حصاد قانوني وسياسي لنصرة غزّة
تتسارعُ المستجدّات في المشهدِ الدولي، متجهةً نحو زعزعةِ دعائم دولةِ الاحتلال الإسرائيلي والإجهازِ على مقوّماتها الوجودية، ففي حين تتواصلُ المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني في قطاعِ غزّة ، تتوالى الأحداث التي تقضّ مضاجع الساسة الإسرائيليين وتُنذرهم بسوءِ العواقب بشكلٍ غير مسبوق، وبتواترٍ غير معهود، إذ قدّم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، يوم 20 الشهر الماضي (مايو/ أيار) مطلباً للمحكمة بإصدار بطاقات اعتقال في حقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه، يوآف غالانت، استنادًا إلى تورطهما في ارتكابِ جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية بمقتضى معاهدة روما المحدثة للمحكمة الجنائية والموقّعة سنة 1998، وتتمثّل هذه الجرائم في تجويعِ المدنيين واحداً من أساليب الحرب، وتعمّد إحداث معاناة شديدة وإلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة والمعاملة القاسية والاضطهاد والإبادة والقتل العمد وتعمّد توجيه هجمات ضدّ السكان المدنيين، وتزامن هذا القرار الهام مع اعتراف ثلاث دول أوروبية بدولة فلسطين، النرويج وإسبانيا وإيرلندا، يوم 22 مايو/ أيار2024، إثر بضعة أسابيع من قرارِ الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يُوصي بقبول فلسطين دولة كاملة العضوية في المنظمة الأممية، وتستعدّ دول أوروبية أخرى للاعترافِ بدولة فلسطين، يصب هذان الحدثان الهامان في صالحِ القضية الفلسطينية ويُعتبران نصراً تاريخيّاً لها: الأوّل ذو طابع جنائي دولي في حين أنّ الثاني دبلوماسي يتعلّق بالعلاقات الدولية الخارجية.
المسؤولية الجنائية الدولية
في ما يتعلّق بالحدث الأول، المسؤولية الجنائية الدولية التي أثارها المدّعي العام للمحكمة ضدَّ المسؤولين الإسرائيليين ذات أهمية بالغة، رغم أنّ المحكمة لم تُصدر قرارها بعد بقبولِ مطلب إصدار بطاقة الاعتقال من عدمه، إلا أنّ كلّ المؤشّرات القانونية والواقعية تُوحي بموقف داعم لهذا المطلب، نظراً إلى أنّ الجرائم المرتكبة في حقِّ المدنيين الفلسطينيين مُوثّقة بالصوتِ والصورة، ولم يسبق لها مثيل في خطورتها ووحشيتها وطابعها القصدي، كما أن الهيئات التابعة لمنظمّة الأمم المتحدة وغيرها أقرّت بارتكاب هذه الجرائم بالحجّة والدليل القاطعين، ودانتها بصورةٍ صريحةٍ وواضحةٍ لا تدعو مجالاً للتشكيك. والأرجح أنّ المدّعي العام لم يجرُؤ على ما قام به من طلب إلا نتيجةً للإحراج الذي أضحى يشعر به أمام تنامي الإدانات الدولية والشعبية بما يُرتكب في غزّة من مجازر وتجويع وإبادة جماعية، ونتيجة للاتهامات التي وُجِّهت له بالتقصير والمماطلة واعتماد ازدواجية المعايير في التعاطي مع القضايا الدولية، بالإضافة إلى اتهامه بالرضوخِ لضغوط الولايات المتحدة، وبالتالي، اعتبره كثيرون مجرّداً من الحيادِ والموضوعية والنزاهة في القيام بمهامّه. كما أنّ تحرّك المدعي العام كان نتيجة المساعي الحثيثة للمحامين ورجال القانون ومختلف الفاعلين الفلسطينيين وغيرهم من المتعاطفين والمناصرين الذين حرصوا على تقديم الملفّات المثقلة بالأدلة والحجج إلى المحكمة، ودفعوا مدّعيها إلى اتخاذِ التدابير والإجراءات القضائية الواجبة لإنصافِ المظلومين والضحايا وإقامة العدالة الدولية. وجدير بالذكر أنّ الأطراف المُخوّل لها إثارة المسؤولية الجزائية الدولية أمام المحكمة الجنائية هي، حسب اتفاقية روما، إمّا المدّعي العام من تلقاء نفسه، حين يبدأ بمباشرةِ تحقيقٍ فيما يتعلّق بالجرائم التي تدخل في اختصاصِ المحكمة، أو بإحالةٍ من مجلس الأمن عملًا بمقتضيات الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة المتعلّق بحفظِ الأمن والسلم الدوليين، أو من الدول الأعضاء الموقّعين على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الذين يجوز لهم أن يحيلوا إلى المدّعي العام أيّ حالةٍ يبدو فيها أنّ جريمةً ارتُكبت للتحقيق فيها بغرض البتّ فيما إذا كان يتعيّن توجيه الاتهام للأشخاص المعنيين.
