 9 ربيع الأول من عام 1218 للهجرة[10]. يستعين فيلم “من رمل ونار.. الحلم المستحيل” باللغة البصرية ليوحي للمشاهد بفداحة التفوّق الحضاري الذي باتت تتسم به أوروبا في تلك المرحلة مقارنة بالضفة الإسلامية من البحر المتوسط. وعبّر الجاسوس “دومنغو” عن هذا الفارق الحضاري في مذكراته بالقول “إن غرابة إسبانيا عن المغرب تكاد تعادل غرابة فرنسا عن الصين”، وقال “إن المسافر لتلك المسافة القصيرة لفَرْسخيْنِ وثُلُثَي فرسخ -وهي أقصرُ مسافَةٍ بين الضفتين كلتيهما- فإنه يعثر على فرق عشرينَ قرنا”[11]. يروي دومنغو تفاصيل لحظة وصوله إلى الساحل المغربي، ويصف كيف “كان ملفوفا في جلباب ذي هيئة كيس خشن له قلنسوة، حافيَ القدمين وعاريَ الرِّجْلين، يحملُ في يده قصبة كبيرة”. وبعد ساعات من السؤال والجواب والتأكد من هويته وصحة وثائقه، أصبح “الأمير علي باي” القادم كما يزعم من سوريا ضيفا كبيرا على ممثلي السلطات المغربية[12]. يعلّق مقال مجلة “دعوة الحق” المغربية على أجواء وصول علي باي إلى المغرب قائلا: انفتحت أمامه الأبواب وابتسمت له الوجوه ولهجت الألسن بالثناء عليه؛ إذ كان سخي اليد مواظبا على تأدية صلواته بالمسجد، وكان يُطعم كل يوم 12 مسكينا. ويضيف الكاتب أنه وبعد حفاوة الترحيب المحلي، “استقبله السلطان مولاي سليمان عندما زار طنجة في شهر أكتوبر/تشرين الأول 1803، فقبّل علي باي يده، وقدم له هدية تشتمل على أنواع من البنادق التي تصلح للحرب والصيد، وقدم قطعا حريرية وعطرا ومظلا ملكيا جميلا، فعبر له الملك عن رضاه وغمره بعطفه، فتيسر له التجول بالمدينة وضواحيها والشروع في إنجاز مهمته العلمية، إذ أخذ يسجل دون أدنى تستر ملاحظاته عن ظواهر جوية وفلكية ويجمع عينات نباتية ومعدنية وغيرها”. رواية يصدّقها سيناريو فيلم “من رمل ونار.. الحلم المستحيل”، لكن مصادر أخرى تكاد تكذبها نافية أي لقاء بين الجاسوس الإسباني والسلطان المغربي في طنجة. وتقول المصادر النافية إنه أثناء إقامة علي باي في طنجة جاء السلطان مولاي سليمان مُكرها، وذلك لأن سفينة مغربية استولت على سفينة أمريكية فتدخل الأسطول الأمريكي لافتكاكها وأسر قائد السفينة المغربية وطالبوا بحضور السلطان شخصيا لإنهاء الموضوع من خلال تصديقه على المعاهدات المبرمة بين البلدين، وهو السياق الذي يعني أن مجيء السلطان إلى طنجة كان بغرض معين وفي سياق متوتر[13].
جاسوس في موكب السلطان
غادر مولاي سليمان طنجة في 12 أكتوبر/تشرين الأول 1803، وفي 25 من الشهر نفسه رحل عنها علي باي ليبلغ العاصمة مراكش في 25 مارس/آذار 1804، وكان الملك حينها يستعد لزيارة مدينة الصويرة وإقليم سوس لتثبيت الأمن ونشر السلام. جاء في مقال مجلة دعوة الحق: “كان الملك في مدة إقامته بمراكش يكرم الرجل العالِم الصالح ويستقبله بلين ويغمره بالهدايا، إذ أعطاه دارا واسعة بمراكش، وضَيعة ذات أشجار مثمرة، وخوّله جاريتين، إلا أنه حسب ما ورد في كتابه أبدى رغبته عنهما معتذرا بكونه نذر ألا يتزوج إلا بعد أداء فريضة الحج”[14]. اعتمد “باديا” على الإفراط في تضخيم الخطر الخارجي القادم من فرنسا وبريطانيا لترسيخ وجوده في المغرب، وكسب ثقة السلطان المتوجّس من جارته الشمالية إسبانيا التي فرغ لتوه من طردها من جل نقط تموقعها في سواحل المغرب[15]. مكث علي باي بمراكش نحو السنة، وتقول مجلة دعوة الحق إنه حاول مرارا أن يستدرج الملك إلى عقد اتفاق مع إسبانيا لتحصل على الامتيازات التجارية المذكورة، غير أن محاولاته باءت بالفشل، فعزم وهو في مهمة كلفه بها السلطان بالصويرة على مد اليد لشخصين متمتعين بنفوذ محلي ليشقا عصا الطاعة على الملك، وكاتَب رئيس الحكومة الإسبانية “غودوي” في الموضوع بواسطة ممثل إسبانيا بالصويرة. في رسالته إلى الوزير “غودوي” في منتصف مايو/أيار 1804 يقول باديا: كل الباشوات هنا خداميّ، وأنا سيد الإمبراطورية بالحب أو بالخوف والاحترام، وظهوري على رأس ثلاثة آلاف جندي يجعلهم يسارعون بتقديم التاج إلي، وأنا الآن أعتمد على عشرة آلاف، وقد أحتاج إلى معاونة القوات الإسبانية في سبتة؛ فأرسِلوا إليها ما ترونه ضروريا من قوات[16]. ظل “غودوي” محافظا على حماسته ودعمه الكبيرين لعلي باي، وحاول إقناع الملك كارلوس الرابع بالاستجابة لطلباته الواردة في مايو/أيار 1804 بالتحرك عسكريا في اتجاه مدينة سبتة، لكن الملك رفض الاستجابة لذلك خوفا من تحرك قوى أوروبية أكثر قوة من إسبانيا والاستحواذ على المغرب، خاصة منها فرنسا. فشل محاولة جلب الدعم العسكري الإسباني لقيادة الثورة جعل علي باي يفكر في استئناف رحلته الأصلية نحو العمق الأفريقي، فحصل على إذن من السلطان باختراق جبال الأطلس نحو الجنوب، وانضم إلى قوافل تجارية بالفعل، لكن باشا مدينة مراكش اعترض طريقه بعد تصاعد شكوكه في نوايا علي باي وأعاده إلى المدينة، فلم يبق أمامه من خيار سوى التوجه شرقا بمبرر الرغبة في أداء فريضة الحج. الممثل الإسباني الشهير “رودولفو سانشو” في شخصية الأمير علي باي
طرد الحاج دومنغو
وهو يستعد للقيام برحلة الحج التي تبدو في فيلم “من رمل ونار.. الحلم المستحيل” شديدة الارتباط بالرغبة في اللقاء بـ”باي” الجزائر والتحالف معه ضد السلطان المغربي؛ تحدث تطورات دولية متسارعة جعلت فرنسا وإسبانيا تتحدان لمواجهة بريطانيا التي لم تعد رحيمة بالأساطيل الإسبانية. وفي طريقه نحو الشرق حاملا معه رسائل من السلطان إلى كل من باي الجزائر وداي تونس؛ انكشف أمر علي باي وهو بالكاد يتجاوز مدينة فاس، حيث ازدادت شكوك رجال السلطان في حقيقة نواياه، فقرروا قطع الطريق عليه قبل وصوله إلى الجزائر، وتم توقيفه وصدر قرار السلطان بأخذه إلى السواحل الغربية وإجباره على مغادرة البلاد دون رجعة. ويبدو السلطان في أحد مشاهد الفيلم، وقد فاجأ حاشيته بقراره هذا، حيث استغربوا امتناعه عن قتله، لكنّه دافع عن موقفه بالقول إنه لا يريد منح “علي باي” شرف الشهادة، كما يعوّل على سلاح النسيان لإخراجه من التاريخ. بلغ علي باي مدينة “العرائش” في الساحل الغربي للمغرب في 17 أغسطس/آب 1805، وهناك أُرغم على التخلي عن خدمته وأسرته والمغادرة وحيدا مع إبلاغه رسالة صارمة من السلطان مفادها: اذهب ولا تعد. بعد أسابيع من الانتظار والإبحار، وصل علي باي إلى طرابلس الليبية في أكتوبر/تشرين الأول، وهناك عاود اللعبة نفسها، حيث تقمص دور الشخصية العربية المرموقة وربط علاقات مع علية القوم والتجار الأجانب، قبل أن يغادر في اتجاه الإسكندرية في يناير/كانون الثاني 1806، ولم يبلغ وجهته هذه في الديار المصرية إلا في مايو/أيار 1806، نظرا للصعوبات التي واجهتها السفينة واضطرارها للرسو لأسابيع في أحد الموانئ القبرصية.
