العلمانية بين الأيديولوجيا والحيادية (3)
أحمد محمد الدغشي
العلمانية ليست على الإطلاق "مشروعا" متكاملا وليست "أيديولوجية" بالمعنى الواسع لهذا اللفظ
وقفنا في الجزئين السابقين على آراء بعض المفكرين تجاه العلمانية كأيديولوجيا، وخلصنا إلى أن كلا من عبد
الوهاب المسيري وعادل ضاهر وعزمي بشارة، ممن يذهبون إلى استعمال مصطلح "الأيديولوجيا العلمانية"،
على نحو من الإقرار لذلك، من غير مشايعة للرأي القائل بأن العلمانية لا تعدو إجراءات فنية وأداتية وإدارية
ترتيبية ليس أكثر.
والواقع أنه لا يزال مصطلح "الأيديولوجيا العلمانية" شائعا ومستخدما في الأدبيات العلمية والمؤسسات
الأكاديمية الكبرى، بأقلام مفكرين آخرين وباحثين عدة، بمختلف درجاتهم ومستوياتهم العلمية والفكرية، وهو ما
يقتضي توضيحا على النحو التالي:
نظرا إلى الدور الهام الذي تؤديه الأيديولوجية السائدة في تشكيل سياسات الدولة؛ فإن تغييرها يعني تحولا كبيرا
في السياسة. وأحدث نموذجين على هذا هما النموذج الإيراني بعد الشاة، والنموذج الروسي بعد انتهاء الحكم
الشيوعي
أحمد كورو
كورو وهنتنجتون وأركون وشعيبي والأيديولوجيا العلمانية
من ذلك -على سبيل المثال فقط- تلك الدراسة ذات العلاقة التي قدمها الباحث التركي الدكتور أحمد كورو أستاذ
العلوم السياسية بجامعة دييغو الأميركية، في ولاية كاليفورنيا، بعنوان: "العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين:
الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا"، وهي أطروحته للدكتوراة التي حصل عليها من جامعة واشنطن.
فقد استخدم الباحث منذ بداية دراسته هذا المصطلح (الأيديولوجيا)، لوصف العلمانية وقال -مثلا-: "نظرا إلى
الدور الهام الذي تؤديه الأيديولوجية السائدة في تشكيل سياسات الدولة؛ فإن تغييرها يعني تحولا كبيرا في
السياسة. وأحدث نموذجين على هذا هما النموذج الإيراني بعد الشاة، والنموذج الروسي بعد انتهاء الحكم
الشيوعي.. فحل الإسلام الشيعي في أعقاب الثورة الإيرانية محل الأيديولوجية العلمانية السائدة في أيام حكم
الشاة، وقد كان لهذا الشرخ الأيديولوجي تداعياته الواسعة النطاق على العلاقات بين الدين والدولة" (أحمد ت.
كورو، العلمانية وسياسة الدولة تجاه الدّين: الولايات المتحدة، فرنسا، تركيا، ص32).
وفي سياق اعتماد كورو تقسيم العلمانية في الدول الثلاث التي درسها (أميركا وفرنسا وتركيا) إلى نوعين يطلق
على الأول: العلمانية "السلبية"، ويقصد بها "المعتدلة" أو "المتسامحة"، والأخرى: العلمانية الصارمة (
كورو، العلمانية وسياسة الدولة تجاه الدين، ص33)، أي العنيفة والشمولية، فإنه يضعهما معا في السياق
الأيديولوجي بقوله: "بعد بروز وهيمنة نوعي الأيديولوجية العلمانية؛ اتبعت بعض طرق الصراع الأيديولوجي
مسارات مشابهة لهذه الحالات الثلاث" (كورو، العلمانية وسياسة الدولة تجاه الدين، ص 368).
تأمل كيف أن الباحث لم يستثن ما يصفه بالعلمانية السلبية "المعتدلة" -مع كونه من دعاتها من وصف
الأيديولوجيا-. وتراه في موطن آخر يشدد على ضرورة إدراك الفرق بين النوعين من العلمانية، ليدلف إلى القول:
"فالعلمانية تعتبر أيديولوجيا مناهضة للدين في مجتمعات مسلمة عديدة. ويرجع السبب في ذلك إلى هيمنة
العلمانية الحازمة في دول مثل أوزبكستان وتونس.." (كورو، العلمانية وسياسة الدولة تجاه الدين ص376).
وفي سياق الإشارة إلى الدستورين الفرنسي والتركي والعلاقة بالعلمانية قال كورو: "إلا أن كليهما -يقصد
الدستورين الفرنسي والتركي- لا يشير إلى حدود تدخل في المحيط الاجتماعي، أو بعبارة أخرى: نجد أن كلا
الدستورين الفرنسي والتركي يشيران إلى العلمانية بوصفها أيديولوجية رسمية، وعلى أنها محدد لهوية الدولة،
بدلا عن كونها مبدأ قانونا عمليا، يرسم علاقة الدولة بالدين.." (كورو، العلمانية وسياسة الدولة تجاه الدين،
ص35).