الجرائم المرتكبة في حقّ المدنيين الفلسطينيين مُوثّقة بالصوتِ والصورة، ولم يسبق لها مثيل في خطورتها ووحشيتها وطابعها القصدي
وعلى أهميتها، لا بدّ من تنسيب هذه الخطوة، إذ حرص المدّعي العام على أن يبرز في موقعِ المحايد من الصراعِ الدائر بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، بطلبِ إصدار مذكّرات اعتقال في حقِّ قادةٍ من حركة حماس، إسماعيل هنية ومحمد الضيف ويحيى السنوار، ولعلّه كان يبحث عن ترضيةٍ للولايات المتحدة على إثر الضغوط والتهديدات التي وجهتها له. لذلك نجده يساوي بين المحتل والمقاوم في ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، بل اللافت للانتباه أنّ قائمة الجرائم المنسوبة لقادة حركة حماس أطول وأخطر من المنسوبة لمجرمي الكيان المحتل، حيث تشمل الإبادة والقتل العمد وأخذ الرهائن والاغتصاب وغيره من أشكالِ العنف الجنسي والتعذيب والمعاملة القاسية والاعتداء على كرامةِ الفرد الموجّهة ضدَّ الأسر. وتناسى المدّعي العام أنّ القادة المذكورين يقودون حرب تحرير وطني، ويخوضون مقاومة مسلحة ضدّ احتلالٍ أجنبي لأراضيهم، وهي مقاومة يجيزها القانون الدولي، ولا يمكن، تبعًا لذلك، أن تُنسب لهم جرائم تدخل في اختصاصِ المحكمة التي تفترض انتهاكات خطيرة ومُمنهجة للقانون الدولي الإنساني وللحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، لا يمكن أن تنطبق على ما أقدمت عليه "حماس" يوم 7 أكتوبر وما بعده. ولا مجال للتناظر بين الطرفين المتنازعين باعتبار اختلال موازين القوى العسكرية بينهما والفجوة الشاسعة بين الآثار الإنسانية والحربية المترتبة عن الأفعال المنسوبة لكليهما، أضف إلى ذلك أنّ "حماس" وغيرها من فصائل المقاومة واجهت عسكريين ومواقع وأهداف عسكرية، ولم تستهدف المدنيين أو ممتلكاتهم ومؤسّساتهم المدنية، ولم تلحق ضررًا بهم إلا بصورة استثنائية وعرضية، في حين أنّ الكيان المحتل ألحق أضراراً فادحة وغير مبرّرة بالمدنيين وقتل ما يقارب 40 ألف من الفلسطينيين، أغلبهم نساء وأطفال، ودمّر كلّ مقومات العيش والحياة وشرّد الآلاف، بل استعمل التجويع والقتل والتشريد أسلوباً من أساليب الحرب، فالمساواة بين الطرفين تُعدّ من قبيل التضليل وذرِّ الرماد على العيون والتحامل المفرط على المقاومة المسلحة والتجاهل لشرعيتها.
يتأتّى تنسيب هذا القرار أيضًا من أنّ من المتوقّع أن تستخدم الولايات المتحدة كلّ ما في حوزتها من وسائل قانونيةٍ ودبلوماسيةٍ وسياسيةٍ لعرقلةِ هذا الإجراء الذي شرع في إثارته المدّعي العام. ولعلّ أبرز هذه الوسائل ما يخوّله نظام روما المحدث للمحكمة الجنائية الذي يجيز لمجلس الأمن أن يطلب من المحكمة توقيف التحقيق أو المقاضاة في جريمة من الجرائم المذكورة لمدة 12 شهرًا قابلة للتجديد، بناء على قرارٍ يتخذه بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بالإضافة إلى الضغط الذي يمكن أن تمارسه الولايات المتحدة على قضاةِ المحكمة لثنيهم عن البتّ لصالح إصدارِ مذكّرات التوقيف، وهي التي تعتبر أنّ هذه المحكمة أحدثت لتسلّط أحكامها على الأفارقة، ولتكون سيفاً مسلّطاً على رقابهم، ووسيلةً للابتزاز السياسي والقانوني للظفر بأكبر قدر ممكن من الغنائم والمصالح من دول العالم الثالث، ولتبرير الهيمنة الغربية عليهم، إذ لم يعُد يُخفى على أحد أنّ هذه الآليات القانونية والقضائية التي ابتكرها الغرب إنّما وُضِعت لتخدم مصالحه ولاستحكامِ سيطرته على العالم، وليس لفرض سيادة القانون الدولي أو لإحلال الشرعية والعدالة الدوليتين، لكنه يُفاجأ بها تنقلب ضدّه وتتجاوز الحدود المسموح لها بالتزامها وتفضح ازدواجية معاييره ونظرته الدونية والعنصرية لدول العالم الثالث أو الدول المتخلفة أو النامية. ولعلّ عدم انضمام الولايات المتحدة إلى معاهدةِ روما المحدثة للمحكمة الجنائية الدولية أبرز مثال على صلفها وتعاليها على الشرعيةِ الدولية.
