النهضة الصناعية الأولى لليابان ومقوماتها
وحدت الإقطاعيات اليابانية رسميا تحت سلطة الإمبراطور ميجي عام 1868م، وكان أمام اليابان تحد صعب لشق طريق النهضة، خاصة بعد ما كانت عليه من تقسيم وطبقية ولا مركزية في الحكم.
ورسمت الحكومة الجديدة لهذا مخططا شمل جوانب متعددة من الحياة، وانتهجوا برنامج نهضة شاملة قائم على دراسة تجربة الدول الغربية والاستفادة منها، وركز مخططهم على النقاط التالية:
إحداث ثورة في الصناعات: خاصة الثقيلة منها والتي ترتكز على صناعة المحركات والسيارات والأسلحة، وفي سبيل ذلك ركز الإمبراطور على برامج الابتعاث واستقدام الأساتذة والمعلمين، وهذه الثورة الصناعية استدرجتها لاحقا لخوض أعتى المعارك، للاستيلاء على المواد الأولية اللازمة لهذه الصناعات.
التعليم: ركز اليابانيون على تطوير المناهج التعليمية في المدارس. كما اختار الإمبراطور آلافا من خيرة الشباب اليابانيين للابتعاث إلى أميركا وأوروبا، لكن كان لا بد لهم من التحلي بصفات محددة. فهم سيذهبون للاختلاط بالمجتمع الغربي، فلا بد من كونهم متشبعين بالثقافة اليابانية، متمسكين بفلسفتها، وبفكرة نهضتها، وكان هدفه من وراء هذا الحفاظ على الهوية اليابانية، فالهدف والأهم هو بناء قوة ذاتيه لليابان، دون الإخلال بالثوابت المجتمعية، فهم يريدون التصدي للغزو الغربي المهدد لسواحلهم أصلا، لا أن يصبحوا سفراء للثقافة والفكر الغربي، وهذا ملمح هام جدا يستحق التوقف للتأمل.
أبعد الإمبراطور ميجي برؤيته البوذية عن السلطة وعمل على إعادة صياغة بعض تعاليمها. ومكن للشنتوية لتوافق تعاليمها مع فكرة توحيد اليابان تحت سلطة الإمبراطور، التي أعلنها مستمدة من الإله.
ولعل من أهم ما قام به هؤلاء المبتعثون هو التركيز على نيل العلم العملي القابل للتطبيق، لا على تجميع الشهادات العليا والاحتفاء بها، فقصدوا أصل العلم، وعملوا تحقيقا لحلمهم بغد ياباني أقوى، وكان لا بأس لديهم بأن يذهب الطالب فيتعلم آليات تصنيع المحرك بحذافيرها ويعود فيعرضها على الإمبراطور، دون أن يكمل الدراسة أو يحصل على الشهادات أيا كانت، وهذا ما ترويه القصص والأخبار فعلا.
وبالمقابل فقد استقدم الإمبراطور نحو ثلاثة آلاف أستاذ جامعي ومهندس وخبير أوروبي، ووزعهم على المحافظات التي اختيرت لتكون مركزا للتصنيع والدراسة والإبداع في اليابان، وقدمت الحوافز وبنيت المصانع وفعل زعماء الإقطاعيين والساموراي لقيادة هذه المصانع والمراكز، كخطوة عملية في إزالة الطبقية التي كانت تسود اليابان، حتى أصبح النظام التعليمي في اليابان أكثر حرية وتقدما عن مثيلتها من الدول الغربية.
الزراعة: لم تسمح الطبيعة الجبلية لمعظم الجزر اليابانية بتنمية الزراعة، سوا زراعة الأرز، واعتمدت معظم ثروتهم الغذائية على الأسماك، فعملوا على إيجاد طرق تطوير زراعتهم، وتأمين المزيد من الموارد الغذائية.
الدين: غالبا ما ترى القيادات بالدين محركا وضابطا للشعوب، وكانت الديانات المنتشرة في اليابان هي البوذية والشنتوية، إلا أن البوذية كانت هي الديانة الحاكمة لمناخ البلاد، ولما جاء الإمبراطور ميجي برؤيته، وجد بتعاليم البوذية تعطيل لمخطط توحيد البلاد والتطويرات المراد إحداثها، فأبعد البوذية عن السلطة وعمل على إعادة صياغة بعض تعاليمها. ومكن للشنتوية لتوافق تعاليمها مع فكرة توحيد اليابان تحت سلطة الإمبراطور، التي أعلنها مستمدة من الإله.
وفي الوقت نفسه كان عليهم التصدي للبعثات التبشيرية المسيحية التي وصلتهم مع السفن الراسية في موانئهم.
كتب لهذه الخطوات المنتهجة في اليابان النجاح، وآتت المجهودات المبذولة أُكلها، ودارت العجلة الصناعية في البلاد.
ولا بد من الإشارة إلى أن اليابان رغم نقلها للعلوم الغربية ونجاحها في التطبيق، إلا أنها لم تنقل الأشياء كما هي بل وضعت لمساتها وأضافت روحها للصناعات.
ومع التقدم العلمي والصناعي والنهضة المتسارعة التي شهدتها اليابان، مدت شبكة الخطوط الحديدية المتطورة، وطورت المواصلات البرية والبحرية التي تعمل على نقل المواد والبشر في ذاك البلد المعزول وسط المحيط وذي الطبيعة الجغرافية الوعرة، محدود الموارد.
نشبت الحرب، وخرجت اليابان منتصرة وفرضت سيطرتها على جزيرة منشوريا وشبه الجزيرة الكورية، وجعلت الصين تدفع تكاليف الحرب. هذا كله امتد بين عامي ١٨٩٤-١٨٩٥ من نهايات القرن التاسع عشر.
وطورت ترسانة عسكرية قوية قادرة على مجابهة الحملات العسكرية التي كانت تهددها، وكانت الحاجة إلى المزيد من الموارد والوقود اللازم لكل ذلك متسارعة ومتزايدة، فشهدت نموا كبيرا في إنتاج واستهلاك الفحم الحجري. وامتدت أنظار اليابانيين إلى دول الجوار كالصين وكوريا وحتى إندونيسيا.
ففي خضم هذا كله شعرت اليابان بالقوة وأصبحت مستعدة لتجابه من تشاء لفرض سيطرتها وتأمين احتياجاتها، فكانت المجابهة مع جارتها الصين، حيث كان المناخ بين الجارتين متوترا أصلا حول جزيرة منشوريا وشبه الجزيرة الكورية.
ونشبت الحرب فعلا، وخرجت اليابان منتصرة وفرضت سيطرتها على جزيرة منشوريا وشبه الجزيرة الكورية، وجعلت الصين تدفع تكاليف الحرب. هذا كله امتد بين عامي ١٨٩٤-١٨٩٥ من نهايات القرن التاسع عشر.
تمتعت الخطة اليابانية بالذكاء، وبذل اليابانيون ما في وسعهم إيمانا بفكرة نهوضهم، وإثبات مكانتهم العالمية، ونجحوا في ذلك بالفعل، ساعدهم في ذلك رباطة جأشهم وحدة طباعهم، إلا أنهم ارتكبوا مجازر عنيفة في غزواتهم، لا سيما في حق الشعب الصيني والكوري، واستغلوهم في أعمال المناجم و التنقيب. لقد كان جل تركيز اليابانيين منصب على تنمية صناعاتهم وقوتهم، ولم يأبهوا لأي جوانب أخلاقية في تعاملاتهم، فالمصلحة ملكة المشهد.