إحياء الخطة في القاهرة
في طريقه من الإسكندرية إلى القاهرة أوهم علي باي من التقاهم بأنه مبعوث إسلامي خاص إلى الديار المقدسة في مكة، فكان يجد حفاوة في الاستقبال وترحابا كبيرا، وساوره حلمه القديم بالسيطرة على المغرب وكتب إلى صديقه الوزير “غودوي” داعيا إلى ذلك من القاهرة حين التقى أعدادا كبيرة من المغاربة الناقمين على حكم السلطان سليمان، خاصة منهم “مولاي سلامة” المطالب بالعرش المغربي لنفسه، وكانت بعض مناطق شمال المغرب قد أعلنته بالفعل سلطانا شرعيا عليها[17]. وقد ولّدت فترة إقامة “علي باي” في القاهرة أفكارا جديدة لديه هو وصديقه غودوي، منها محاولة فتح طريق تجارية جديدة بين إسبانيا والفلبين عن طريق مصر، وذلك في وقت كان فيه محمد علي في أوج سيطرته على الأراضي المصرية. ويستشف الدارسون للتاريخ في كتابات “علي باي” عن هذه المرحلة بروز ذلك التناقض المبكر بين تطلع محمد علي ومن معه إلى التحديث والتطوير على الطريقة الأوروبية، وصعود تيار ديني جديد يميل إلى الماضي وأمجاده، وهي بوادر صعود الوهابية. لقد تزامن وصول “علي باي” إلى أرض الإسلام مع أحداث جيوسياسية متسارعة، حيث كان الأوروبيون في ذروة تنافسهم قبل الخروج الاستعماري الكبير لاحتلال جزء شاسع من العالم، وضمنه الدول الإسلامية. وفيما يقتصر فيلم “من رمل ونار.. الحلم المستحيل” على جزء صغير من سيرة “باديا”، فإنه ومن خلال شخصية “علي باي” يكثّف الروائي الإسباني رامون مايراتا التحولات التي كانت تشهدها المنطقة العربية من صعود للتيار العربي في مواجهة الحكم العثماني، وصعود الوهابيين في شبه الجزيرة العربية التي صادف وجوده فيها خلال تأديته فريضة الحج، حيث مُنع هناك من زيارة قبر النبي ومن تناول القهوة. الفيلم يحكي قصة جاسوس إسباني بُعث إلى المغرب لإسقاط السلطان مولاي سليمان
مسيحي متنكر في مكة
انتقل باديا من مصر مباشرة إلى مكة لأداء فريضة الحج. ورغم أن مستكشفين أوروبيين آخرين زاروا مكة أو اقتربوا منها قبل علي باي، فإنه خلّف أكثر الوثائق والرسومات الجغرافية دقة عن تلك المرحلة. وبعد عودته من الحج، استقر في مصر أسبوعين ثم غادر نحو فلسطين، وخلّف عن تلك الزيارة وثائق ثمينة وصف فيها الكنيسة والخليل والناصرة.. وبعث تقارير عن حالة الرهبان الإسبان المقيمين في فلسطين. وبعد ذلك توجه نحو دمشق السورية، حيث لاحظ الدارسون أن تحركاته باتت تتسم بالسرعة وعدم الاستقرار في هذه المرحلة، وذلك نظرا إلى استشعاره تنامي شكوك محمد علي المعتمد على شبكة استخباراتية قوية في هوية هذا الزائر الغريب. يقول “دومنغو باديا” في أحد كتبه “أُلقيت مرساة مركبنا بحبالها في ميناء جدة بنجاح، وهو ما يعني نهاية تلك الرحلة البحرية”، واصفا مدينة جدة بأنها مدينة جميلة “بشوارع منتظمة وبيوت لطيفة ذات طابقين أو ثلاثة طوابق مبنية جميعها من الحجر، وإن كان بناؤها أقل متانة نوعا ما..”. فيما خلّف “باديا” كتابات ورسومات ثمينة عما شاهده في رحلة حجه، كما قدم وصفا دقيقا للأماكن الأكثر أهمية لدى المسلمين بما فيها الكعبة وقبر الرسول صل الله عليه وسلم.
عود على بدء
ورغم أنه كان يدّعي انحداره من أسرة حلبية، فإن المدققين في الوثائق التي خلفها “علي باي” ومراسلاته يلاحظون أنه لم يكتب شيئا عن حلب، ويرجح أنه توجه مباشرة من دمشق إلى إسطنبول (القسطنطينية)، وذلك مع تنامي مخاوفه من خطر الشكوك العربية في هويته، وتحديدا من جانب محمد علي. وأثناء إقامته في عاصمة العثمانيين، شهد التمرد الذي أطاح بسليم الثالث المنادي بالتحديث. ولم يحلّ يناير/كانون الثاني 1807 إلا وقد عبر علي باي الحدود العثمانية نحو النمسا، ومنها انتقل إلى ميونخ الألمانية حيث باغته المرض الذي أصابه أول مرة في مدينة مراكش، لكنه واصل مسيره نحو باريس ثم مدريد التي وصلها وقد نقلت تاج الملك من كارلوس الرابع إلى جوزيف الأول شقيق نابليون الذي أخضع إسبانيا لحكمه. وبينما تصوّر بعض المصادر مثل فيلم “من رمل ونار.. الحلم المستحيل” علي باي على أنه انتهازي براغماتي اختار الاصطفاف إلى جانب نابليون المنتصر، تقول أخرى إن ذهابه إلى فرنسا كان بطلب من كارلوس الرابع كي يكون “في خدمة” بلاده إسبانيا من داخل بلاط الإمبراطور نابليون. هناك في فرنسا، تؤكد المصادر أن باديا التقى الإمبراطور نابليون، رغم أنها تختلف في عدد اللقاءات. وهناك انتهز باديا الفرصة ليحصل على الدعم لنشر كتب رحلاته الاستكشافية، لكنه لم يفلح في إقناع نابليون بتنفيذ خططه القديمة للسيطرة على المغرب. وبعد تغيّر الأحوال السياسية في فرنسا إثر هزيمة نابليون وقيام ثورة جديدة ضده أعادت الملكية في شخص لويس الثامن عشر، يُبرز فيلم “من رمل ونار.. الحلم المستحيل” ما يُصرّ على أنه وجه انتهازي لباديا، حيث يظهر في أحد المشاهد منهمكا في تحضير كتاب إحدى رحلاته للنشر، فتصله أخبار انقلاب الأوضاع السياسية وانتقال الحكم من نابليون إلى لويس الثامن عشر، فيحذف الصفحة الأولى من الكتاب ويغير إهداء الكتاب الذي كان موجها لنابليون بإهداء آخر إلى الملك الجديد. “باديا” اعتمد على الإفراط في تضخيم الخطر الخارجي القادم من فرنسا وبريطانيا لترسيخ وجوده في المغرب
“أبو عثمان”.. اسم جديد في فرنسا
بعد عودة الرخاء والاستقرار إلى فرنسا، عاد باديا من جديد إلى مشاريعه القديمة، واقترح عام 1815 من جديد على وزير الخارجية الفرنسي التركيز على احتلال المغرب، مبررا ذلك بقرب المغرب مقارنة بأمريكا اللاتينية وسهولة استغلاله. والوصفة السحرية برأي باديا لاحتلال بلد مثل المغرب دون تحويل سكانه جميعا إلى مقاتلين بفعل الغزو المسيحي، كانت البحث عن أمير مسلم مستنير يقبل التنازل عن جزء من أراضي المغرب لدولة أوروبية هي فرنسا. واقترح “الجنرال باديا” (المشير باديا كما وقع الوثيقة) إيفاد أوروبي يتظاهر بالإسلام، ملمحا إلى استعداده القيام بالمحاولة من جديد. لكن الوزير الفرنسي لم يجاهر باديا في أحلامه، ولم يول أي اهتمام لهذه المقترحات[18]. وبعد محاولات عديدة لإقناع فرنسا بتمويل رحلة جديدة لاكتشاف طرق وأسواق مكة والقسطنطينية والهند وأفريقيا، خرج باديا مجددا من باريس عام 1817 وحمل هذه المرة اسما عربيا جديدا هو الحاج علي أبو عثمان، نسبة إلى ابنٍ رزق به أثناء إقامته في المغرب سمي عثمان. ومرورا بإيطاليا وصل “أبو عثمان” إلى القسطنطينية حيث حاول إقناع القنصل الفرنسي بدعم رحلته الجديدة، والتي كان الهدف منها دراسة جيولوجيا المنطقة العربية، وفي الوقت نفسه التمكن من اللقاء مجددا بالـ”ليدي” سوسي هيستر ستانهوب قريبة رئيس الوزراء البريطاني “ويليام بيت” التي شخصت دورها الممثلة الإيطالية كارولينا كريشنتيني، والتي انتقلت إلى المشرق عام 1810 وأقامت في قرية جوني اللبنانية، حيث سمح لها العثمانيون باتخاذ حراس مسلحين وبسط سلطتها على الجبل حيث تقيم ملقبة باسم “ميليكي”، وتقول الدراسات المتوفرة إن لقاءه بها لم يُكتب نظرا لوعورة الجبال والطرق المؤدية إليها. وفي دمشق ألمّ المرض مجددا بباديا، وتفاقمت نكبته بسرقة أحد خدامه لما كان بحوزته من أموال، فاضطر للخروج بما تبقى لديه في رحلة جدية نحو الحج منتصف شهر أغسطس/آب 1818، وسرعان ما باغته الموت قبل نهايتها، ليدفن على الطريقة الإسلامية في الجنوب الشرقي من الأردن[19]. كتب التاريخ تحمل عددا كبيرا من الروايات حول الجاسوس الإسباني
سُمّ الحب أم السياسة؟
اختار فيلم “من رمل ونار.. الحلم المستحيل” أن يتبنى رواية مقتل باديا على يد “ليدي سوسي هيستر ستانهوب” التي يقول سيناريو الفيلم إنه زارها وحين اكتشفت هويته الحقيقية دست له السم الذي قتله في طريقه نحو الحج. لكن كتب التاريخ تحمل عددا كبيرا من الروايات التي يلتقي جلها في دسائس القوى الأوروبية ضد بعضها البعض وتنافسها على اكتشاف الطرق المؤدية إلى أسواق ومستعمرات جديدة. وتُصرّ إحدى تلك الروايات على أن موت باديا مرتبط بخطته الأصلية لاحتلال المغرب، حيث كانت القوى الأوروبية كلها تعلم أنه يخفي تفاصيل الخطة على الجميع طلبا للحكم لنفسه. بل إن هناك من يعتقد أن باديا لم يمت في تلك الرحلة أصلا، بل هي مجرد خدعة جديدة منه انطلت على المؤرخين، حيث اختفى عن الأنظار مواصلا مغامراته بكل حرية.
