في غزة حرب بين الحقد والحق
يكاد عدد الشهداء في غزة يجاوز الثلاثين ألفاً، وهو رقم يعادل قتلى دولة الاحتلال في جميع حروبها مع العرب والفلسطينيين، طبعاً هذا العدد لا يشمل المفقودين تحت الأنقاض والذين يمكن أن يحسبوا في عِداد القتلى، يضاف إلى هذا الرقم ما لا يقل عن 70 ألفاً من الجرحى والمصابين يعانون نقصاً فاضحاً في الرعاية الطبية وربما انعدامها بسبب التدمير الممنهج للقطاع الصحي من قبل دولة الاحتلال، والمؤلم أن شهداء غزة لا بواكي لهم ولا رثاءات ولا بيوت عزاء ولا مظاهر حزن تهز الوجدان، وفي غزة تتدحرج الإنسانية إلى الحضيض وتسقط ضحية آلة عسكرية همجية، فالموت هو الحاضر الطاغي وما يزال عداده مفتوحاً على مصراعيه، فقد أفشلت إسرائيل كل محاولة لوقفه إذ لا تزال الشراهة للدم الفلسطيني هي الطاغية هناك، رغم أنها وقادتها يعلمون جيداً أنه لم يعد لدى الفلسطينيين ما يخسرونه، فهم خسروا كل شيء قبل أن يبدأوا، بينما ستكون خسائر إسرائيل منذ الآن بلا حدود.
لقد مات هتلر أو قتل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلا في إسرائيل فهو موجود كله أو بعض منه، فهناك حاجة ماسة لاستخدامه في بعض الحِيَل الإستراتيجية، فبه شبه مناحيم بيغن القائد الفلسطيني التاريخي ياسر عرفات عام 1982، والآن يعود نتنياهو لوصف القائد الحمساوي يحيى السنوار بهتلر، ومثل ذلك الهولوكوست فهي تظهر الآن بقوة بل إن القادة في دولة الاحتلال يحاولون صناعتها من جديد بعد أن كادت تتلاشى من ذاكرة الجيل اليهودي الحالي، بل ويراد لها أن تعود بيد فلسطينية هذه المرة، لكن محرقة غزة حرفت الأنظار تجاهها فهذه محرقة يومية غير متوقفة أمام مرأى ومسمع العالم، صحيح أنه يحاول التغاضي عنها وصحيح أن الأقمار الصناعية استطاعت كما تدعي رصد منطقة عازلة صغيرة في صحراء سيناء إلا أنها عجزت وأصابها عمى البصر والقلب عن مشاهدة 45 ٪. من مباني قطاع غزة المدمرة و75 ٪. شبه مدمرة، ومع ذلك لا بد أن تظهر الفظائع الإسرائيلية جلية أمام العالم، لكن للأسف سيكون ذلك بعد فوات الأوان، لقد تمكنت إسرائيل من فعل كل ذلك بالفلسطينيين لأنها أسقطت كل العوالق القانونية والأخلاقية، فلا ضرورة لها هنا، لأن المطلوب هو القتل والتدمير فقط، وهذا سَهّل المهمة على قادة الاحتلال كي يرتكبوا المجزرة تلو الأخرى بدمٍ بارد دون أن يرفّ لهم جفن.
لقد توقفت حروب إسرائيل مع الجيوش النظامية منذ حرب بيروت، وهذه الأخيرة دشنت عهد الحروب الإسرائيلية مع القوى الجهادية غير الدولتية، وهذه لا تنهزم بسهولة وإن حصل ذلك فهي سرعان ما تسلّم الراية لجيل آخر أكثر تشدداً وتمسكاً بثوابته من الجيل الذي سبقه بسبب ما تخلفه جرائم الاحتلال من أسى في النفوس يراكم الغضب والرغبة في الثأر، وهو ما يؤدي إلى العودة دائماً إلى المربع الأول، لكن في هذه المرة تجاوز حقد إسرائيل كل الحدود فقد أصبح عادياً منظر الموت، وأصبحت مشاهدة مستشفى يدمر بمرضاه شيئاً مقبولاً وقابلاً للاستيعاب، وأصبح التفاوض على الطعام أمراً مألوفاً، ورؤية العالم لمدينة يتم اجتثاثها لم يعد مستهجناً، ومحاولة اقتلاع شعب وتهجيره لم تعد شيئاً غير قابل للنقاش، إنما بات النقاش يدور حول الآلية، محاولة اغتيال المستقبل الفلسطيني أصبحت صناعة إسرائيلية بامتياز، كل ذلك لا يشير إلى حرب بمعايير الحروب التي نعرفها، إنه انفجار من الحقد بوجه الفلسطينيين، لكن رغم ذلك يقف هؤلاء الفلسطينيون العنيدون صامدين ثابتين يرفضون الهجرة ويفضلون الموت لأنهم أدركوا منذ اللحظة الأولى أن الحرب عليهم كبشر وككتلة سكانية حضارية، لأن دولة الاحتلال تدرك أن هؤلاء هم نقطة ضعفها الكبرى، وأنهم مركز القوة الحقيقي، باختصار لأنهم الحق في مواجهة الحقد والطغيان الإسرائيلي.