الصراع بين الديمقراطية الليبرالية والماركسية اللينينية كان بين أيديولوجيتين، ورغم الفروق الأساسية بينهما إلا
أنهما حديثتان وعلمانيتان، وتشتركان في الزعم بأن أهدافهما النهائية هي الحرية والمساواة
صامويل هنتجتون
أما صامويل هنتنجتون (ت:2008م)، أستاذ العلوم السياسية الشهير في جامعة هارفارد وصاحب نظرية "صدام
الحضارات"، استخدم المصطلح ذاته، فقد استخدم مصطلح (الأيديولوجيا العلمانية) من قبل، حين قرر "أن أكبر
صراع علماني شهده القرن العشرون في مرحلة الحرب الباردة دار بين أكبر قطبين علمانيين في العالم وهما
الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي، وتمحور حول أيديولوجيتين علمانيتين، إذ إن "الصراع بين
الديمقراطية الليبرالية والماركسية اللينينية كان بين أيديولوجيتين، ورغم الفروق الأساسية بينهما إلا أنهما
حديثتان وعلمانيتان، وتشتركان في الزعم بأن أهدافهما النهائية هي الحرية والمساواة والرفاه المادي
الديمقراطي الغربي يمكن أن يدخل في جدل مع ماركسي سوفيتي، وسيكون من المستحيل بالنسبة له أن يفعل ذلك
مع روسي قومي أرثوذكسي" (صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات، ص 232).
وقد يبدو للبعض من المفارقات أن يندرج في إطار الباحثين الذين يطلقون وصف الأيديولوجيا على العلمانية؛
مفكر ماركسي بارز، هو الدكتور فؤاد زكريا (ت:2010م)، وإن قال: "فليست العلمانية على الإطلاق "
مشروعا" متكاملا، وليست "أيديولوجية"، بالمعنى الواسع لهذا اللفظ، وليست برنامجا يصلح لحزب سياسي، أو
لدعوة إصلاحية شاملة، وإنما العلمانية -في وضعنا الراهن- محاولة لصد تيار ظلامي يزحف على بلادنا بقوة
متزايدة…" (فؤاد زكريا، العلمانية ضرورة حضارية، ص291).
وهذا التحفظ الجزئي من قبل زكريا، رغم كونه أقر ضمنا بأيديولوجية العلمانية، يذكرنا بالظرف الزمني الذي قدم
فيه دراسته، حيث كان ذلك في مرحلة الثمانينات الميلادية من القرن العشرين المنصرم، وهي -حتى في مصر-
مرحلة من النادر فيها تصدر باحث أو داعية علماني لتبني العلمانية، على نحو ما صار إليه الأمر بعد ذلك،
وضوحا وتماديا في الاستبسال، من قبل بعضهم في المناداة بها.
ولهذا ألفيناه يتحدث بما يفيد أن هذا التوصيف المتحفظ جزئيا على الوصف الكامل أو الواسع للعلمانية
بالأيديولوجيا؛ مرتبط بظرفه، حيث جاء لغرض التصدي لمن وصفهم بالتيار الظلامي، أي الإسلاميين المنادين
بشمول النظام الإسلامي في كل المجالات الحيوية للإنسان.
العقل يفرض على العقل في كل ثقافة، وفي كل فكرة الانتباه أن العقل يخطئ، أن العقل يميل دائما إلى الأيديولوجيا
محمد اركون
أما محمد أركون (ت:2010م)، فرغم كونه من أشهر دعاة العلمانية في إطار الفكر الاستشراقي الجديد، مع كونه
في الأصل جزائريا، فإنه لا يبرح يؤكد على ضرورة مراجعة ما يصفها بالأيديولوجيا العلمانية -ضمن سياق حديثه
عن كل الأيديولوجيات، وفي هذا يتحدث في إحدى حواراته الفكرية المتلفزة عن تجديد الفكر بقوله: "كل محاولة
بشرية حاملة أو معرضة أن تحمل جانبا من الأيديولوجيا، هذا من الوضع البشري، لا يمكن لبشر أن يكون ملكا،
أي أنه معصوم، لا يخطئ، ولا يميل ولا يحمل خطابه أي شيء ينتمي إلى الأيديولوجيا والميثولوجيا.
هذا "مش" [هكذا والمقصود غير] موجود، ولذلك قلت: "العقل يفرض على العقل في كل ثقافة، وفي كل فكرة
الانتباه أن العقل يخطئ، أن العقل يميل دائما إلى الأيديولوجيا". (محمد أركون، حوار مع قناة الجزيرة، برنامج
مسارات عن تجديد الفكر 2، نزعة الأنسنة وقواعد الاستشراق (حاوره: مالك التريكي)، 5/5/2006م).
وأما عماد فوزي شعيبي -وهو مفكر وأكاديمي سوري- فيأخذ على كثير ممن يتناول الظاهرة العلمانية تسطيحهم
لها عند الحديث عنها، بوصفها أداة أو إجراء مجردا من الفلسفة والأيديولوجيا، ويعد ذلك من قبيل التقليد أو
الوهم، مؤكدا أن العلمانية أيديولوجيا أو تكاد، وفق المنظور الفلسفي (عماد فوزي شعيبي، العلمانية باعتبارها
أيديولوجيا وأسطورة، مقطع مرئي (فيديو)، مثبت على صفحة شعيبي على الفيسبوك، 23/8/2022م)