20 أغسطس.. ثورة ضد فرنسا انتصارا لملك المغرب “أنا ملك المغرب الشرعي، ولن أخون الأمانة التي ائتمنني عليها شعبي الوفي المخلص، إن فرنسا قوية فلتفعل ما تشاء”. هذا الحديث لجد ملك المغرب الحالي السلطان محمد الخامس، يوم 20 أغسطس/آب 1953، وهو تحت تهديد فوهات الأسلحة الرشاشة للجنرال الفرنسي الذي جاء لمنحه الخيار الأخير: التوقيع على القوانين الفرنسية التي تُشرك المستوطنين في السلطة، أو العزل والنفي فورا خارج البلاد. كان الفرنسيون الذين احتلوا المغرب رسميا بموجب معاهدة لـ”الحماية” تم توقيعها عام 1912، قد عزلوا حتى ذلك اليوم ثلاثة سلاطين مغاربة، وظنوا بالتالي أن الأمر لن يكون أكثر من رقم إضافي في عدّاد الحكام المعزولين، لكن الوضع هذه المرة كان مختلفا، حيث تسبّب إقدام فرنسا على عزل ونفي السلطان محمد الخامس بثورة شعبية عارمة لم تهدأ إلا بعودته إلى البلاد في متم العام 1955 واستعادته العرش وإعلانه بشرى الاستقلال.
إذا كان التاريخ القديم والحديث للبشرية يربط الثورات الشعبية بالإطاحة بالملوك والحكام وإنهاء حكمهم، فإن هذه الثورة المتفردة مضت في الاتجاه المعاكس، حيث خرجت جموع المواطنين الغاضبين للتظاهر والعصيان وتنفيذ العمليات الفدائية، وفي مقدمة مطالبها جلاء الاستعمار وعودة الملك الشرعي.
من كورسيكا إلى مدغشقر
هو ليس مجرّد عيد وطني كباقي الأعياد، بل تكاد رمزيته وقيمته تفوق العيد الوطني الذي يتربع على عرش الأعياد في جلّ الدول، أي عيد الاستقلال. فهو ذكرى دخول جنرال من الجيش الفرنسي على رأس فرقة مسلحة من جنوده إلى القصر الملكي بالرباط، وخروجه منها مقتادا الملك والأمراء مدفوعين بفوهات الرشاشات بملابس النوم التي كانوا يرتدونها مباشرة نحو طائرة عسكرية نفت الجميع إلى جزيرة كورسيكا في أقصى جنوب فرنسا، وسط مياه البحر الأبيض المتوسط، ومنها نحو جزيرة مدغشقر المستعمرة الفرنسية السابقة في أقصى جنوب القارة الأفريقية. فما إن عمّ خبر إقدام السلطات الاستعمارية الفرنسية على عزل السلطان محمد بن يوسف ونفيه، حتى انتفض المغاربة وفجّروا غضبا غير مسبوق في وجه الاحتلال. كانت الخطوة الفرنسية إيذانا بانطلاق عملية تعبئة وتنظيم للعمل الفدائي من أجل المقاومة المسلحة داخل المدن، فكانت محاولة المقاوم علال بن عبد الله اغتيال السلطان المنصّب من طرف الاستعمار محمد بن عرفة يوم 11 سبتمبر/أيلول 1953 بالعاصمة الرباط، ثم انطلاق العمليات الفدائية في قلب مدينة الدار البيضاء ضد الأهداف الفرنسية وحلفائها بقيادة الشهيد محمد الزرقطوني، وتوسّع رقعة العمليات الفدائية تدريجيا، بطريقة استشهادية في المدن، وحرب العصابات في القرى والجبال، ليتوّج كل ذلك بتشكيل جيش التحرير شمال المغرب في أكتوبر/تشرين الأول 1955، أي قبل أيام قليلة من رضوخ السلطات الاستعمارية وإعادتها محمد الخامس إلى المغرب حاملا بشرى الاستقلال [1].
اجتمعت هذه المعطيات بعد انتهاء معركة الاستقلال، ليتفق قادة المقاومة وجيش التحرير مع الملك محمد الخامس صيف العام 1956، حين قام وفد منهم بزيارته في مصيفه الكائن إلى الجنوب من مدينة الدار البيضاء، ليطلبوا منه إقرار تاريخ 20 أغسطس/آب عيدا وطنيا باعتباره يخلد المقاومة والوفاء، فخرجوا من اللقاء بتأييد ملكي ومعه إطلاق اسم “ثورة الملك والشعب” على هذه الذكرى [2].
التمكين للمستوطنين وراء الأزمة
تعود جذور القصة إلى بداية الخمسينيات، حين عرضت فرنسا على السلطان محمد بن يوسف مجموعة مراسيم جديدة كي يوقّع عليها لتتحوّل إلى قوانين. وكانت تلك الوثائق تنص على تغييرات كبيرة تجعل الفرنسيين -وخاصة منهم المستوطنين الذين هاجروا من بلادهم إلى المغرب- يقتسمون سلطة الحكم المباشر للمملكة بدل نظام السلطة المزدوجة التي كانت قائمة بمقتضى معاهدة الحماية، أي حكومة السلطان المغربي إلى جانب “إقامة عامة” فرنسية.
ما جعل محاولة فرنسا عزل السلطان محمد بن يوسف مختلفة عن سابقاتها، أن هذا الأخير الذي أتى به الفرنسيون إلى الحكم بعد الوفاة المريبة لوالده، باعتباره أصغر إخوته سنا وأسهلهم في الإخضاع والانقياد، ربط منذ بداية الثلاثينيات علاقات جديدة بين القصر والحركة الوطنية التي أسسها مقاومون ومثقفون مغاربة رافضون للحماية الفرنسية الإسبانية المفروضة على المغرب. محاولة النفي الأولى صعوبة الأمر كانت قد برزت منذ العام 1950، حين بادر كبار القادة التقليديين الذين ورثوا نفوذا يشبه الإقطاع في التاريخ الأوروبي، يبادرون إلى مطالبة الفرنسيين بعزل السلطان لأنه بات يتقرّب من الوطنيين ويعقد تنفيذ السياسات الاستعمارية التي تخدم المستوطنين وحلفائهم المحليين من كبار الأعيان يتقدمهم باشا مراكش القوي التهامي الكلاوي. استمرت فصول هذا الصراع بين السلطان محمد بن يوسف المتحالف مع الوطنيين، وبين الاستعمار وحلفائه من كبار الأعيان المحليين. ويروي عبد الصادق الكلاوي في كتابه عن والده، كيف أن محاولة أولى لعزل السلطان جرى التحضير لها عام 1951، لكن الفرنسيين سرعان ما تراجعوا.
يقول عبد الصادق الكلاوي في كتاب “الأوبة” إن الفرنسيين “أكدوا له أن عزل السلطان سيتم، قبل أن يقع استدعاؤه في عز ليلة 24 ويتم إخباره بصوت مرتجف بأن السلطان لن يُعزل”، وأوضح أن المحاولة الثانية التي تمت في أغسطس/آب 1953 ستكون أكثر فعالية، “خصوصا عندما نُقل محمد بن عرفة (الذي سيعين سلطانا جديدا من طرف الفرنسيين) من مدينة فاس التي كان يسكنها مهملا بحومة عقبة السبع، إلى مدينة مراكش التي عرفت اجتماعات الكلاوي ومن معه من العملاء والخونة، بإشراف رجال الإقامة العامة منذ يوم 13 أغسطس 1953 إلى يوم 19 أغسطس..” وفقا لما ذكره المؤرخ عبد الكريم الفيلالي في كتابه “التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير” [3].
الوقائع بعين أمريكية
الأرشيف الأمريكي الذي رُفعت عنه السرية في السنوات الأخيرة، تضمن وثيقة مؤرخة في 17 يناير/كانون الثاني 1954، أعدت لحساب مجلس الأمن القومي الأمريكي، تقول إن فرنسا حضّرت بدائل أخرى لنفي محمد الخامس وجعله معزولا تماما عن الأحداث الجارية في المغرب. وتضيف الوثيقة أن باريس فشلت في انتزاع تنازل رسمي من محمد الخامس عن العرش، لكنها جعلته يلتزم بعدم انخراط أي من ابنيه في أي عمل سياسي، “لكن الجهود الفرنسية لخفض شعبيته في المغرب لم تنجح”. وفي وثيقة سرية أخرى تم إنجازها في بداية يونيو/حزيران 1954 ترصد فيها وكالة المخابرات الأمريكية الوضع الأمني بالمغرب، تقول إن الأنشطة “الإرهابية” -أي العمليات الفدائية التي ينفذها الوطنيون ضد المستعمرين- تصاعدت وتيرتها بشكل كبير، وذلك رغم الرد القاسي الذي قامت به فرنسا. وتشمل العمليات التي تصفها الوثيقة بالإرهابية؛ الاغتيالات والتفجيرات وإشعال الحرائق والتسبب في انحراف القطارات عن السكة وقطع شبكات الاتصالات. وتقول الوثيقة إن وتيرة العمليات تتجسد في ما معدله عملية فدائية كل يوم [4].
تثير الوثيقة الانتباه إلى تطور وقع في العمليات الفدائية، ويتجسد في استهداف المغاربة الموالين لفرنسا إلى جانب استهداف الفرنسيين. وتوضح الوثيقة أن هذه العمليات الفدائية كانت في البداية تتركز في المناطق الحضرية، “وخصوصا الدار البيضاء”، لكنها أخذت في الانتقال إلى المجالات القروية. كما تتوقف الوثيقة الاستخباراتية الأمريكية عند ما قالت إنها رصدته من تنام لمشاعر العداء للولايات المتحدة الأمريكية في صفوف المغاربة، لكونهم يعتبرونها حليفة لفرنسا. “فبسبب دعم الولايات المتحدة لفرنسا في الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1953، والدعم الأمريكي لفرنسا خلال عزل السلطان، تنامت مشاعر العداء ضد أمريكا”. وتضيف الوثيقة أن عمليات المقاومة لم تستهدف بعد القواعد الأمريكية في المغرب، “لكنْ هناك توجه متزايد لدى الوطنيين لربط الولايات المتحدة بالسياسات الاستعمارية لفرنسا” [5].
جنرال فرنسي يغزو قصر السلطان
صبيحة ذلك اليوم المشهود، أي 20 أغسطس/آب 1953، عاد الجنرال كيوم من فرنسا وانتقل فورا من مطار “النواصر” قرب مدينة الدار البيضاء إلى مدينة مراكش التي كان قد حلّ بها السلطان “البديل” محمد بن عرفة في اليوم السابق، وكان في استقباله الباشا التهامي الكلاوي، وبعد اجتماعهما عاد الجنرال كيوم إلى الرباط، حيث اتصل بالسلطان محمد الخامس المحاصر في قصره من طرف قوات عسكرية فرنسية، “ليكرر عليه النهيق المزعج باسم المراسيم، وهذه المرة بطريقة تختلف نغمتها عن السابق، فكان وكأنه يخاطب عدوا وليس العاهل الذي ساهم في إنقاذ فرنسا من ذل الألمان الذين كانوا بالأمس يوجهون الصفعات إلى وجه كيوم وأمثاله” كما يروي المؤرخ الفيلالي الذي كان شديد القرب من محمد الخامس لدرجة كان معها هذا الأخير كما لو كان ابنا له [6]. في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، رفعت السلطات الأمريكية في السنوات القليلة الماضية السرية عن عدد من الوثائق الحساسة التي تضمنت وصفا دقيقا لما جرى في المغرب في تلك الحقبة التاريخية.
ففي وثيقة تم نشرها تحمل تاريخ 14 أغسطس/آب 1953، أي قبل أسبوع واحد من نفي فرنسا لمحمد الخامس، يقول مكتب الاستخبارات الراهنة التابع لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، إن الخلاف الطويل بين السلطان والباشا الكلاوي قد جرى اقتراح حلّه من خلال إقامة دولتين منفصلتين، واحدة يرأسها السلطان محمد بن يوسف، والثانية يرأسها الباشا الكلاوي. وقد صدر هذا الاقتراح بالفعل -حسب الوثيقة الأمريكية- عن الإقامة العامة الفرنسية بالمغرب، “وليست هناك أية مؤشرات على احتمال قبوله في باريس” [7]. وبعدما يئست فرنسا من خضوع محمد الخامس لضغوطها الرامية إلى حمله على توقيع القوانين الجديدة، خاطبه المقيم العام الفرنسي الجنرال كيوم، قائلا “إن حكومة فرنسا لم تعد مسؤولة عن حماية محمد الخامس وأسرته كما تقضي بذلك معاهدة الحماية”.
وجها لوجه
المصادر الفرنسية التي توثق لتلك المرحلة تقول إن كيوم اتصل هاتفيا بوزير الخارجية جورج بيدو، ثم قال له بالحرف “إن جواب السلطان هو لا مطلقا”. فأجابه بيدو “اطلبوا منه أن يتنازل لابنه الثاني، واحذروا أن يلجأ إلى المنطقة الإسبانية، وإذا رفض أبعدوه بالطائرة إلى جزيرة كورسيكا” كما ينقل المؤرخ عبد الكريم الفيلالي في كتابه حسبما تضمنه قبله كتاب “مأساة سلطان مراكش” لعبد المجيد بنجلون، وكتاب “عش الزنبور” من تأليف كلود بايار. ويتساءل د المؤرخ الفيلالي في كتابه ثم يجيب “لكن لماذا الابن الثاني كما يقترح بيدو؟ لأن الأول وهو ولي العهد كان وقتها على سنن والده، ولأن الأمير عبد الله وقتها كان في سن الطفولة بعيدا عن السياسة”. ما إن سمع الجنرال الفرنسي أمر وزير الخارجية حتى اصطحب فرقة من العسكريين في مقدمتهم “دوتهيل” الذي كان مديرا للأمن، ويرجح أنه من أشار على كيوم بأن يكون الهجوم على القصر وقت القيلولة، وتحديدا الساعة الثانية والنصف بعد الزوال. وبعد تطويق القصر الملكي بالرباط بالدبابات العسكرية وقطع خطوط الاتصال عنه وجعل السلطان ومساعده في حالة عزلة تامة، ظهر رتل من 12 دراجة نارية يركبها جنود فرنسيون يحيطون بسيارتين، في الأولى كان يركب كل من الجنرال دوفال ودوتهيل عميد الشرطة مدير الأمن الإقليمي، وفي الثانية كان يركب المقيم العام الفرنسي الجنرال كيوم وبرفقته ضابطان وجنود كلهم مسلحون. بعد وصول هذا الموكب العسكري إلى بوابة القصر، احتل الضباط والجنود المرافقون للجنرال الفرنسي الساحة الأولى، ثم طوّقت مجموعة أخرى من كان في المكان من أفراد الحرس الملكي وجردوهم من السلاح، ثم جرى جمع أعوان القصر مع إرغامهم على الوقوف صفا مع إدارة وجوههم إلى الحائط، فيما انتشر الجنود المسلحون على أبواب القصر بعد تلقيهم أوامر بإطلاق النار على كل من يقوم بحركة مشبوهة.
وبعدما كانت زياراته للقصر الملكي تنضبط بقواعد البروتوكول والاحترام الواجب للملك، اتجه الجنرال الفرنسي فورا نحو مكان محاضرة محمد الخامس وأبنائه كما يروي المؤرخ عبد الكريم الفيلالي: “تقدم المقيم وقد بدت عليه علامة الرعب الواضح من ملامح وجهه ونظراته وهو يتقدم نحو العاهل الذي لم يغادر المقعد الجالس عليه، وإذا ما تقدم كيوم خطوات من غير أن يطأطئ رأسه وينحني كالعادة، فإنه وقف ليقول موجها الخطاب إلى العاهل الذي كان شبه غير مهتم، ويتجه ببصره تارة بعد أخرى نحو “المشور” (باحة القصر) الذي تحول إلى معسكر”.
تهديدات إسبانية
تقدم وثيقة أخرى من الأرشيف الأمريكي معطيات وتفسيرات للصراع الفرنسي الإسباني، حيث كانت الدولتان الأوروبيتان تتقاسمان استعمار المغرب. تقول هذه الوثيقة الاستخباراتية إنه عندما قامت فرنسا بعزل السلطان محمد الخامس في 20 أغسطس/آب 1953، “أعلنت إسبانيا بشكل غير رسمي أن هذه الخطوة خرق أحادي الجانب لاتفاقية 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1912 التي أقامت الحماية الإسبانية في المغرب. وفي المقابل رفضت الاعتراف بخليفته محمد السادس”، كما تورد الوثيقة في إشارة إلى محمد بن عرفة [8]. وكشفت الوثيقة نفسها تهديدا إسبانياً صدر حينها، بخلق مملكة مغربية منفصلة عن المنطقة الفرنسية، “ورددت الصحافة المراقبة من طرف مدريد ذلك كثيرا منذ شهر أغسطس الماضي”. وأوضحت الوثيقة أن اجتماع 600 من الوطنيين المغاربة المقربين من إسبانيا في مدينة تطوان (شمال المغرب) يوم 20 يناير/كانون الثاني 1954، هو استعراض أمام الرأي العام بهدف إدانة السياسة الفرنسية، وإبراز السياسة الإسبانية، وتجديد البيعة المقدمة للسلطان المعزول محمد الخامس، والمطالبة بفصل الحماية الفرنسية عن بقية المغرب، وترقية الخليفة (نائب السلطان) إلى دور “الأمير المستقل” [9].
الحسن الثاني: أخرجوا والدي بثياب النوم
فصل آخر من الرواية يقدمه الملك الراحل الحسن الثاني في كتابه “التحدي” إذ يقول: “لم يكن أمام والدي من الوقت أكثر مما يلزمه لارتداء جلابية فوق ثياب نومه. الحر خانق، والمقيم العام يتوجه إلى الملك قائلا له باختصار: إن الحكومة الفرنسية لدواعي الأمن تطلب منكم التنازل على العرش، فإذا قبلتم ذلك عن طيب خاطر استطعتم أنتم وأسرتكم أن تقيموا في فرنسا أحرارا معززين مكرمين. وأجاب والدي بهدوء زائد وقال: ما من شيء في أعمالي وأقوالي يبرر أن أتخلى عن أمانة أضطلع بأعبائها بصفة مشروعة، وإذا كانت الحكومة الفرنسية تعتبر أن الدفاع عن الحرية والشعب بمثابة جريمة يعاقب عليها، فإنني أعتبرها فضيلة يفاخَر بها وتورث لصاحبها المجد. فرجا الجنرال من السيد لمعمري الذي كان اتصالنا به شديدا أن يترجم إلى العربية كلماته بدقة: إذا لم تتنازلوا حالا عن العرش بالرضا فإني مكلف بإبعادكم عن البلاد صيانة للأمن. ولكي يستطيع السيد المعمري أن يترجم بأمانة، أجاب الملك بكلمات متمهلة قائلا: أنا ملك المغرب الشرعي، ولن أخون الأمانة التي ائتمنني عليها شعبي الوفي المخلص، إن فرنسا قوية فلتفعل ما تشاء”، كما ذكر الحسن الثاني الذي كان لحظتها أميرا ووليا للعهد.
بعد ثبوت إصرار السلطان على موقفه، أمر الجنرال الفرنسي بإحضار الأميرين مولاي الحسين ومولاي عبد الله، وطلب من محمد الخامس بصيغة الأمر أن يرافقه هو وأبناؤه. ركب الجميع سيارات جرى تحضيرها لهذا الغرض، والجميع بلباس النوم في ساعة كانت تصادف قيلولة يوم صيفي قائظ. ورغم محاولة الحسن الثاني (يدعى مولاي الحسن حينها) مقاومة الأوامر الفرنسية باستعمال قواعد البروتوكول والدواعي الصحية التي لا تسمح لوالده بركوب الطائرة في تلك الظروف، فإن الأوامر كانت صارمة وحملت الجميع على الامتثال.
ادّعوا أنهم يحمون السلطان من الشعب
حطّت الطائرة الفرنسية في جزيرة كورسيكا الفرنسية بعد نحو سبع ساعات من التحليق، وقامت السلطات حينها بتبرير وصول سلطان المغرب وأسرته بتلك الطريقة بالقول إنه أبعد عن بلاده مؤقتا بسبب ثورة قام بها الشعب ضده. وبعد يومين قامت فرنسا بنقل السلطان البديل محمد بن عرفة من مدينة مراكش حيث معقل الأعيان المتحالفين مع الاستعمار، إلى قصر محمد الخامس في الرباط، ودخله يوم 22 أغسطس/آب 1953 على الساعة الرابعة والنصف بتوقيت غرينيتش، وبرفقته كل من الباشا التهامي الكلاوي والعالم الفقيه عبد الحي الكتاني، كما قدم له فروض الطاعة محافظ مدينة الرباط. لكن، وما إن دخل ابن عرفة قصر الرباط، حتى اضطر للخروج منه ملاحقا بلعنات الجماهير، حيث تم نقله إلى مدينة فاس خوفا عليه من الاضطرابات الشعبية. وما كاد يدخل قصرها حتى توفيت والدة محمد الخامس أم سيدي الياقوت بعد أسبوع من اختطافه، “توفيت بالقصر الملكي من مدينة فاس، وذلك على الساعة الحادية عشرة من يوم الأحد 30 أغسطس/آب، وصدرت الأوامر عنوة بعدم إشاعة الخبر حتى تدفن في الظلام، فكانت جنازتها صامتة ورافقها كل من شيخ الإسلام وإدريس الغزاوي إلى مثواها الأخير جوار زوجها مولاي يوسف. وكان الخبر مما كدّر حياة محمد الخامس أكثر وهو في منفاه السحيق” [10].
الشعب يستعيد ملكه
أشكال المقاومة الوطنية للاستعمار الفرنسي امتدت بعد ذلك حسب وثائق الأرشيف الأمريكي لتشمل مقاطعة المغاربة استهلاك السجائر الفرنسية، “ويعتزم الوطنيون توسيع ذلك القرار قريبا ليشمل حتى السكر والحليب”. كما أوضحت الوثيقة أن الفلاحين المغاربة عمدوا إلى الكف عن استعمال الآلات الحديثة التي تأتي بها فرنسا، كما عمدوا إلى إحراق محاصيلهم الزراعية، “وتقول تقارير استخباراتية إن عمليات إحراق المحاصيل قد تمتد قريبا لتشمل أراضي المستوطنين” [11]. عامان كاملان من الغليان والمواجهات والتضحيات الشعبية، انتهت برضوخ فرنسا للمطالب المغربية ودخولها في مفاوضات مع الوطنيين، ليكون أول المطالب وقبل الحديث عن أي من صيغ إنهاء معاهدة الحماية بين المغرب وفرنسا، هو عودة السلطان الشرعي إلى عرشه والتفاوض معه على تفاصيل الاستقلال.
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: رد: ذكرى استقلال المغرب.. شعبٌ يحرّر عرشه الجمعة 09 فبراير 2024, 12:09 am
احتلال المغرب.. مأدبة تقاسم القوى الاستعمارية العظمى للمملكة قبل عشر سنوات من جلوس بريطانيا وفرنسا للاتفاق حول تقاسمهما أراضي منطقة المشرق العربي، كانت القوى الاستعمارية الدولية تجتمع سنة 1906 في مدينة “الجزيرة الخضراء” الأندلسية في أقصى جنوب إسبانيا، للاتفاق حول طريقة تقاسم المصالح والامتيازات ومناطق النفوذ داخل المغرب. التوتّر الذي عاد ليطبع علاقات المغرب مع بعض الدول الأوروبية (ألمانيا وإسبانيا بالخصوص) في الشهور القليلة الماضية (في النصف الأول من 2021)؛ أعاد إلى أذهان بعض المغاربة قصة هذا المؤتمر الذي أسفر عن توافق دولي انتهى بإخضاع المملكة المغربية للحمايتين الفرنسية والإسبانية، بعدما أرضيت جل القوى الاستعمارية الدولية بالامتيازات التجارية والدبلوماسية، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية التي قامت وقتها بأول خروج لها للمشاركة في النزاعات الدولية، متخلية عن عقيدة “مونرو” الانعزالية.
وبعد محاصرته من جميع الجهات، شرقا بالجيش الفرنسي، وشمالا وجنوبا بالقوات الإسبانية، وغربا بمختلف تشكيلات القوى الاستعمارية الباحثة عن موطئ قدم في الساحل الأطلسي؛ راهن المغرب أخيرا على تدويل قضيته لمنع فرنسا وإسبانيا من الاستفراد به، لكن الأمر انتهى بإخضاعه لحماية دولية سرعان ما تحوّلت إلى حماية فرنسية-إسبانية بعد حصول باقي القوى على مطالبها، وباتت نتائج مؤتمر الجزيرة الخضراء أشبه بالسيف المسلّط على رقبة المغرب، لما تضمنته من شروط تعجيزية بات المغاربة يطلقون عليها “شروط الخزيرات” للتعبير عن المواقف التي يصبح فيها المرء أمام مطالب تعجيزية.
مؤتمر الجزيرة الخضراء.. تحالف المستعمرين يحسم مصير المغرب
شكّل المغرب استثناء في المنطقة العربية بالنسبة لموجة الاستعمار الأوروبي التي وجّهت أنظارها نحو المنطقة منذ أوائل القرن الـ19، فقد كانت المغرب تحمل إرثا تاريخيا كبيرا لإمبراطورية امتد مجالها في فترة أوج قوتها من الأندلس شمالا إلى عمق الصحراء الأفريقية جنوبا، وكان الأوروبيون تحديدا يقيمون اعتبارا خاصا لقوة المغرب، سواء عسكريا أو سياسيا بالنظر إلى عراقة نظامه السياسي المستقل عن الخلافة العثمانية. كل ذلك يفسّر بقاء المغرب خارج متناول الاستعمار الفرنسي الذي همّ بمنطقة المغرب العربي، ولم يتم إخضاعه إلا سنة 1912، بعدما جرى احتلال الجزائر عام 1830 وتونس عام 1881. وكان مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي جرى سنة 1906 بمشاركة 12 دولة، يمثل اللحظة التي حسم فيها مصير المغرب، وانتهى رهانه على التوازنات الدولية لحماية سيادته.
تطلّب احتلال المغرب كثيرا من التحضير وجس النبض من جانب الأوروبيين، وكانت فرنسا وإسبانيا كلتاهما قد حصلتا على إشارتين واضحتين أبانتا لهما عن اختلال ميزان القوى لصالحهما في مواجهة المغرب، ويتعلّق الأمر بمعركتين، أولاهما معركة “إيسلي” التي انهزم فيها المغرب في مواجهة الجيش الفرنسي عام 1844، حين حاولت المملكة مساعدة الأمير عبد القادر الجزائري في وقف الاجتياح الفرنسي للجزائر، والثانية كانت أمام إسبانيا في معركة تطوان شمالا عام 1860.
إصلاحات الحسن الأول.. مملكة بين مخالب القوى العظمى
كان التنافس في البداية ثلاثيا، أي بين فرنسا التي احتلت الجزائر وتونس، وإسبانيا الموجودة أصلا في مستعمرتي سبتة ومليلية شمال المغرب، وتتعلل بقربها الجغرافي من المملكة، وبريطانيا التي كانت تعتبر الشريك التجاري الأول للمغرب، وتعتبر ذلك مبررا للحصول على مزيد من النفوذ. قام السلطان الحسن الأول في الربع الأخير من القرن الـ19 بمحاولة شاقة لتجنيب البلاد مصير الوقوع بين مخالب الاستعمار، وتضمنت إصلاحات عسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية كبرى، لكن الهزائم العسكرية التي مني بها المغرب في مواجهة الأوروبيين أدت إلى إجباره على تقديم الكثير من التنازلات، أهمها منح امتيازات للتجار الأوروبيين ومن يواليهم من بين المغاربة، وهو ما ينعته المؤرخون بنظام “الحماية القنصلية والدبلوماسية”، حيث كان يكفي أن يعلن أحد الأجانب أو من يواليهم من المغاربة حصوله على حماية إحدى الدول الأوروبية ليصبح خارج متناول السلطات المغربية. كان المغرب في الأصل وراء الدفع نحو انعقاد مؤتمر دولي بين القوى الاستعمارية الكبرى (بتنسيق مع ألمانيا)، في محاولة منه لتدويل قضيته وإحداث توازن بين القوى الدولية يحول دون فقدانه لسيادته.
تقاسم المصالح.. دخول ألمانيا على خط المعركة
في مواجهة القوتين الفرنسية والإسبانية الآخذتين في قضم أجزاء من ترابها، حاولت المملكة المغربية لعب أوراق دولية أخرى مثل المصالح الألمانية والبريطانية وحتى الأمريكية، لتنجو من الاستعمار، وهو ما برز في بداية مؤتمر الجزيرة الخضراء، حيث قادت ألمانيا موقفا يدعو إلى تقاسم المصالح في المغرب دون احتلال أراضيه، بينما سعت فرنسا إلى الحصول على اعتراف بأحقيتها في السيطرة على المغرب، متعهدة بضمان مصالح القوى الأخرى.[1] ألمانيا منذ أوخر القرن 19 الى الآن وهي تريد موطئ قدم لها في شمال أفريقيا خصوصا منطقة المغرب الكبير لم يكن الأمر يتعلق بتجربة جديدة على المغرب، فقبل مؤتمر الجزيرة الخضراء لسنة 1906، كانت العاصمة الإسبانية مدريد قد احتضنت مؤتمرا عام 1880 شاركت فيه 15 دولة، وهي روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل، إلى جانب دول أوروبية. وكان محور هذا المؤتمر هو تصعيد المغرب ضد حصانة المحميين الأجانب ورفضه الاعتراف بقرارات التجنيس التي قامت بها دول أوروبية لسماسرة وتجار مغاربة قصد توظيفهم لفائدتها.[2] انتهى ذلك المؤتمر الأول بتكبيل المغرب بقانون خاص بنظام الحماية والتجنيس، وأصبحت الامتيازات التي حصل عليها الأوروبيون بشكل عملي معترفا بها بشكل رسمي. إثر ذلك سوف يبرز الدور الألماني بعد المكانة التي حازتها الدولة الألمانية الناشئة بقيادة “أوتو فون بسمارك”، مما أجج التنافس الاستعماري حول المغرب. وتطلّب الدور الألماني الجديد في الواجهة الدولية عقد مؤتمر برلين الذي امتد بين عامي 1884-1885، وقد منح ألمانيا مجموعة من الحقوق في تقاسم القارة الأفريقية بين الأوروبيين.
اتفاقيات فرنسا مع جيرانها.. نهم احتلال المغرب
قبل انعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء، أبرم الأوروبيون مجموعة من الصفقات الثنائية فيما بينهم، تمهيدا لاحتلال المغرب، وكانت كلها تجري بين فرنسا ودولة أوروبية أخرى، وهكذا كان الاتفاق الأول بين فرنسا وإيطاليا سنة 1902، ويقضي بتنازل فرنسا التام عن مطالبها في ليبيا لفائدة إيطاليا، في مقابل اعترافها بأحقية فرنسا في احتلال المغرب. وكان الاتفاق الثنائي الثاني بين فرنسا وبريطانيا سنة 1904، وحققت من خلاله فرنسا تنازل بريطانيا لها عن المغرب كمجال للنفوذ، في مقابل اعتراف فرنسا بأحقية بريطانيا بالاستفراد بمصر. أما الاتفاق الثنائي الثالث، فكان بين فرنسا وإسبانيا سنة 1904 أيضا، وقد جاء ليعدل اتفاقا سابقا أبرم عام 1902، ومنح لإسبانيا الجزء الشمالي من المغرب بعد إسقاط سيادته، فجاء الاتفاق الجديد ليقلص من المساحة الممنوحة لإسبانيا عبر إخراج منطقة فاس وتازة منها، ونقلها إلى مجال النفوذ الفرنسي، وظل هذا الاتفاق سريا أكثر من 15 سنة.[3]
أحقية فرنسا في إخضاع الدولة المغربية.. هدية المؤتمر
بعد مبادرة ألمانيا إلى إفشال التوافقات التي جرت بين فرنسا وباقي القوى الأوروبية، جرت الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي، وذلك بعدما نجحت ألمانيا في إقناع الرئيس الأمريكي “ثيودور روزفلت” بالتدخل والمساهمة في عقد هذا المؤتمر، حتى لا يختل التوازن بين القوى الأوروبية.[4] استمرت أشغال المؤتمر أكثر من شهرين ونصف، مما يدل على أهمية الموضوع وصعوبة التوصل إلى توافق بشأنه، ورغم حضور ممثلين للسلطان المغربي وسعيهم إلى تنظيم هذا المؤتمر لإدخال ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية في المعادلة، فإن النتيجة التي انتهى إليها المؤتمر لم تكن في صالح المغرب. بنود مؤتمر الجزيرة الخضراء بالفرنسية أقر المشاركون في المؤتمر لفرنسا بأحقيتها في الإشراف على إخضاع الدولة المغربية لمجموعة من الإصلاحات، وهو ما دفع المغرب في البداية إلى عدم التوقيع على الوثيقة العامة التي خلص إليها المؤتمر، لكن السلطان مولاي عبد العزيز سوف يخضع للضغوط الأوروبية في وقت لاحق، ويوقع على الاتفاق بعد نحو شهرين من نهاية المؤتمر. كان الأمر عبارة عن معركة دبلوماسية بين ألمانيا وخصومها الأوروبيين، وقد لعب الداهية الإنجليزي “هارولد نيكولسون” دورا حاسما في إفشال مخططات ألمانيا لانتزاع موطئ قدم في المغرب، ومن ذلك أنه طلب جعل الأمن بيد السلطان المغربي كما تقدمت به ألمانيا، فقد كان على يقين أن ذلك يظل مستحيلا من الناحية الواقعية، ما لم يقم به الضباط الفرنسيون، بدعوى معرفتهم بشمال أفريقيا وشعوبها من خلال استعمارهم للجزائر.[5]
“ثيودور روزفلت”.. الخروج الأمريكي الأول من عزلة “مونرو”
أبدت الولايات المتحدة الأمريكية كثيرا من التردد قبل أن توافق على دعوات ألمانيا لها بالمشاركة في مؤتمر الجزيرة الخضراء، فقد اعتمدت السياسة الأمريكية مبدأ عدم التدخل في الخلافات الأوروبية، لكن الرئيس “ثيودور روزفلت” كان موقنا بوجود مصالح أمريكية مباشرة في هذه الأزمة، فسواء انتصرت فرنسا أو ألمانيا فإن هذا الطرف المنتصر سيصبح مهيمنا على حساب الحليف الأوروبي الأول، أي إنجلترا، كما أن السواحل الأطلسية للمغرب تعتبر مقابلة للسواحل الأمريكية اللاتينية، وبالتالي فهي على تماس مع المجال الحيوي المباشر لأمريكا. إلى جانب المصالح الأمريكية، كان التحول السياسي الداخلي الذي شهدته فرنسا محفزا على مشاركة واشنطن في المؤتمر، فقد صعد المدافعون عن التقارب مع ألمانيا واضطر وزير الخارجية الفرنسي وقتها إلى مغادرة الحكومة، وهو الذي كان يقود معارضة عقد المؤتمر، وقبل الرئيس الأمريكي “روزفلت” لعب دور الوساطة في الأزمة مشترطا على الطرفين إبقاء ذلك في إطار السرية خوفا من ردود فعل معارضة لأي دور خارجي لبلاده داخل الكونغرس.[6] وكما كان متوقعا بعد أسابيع من جمود المفاوضات وانسداد أفق المؤتمر، كان الدور الأمريكي -والشخصي للرئيس “ثيودور روزفلت”- حاسما، فقد تدخل بشكل مباشر ليضغط على الطرف الألماني، مذكرا إياه بالتزام سابق تعهدت فيه ألمانيا بالقبول بالرأي الأمريكي كلما تعذر الوصول إلى اتفاق، وحمل الألمان على التنازل عن مطلب مشاركتهم في شرطة الموانئ التي كان المؤتمر يتجه لإحداثها. وفي محاولة منه لشرعنة تدخله في المؤتمر أمام خصومه الداخليين، كان الرئيس الأمريكي يضيف إلى جدول الأعمال حماية حقوق اليهود المغاربة، مما كان يسهل عليه تبرير إقدامه على خطوة المشاركة أمام بعض اللوبيات الأمريكية القوية.[7] لقد كان “ثيودور روزفلت” شديد الحرص على عدم إثارة أي معارضة داخلية لما انتهت إليه مشاركته في مؤتمر “الجزيرة الخضراء”، حيث توجّه بخطاب أمام الكونغرس خلال مصادقته على الاتفاق قائلا إن الاتفاق منح لواشنطن نفس الحقوق والامتيازات التي حصلت عليها الدول الأوروبية، دون أن تلتزم بلاده بأي شيء في المقابل، “أما عدم توقيعنا على الاتفاق، فيعني تخلينا عن حقوقنا التجارية في المغرب”، مشددا على أنها فرصة سنحت لبلاده بعد 120 سنة لم توقع خلالها أي اتفاق تجاري مع المغرب.[8]
احتلال وجدة والدار البيضاء.. فرنسا تكشر عن أنيابها
الخلفيات الحقيقية لمؤتمر الجزيرة الخضراء سوف تنكشف بعد أقل من سنة، حيث قامت فرنسا باحتلال مدينتي وجدة في شرق المغرب والدار البيضاء في غربه، وهو ما لم يكن ليتم لولا حصولها على ضوء أخضر من باقي القوى الأوروبية. وقد تذرعت فرنسا في احتلال وجدة بمقتل طبيب فرنسي بمراكش، بينما أقدمت على قصف واحتلال الدار البيضاء بعد عرقلة مواطنين مغاربة لمشروع بناء خط السكك الحديدية، وهي الأحداث التي عجّلت بعزل السلطان مولاي عبد العزيز من طرف علماء مدينة فاس، ومبايعة أخيه الأكبر مولاي عبد الحفيظ. السلطان مولاي عبد العزيز وأخوه الأكبر مولاي عبد الحفيظ لقد جنّب مؤتمر الجزيرة الخضراء المغرب شبح الخضوع المباشر للاستعمار الفرنسي، لكنه فرض عليه مجموعة من الإصلاحات التي تمسّ جوهر سيادة السلطان، وكان من بين هذه الإصلاحات إحداث شرطة خاصة بالمرافئ الثمانية التي تهتم بها القوى الاستعمارية في سواحل المغرب، على أن يشرف ضباط فرنسيون وإسبان على تأسيس هذه الشرطة المغربية. كما قيّد المؤتمر حرية المغرب في شراء الأسلحة بهدف إضعاف قدرته على المقاومة، بينما حصلت فرنسا على أغلبية أسهم بنك الدولة المغربية (بدل بيت المال) الذي قرر المؤتمر إحداثه، وفرضت قيودا كبيرة على حق السلطان المغربي في فرض ضرائب على التجار الأوروبيين مقابل حصول فرنسا على امتياز بناء ميناء الدار البيضاء ومد خطوط السكك الحديدية، وهو ما سمح لباريس لاحقا بتوجيه نتائج المؤتمر بما يحقق لها السيطرة المباشرة على المغرب.
تأجيل الخضوع للاحتلال.. هزيمة دولية وغضب شعبي
بينما نجح المغرب من خلال مؤتمر الجزيرة الخضراء في أن يؤخر لحظة خضوعه للحماية الفرنسية من 1905 إلى 1912، فإن ما خلص إليه المؤتمر تحوّل إلى وثيقة دولية مرجعية بالنسبة للقوى الكبرى في تقاسم النفوذ في المغرب، وهو التوافق الذي بقي قائما بشكل ضمني، رغم إنهاء معاهدة الحماية سنة 1956. فمن حيث كان سلطان المغرب يحاول استغلال التنافس الأوروبي، لمنع القوى الاستعمارية من احتلاله؛ جاء مؤتمر الجزيرة الخضراء ليزرع بذور الاختراق الاستعماري، حيث حصل الأجانب بناء على هذا المؤتمر على حق امتلاك الأراضي، وهو ما شكل سابقة تاريخية. وقد تسبّبت نتائج المؤتمر في غضب شعبي عارم في المغرب، ورفض قاطع من جانب العلماء الذين كان لهم دور هام في منح الشرعية لحكم السلطان، وهو ما سيؤدي إلى مبايعة جزء من العلماء لمولاي عبد الحفيظ سلطانا جديدا، مشترطين عليه في نص البيعة إسقاط “شروط الخزيرات” التي قبل بها شقيقه السلطان مولاي عبد العزيز. لقد جرى تنصيب السلطان مولاي عبد الحفيظ بعد مواجهة دامية مع معسكر السلطان عبد العزيز، باعتباره سلطان جهاد مكلفا بمهمة واحدة هي منع الفرنسيين من السيطرة على المغرب، إلا أن ميزان القوى كان قد اختل بشكل غير مسبوق، ولم تؤدّ الأحداث التي عاشها المغرب في تلك الفترة، والمتمثلة في عمليات للمقاومة المسلحة ورفض الوجود الأجنبي في الموانئ.. إلا إلى منح الفرنسيين ذريعة لاستعمال القوة والهجوم على أراضي المغرب من الشرق والغرب، مستغلة وجودها في الجزائر شرقا وقدراتها العسكرية البحرية غربا، لتطبق على عاصمة المغرب وقتها ومركز حُكمه مدينة فاس، ثم تفرض على السلطان توقيع معاهدة الحماية، مقابل استعادة الاستقرار وإخضاع القبائل التي ثارت على حكمه المهادن للفرنسيين.
استرجاع الحدود وإلغاء الامتيازات.. شروط البيعة
شهد المغرب إثر “البيعة الحفيظية” انقساما، على مستوى النخبة السياسية الحاكمة، وبالتالي انقساما في أوساط الشعب، وأصبحت المواجهة عسكرية ودموية بين “المخزنين” (السلطتين) الحفيظي والعزيزي، ودارت معارك عسكرية طاحنة بين المعسكرين، خاصة في منطقة الشاوية (قرب الدار البيضاء) التي وصل إليها جيش عبد الحفيظ في بداية عام 1908، قادما من معقله بمدينة مراكش. جاءت قرارات مؤتمر الجزيرة الخضراء لصالح فرنسا بالدور الأول ورغم تجهيز مولاي عبد الحفيظ لقوات شاركت في معارك كانت تدور وقتها ضد الفرنسيين الساعين لاحتلال الدار البيضاء، فإنه لم يعلن الحرب عليهم، بل ظلّ جانحا إلى المهادنة راغبا في التفاوض لحل مسألة الاحتلال، وإفساح المجال أمامه نحو الرباط ومنها إلى عاصمة المغرب وقتها مدينة فاس، حيث كانت بيعة علماء فاس تنتظره مذيلة بشروط واضحة، أبرزها: · عدم تنفيذ شروط ميثاق الجزيرة الخضراء المضرة بمصالح المغرب. · استرجاع المناطق الحدودية المحتلة، وتحرير مدينتي وجدة والدار البيضاء. · إلغاء امتيازات الحماية القنصلية، وعدم اتباع إشارة الأجانب في مصالح الأمة. · التحالف مع الدول الإسلامية إن دعت الضرورة. · الرجوع للأمة قبل عقد أي اتفاق مع الأجانب. وبعد وصوله إلى فاس عاصمة الحكم بالمغرب، راح مولاي عبد الحفيظ مباشرة يبحث عن اعتراف دولي بشرعية سلطته، واجتهد في إيفاد السفارات والمراسلات إلى القوى الدولية، لتنطلق في كانون الثاني/ يناير 1909 أولى المفاوضات بين الفرنسيين والسلطان الجديد، عبر سفير فرنسي موفد إليه. فتوصل إلى اتفاق بجلاء الفرنسيين من الشاوية، دون أن يشمل ذلك مدينة الدار البيضاء، وهي النقطة التي أخرت المصادقة على الاتفاق.
حماية السلطان من القبائل الثائرة.. احتلال فاس
تطلق المصادر التاريخية على لحظة انعقاد مؤتمر “الجزيرة الخضراء” اسم الأزمة المغربية الأولى، بينما تطلق الأزمة الثانية على ما حدث بعد خمس سنوات، حين بلغ التنافس الاستعماري حول المغرب لحظة ذروته سنة 1911، وتحوّلت مدينة أكادير إلى موضوع لأزمة عسكرية خطيرة بين ألمانيا وفرنسا، وكادت تتحوّل إلى شرارة اندلاع الحرب العالمية الأولى. فبينما كانت فرنسا تعمل على استكمال احتلالها للمغرب، بناء على مقتضيات اتفاقية الجزيرة الخضراء 1906، بعثت ألمانيا بارجة حربية قبالة ساحل أكادير، بدعوى حماية رعاياها الموجودين فيها، وهو ما كاد يتحوّل إلى مواجهة عسكرية دولية.[9] لقد حاول المغرب مقاومة ضغوط القوى الاستعمارية، بينما تصاعدت بوادر انفجار الصراع بين تلك القوى، وتجسّد ذلك في المشاكل البلقانية المتعددة، والصراع حول تقاسم النفوذ في المشرق العربي، وكان كل تحرّك تصعيدي يهدد بتفجير المواجهة الكونية. لم تكن الجبهة المغربية بعيدة عن هذا التقاطب الحاد بين القوى الأوروبية، حيث قامت فرنسا بالتقدّم عسكريا في بداية 1911، واحتلت المنطقة المحيطة بمدينة الرباط، وتواصلت تحضيراتها للهجوم على عاصمة المغرب وقتها، مدينة فاس، وإخضاع المملكة للاحتلال بشكل رسمي. ثم توالت الأحداث بعد ذلك من خلال تحركات دبلوماسية مكثفة، وأخرى ميدانية كانت بعض القبائل المغربية تقوم بها في محيط فاس، تعبيرا عن تمردها على السلطان مولاي عبد الحفيظ، لفشله في دفع المحتلين، وإطلاقه يد ولاته لممارسة الظلم والاستبداد. وبطلب شكلي من السلطان لداعي حاجته إلى الحماية من هجوم القبائل الثائرة، حرّكت فرنسا قواتها واحتلت مدينة فاس عاصمة البلاد، وحصلت على تأييد بريطانيا وروسيا، بينما انتهزت إسبانيا الفرصة لتحتل مواقع في شمال المغرب.[10]
بارجة حربية قبالة أكادير.. ألمانيا تفسد الحفلة
اعتبرت ألمانيا الهجوم الفرنسي على فاس واحتلالها إسقاطا للتوافقات السابقة بخصوص المغرب، وبشكل مفاجئ لم يتوقعه أحد، جاء الرد الألماني على بعد مئات الكيلومترات إلى الجنوب من فاس، وتحديدا في الساحل المقابل لمدينة أكادير، حيث ظهرت بارجة حربية ألمانية قبالة أكادير، وانتشرت الأخبار بشكل سريع على الصعيد الدولي عن تحرك عسكري ألماني لضرب الوجود الفرنسي في المغرب.
ومثلما كان حال أخيه عبد العزيز في مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، فقد علّق السلطان مولاي عبد الحفيظ آمالا كبيرة على هذه الخطوة الألمانية، فرأى فيها فرصة لتحقيق بعض التوازن مع فرنسا التي استفردت به، وفرضت عليه شروطها ليقبل بحمايتها له، لكن التفاوض بين ألمانيا وفرنسا اقتصر على مصالحهما الخاصة، ولم يحقق أي مكاسب للمغرب. اقترحت فرنسا على ألمانيا الحصول على مكاسب اقتصادية في المغرب، مقابل اعترافها بخضوعه للحماية الفرنسية، لكن طموح ألمانيا كان أكبر من ذلك، وأصبح الحصول على الكونغو كمستعمرة خاصة بألمانيا هو الثمن المطلوب، واستمرّ التفاوض عسيرا إلى غاية نوفمبر/تشرين الثاني، حي جرى التوقيع على مقايضة الاعتراف الألماني بالاحتلال الفرنسي للمغرب، مقابل حصول ألمانيا على الكونغو.[11]
تنحي سلطان الجهاد.. سقوط المغرب أمام جيوش المحتلين
وجد المغرب نفسه في النهاية وحيدا في مواجهة الجيشين الفرنسي والإسباني، وبعد تفاوض عسير خاضه المغرب من موقع ضعف، توصّل إلى توقيع عقد الحماية مع فرنسا يوم 30 مارس/آذار 1912. وبات من الواضح وقتها بالنسبة لغالبية المغاربة، أن سلطان الجهاد الذي بويع في مراكش سنة 1907، من أجل القيام بتحرير الأراضي المحتلة من قبل القوات الفرنسية، ومطالبة القوى الكبرى بإلغاء مقررات مؤتمر الجزيرة الخضراء، لم يعد قادرا على حمل أثقال الآمال المعقودة عليه. وعلى إثر تأكيد التوقيع على معاهدة الحماية، عمّ الذعر بين السكان، وانتشرت الفوضى، لينتهي الأمر بتعيين المارشال الفرنسي “هوبير ليوتي” مقيما عاما بالمغرب، وتنحى المولى عبد الحفيظ عن الحكم، لفائدة أخيه مولاي يوسف.
المصادر
[1] shorturl.at/uEHK5
[2] غازي محمد، التنافس الأوربي حول المغرب الأقصى على ضوء المؤتمرات الدولية (1884-1912)، بحث لنيل شهادة الماستر، جامعة أدرار، الجزائر
[3] غازي محمد، التنافس الأوربي حول المغرب الأقصى على ضوء المؤتمرات الدولية (1884-1912)، بحث لنيل شهادة الماستر، جامعة أدرار، الجزائر
[4] غازي محمد، التنافس الأوربي حول المغرب الأقصى على ضوء المؤتمرات الدولية (1884-1912)، بحث لنيل شهادة الماستر، جامعة أدرار، الجزائر