ومهما يكن من أمر، يتنزّل قرار المدّعي العام، وإن بدا غير متوازن، في إطارِ القطع مع الإفلاتِ من العقاب والتأسيس للمساءلة لكلّ المتورّطين في ارتكابِ جرائم حرب أو جرائم إبادة جماعية أو جرائم ضدّ الإنسانية، مهما كانت انتماءاتهم الوطنية وولاءاتهم الدولية، وهو قرارٌ لا ينفصل عن التدابير الاحترازية التي اتخذتها محكمة العدل الدولية، بمبادرةٍ من جنوب افريقيا بشأن العدوان على غزّة ووجود شبهة ارتكاب جرائم إبادة جماعية ضدَّ الشعب الفلسطيني، بل هو تتويج لهذا القرار. ويستكمل هذا المسار القضائي التصاعدي بإصدار تدابير احترازية جديدة يوم 24 مايو/ أيار 2024 على إثر العمليات العدائية التي يشنّها الكيان الصهيوني على مدينة رفح بقطاع غزّة، وتقضي هذه التدابير بإلزام الكيان المحتل بوقف هجومه العسكري على رفح فوراً، ويصف الوضع الإنساني هناك بالكارثي والخطير باعتباره يتضمّن إلحاقَ أذى وضرر بالمدنيين لا يمكن إصلاحهما، ومن شأنه أن يفرضَ على الفلسطينيين ظروفًا معيشية يمكن أن تؤدّي الى تدميرهم المادي، كليًا أو جزئيًا، كما يعتبر أنّ ما اتّخذه الكيان المحتل من إجراءات وتدابير لحماية المدنيين غير كافية لتجنيبهم ويلات الحرب، وذكّرت المحكمة أيضا بما قضت به في قراراتها السابقة من ضرورةِ فتح المعابر لضمان وصول المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى قطاع غزّة وسكانه، وهذه القرارات تندرج ضمن تطبيق الاتفاقية الدولية المتعلّقة بمنعِ جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لسنة 1948.
تناسى كريم خان أنّ قادة حماس يخوضون مقاومة مسلحة ضدّ احتلالٍ أجنبي لأراضيهم، وهي مقاومة يجيزها القانون الدولي
هذه المسارات القضائية المتألفة والمتضامنة تشترك في أنّها تُجمع على إدانةِ الكيان المحتل والإقرار بما ارتكبه من مجازر وجرائم إبادة جماعية وتجويع وتهجير وقمع وتنكيل بالشعب الفلسطيني، وتكمن أهميتها فيما يترتب عنها من مآلاتٍ وآثار قانونية تتعلّق أساسًا بالمحاسبة والعقاب، وبمنع مرتكبي هذه الجرائم من الإفلات من العقاب، فالمادة السابعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لا تعتبر هذه الجريمة سياسية على صعيد تسليم المجرمين ، وتلزم الدول الأطراف في هذه الاتفاقية بتلبيةِ طلب تسليم مرتكبيها وفقًا لقوانينها وتقتضي التنصيص على عقوبات جنائية ناجعة تسلّط عليهم، كما تُخوّل الاتفاقية إثارة مسؤولية الدولة عن الإبادة الجماعية. وللإقرار بهذه مسؤولية أهمية كبرى في صورة ثبوت الإدانة، لأنها تُفضي إلى المطالبة أمام المحاكم الدولية والوطنية المختصّة بالتعويض عن الأضرارِ المادّية والمعنوية الجسيمة التي لحقت بالجماعة وبالأفراد الذين ارتُكبت في حقهم جرائم إبادة جماعية. وبالتالي، سواءً كان المسار القضائي، دوليًا أو داخليًا، وإن كان مرهقًا وشاقّا وطويلا، سيؤدّي الثبات عليه إلى نتائج باهرة للشعب الفلسطيني ومزلزله للكيان الصهيوني الذي سيكون مضطرّا إلى تحمّل كلّ أعباء إعادة الإعمار والتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت كلّ فرد من سكان قطاع غزّة لأنّ الدمار والخراب الذي تسبّبت فيه آلة الحرب الصهيونية قد لحق الجميع، وأبادَ عائلات بأكملها، وقضى على كلّ أثرٍ للحياة. لذلك، فإنّه يجب أن يُجابه التضليل الذي تمارسه دولة الاحتلال وشريكتها في الجريمة، الولايات المتحدة الأميركية، بشأن مسؤولية إعادة الاعمار والتعويض عن الأضرار بالحجة القانونية وبالقرار القضائي النافذ، فلا تتحمّل وزره الدول العربية "الغنية" التي تُستعمل لكنسِ جرائم الكيان المحتل وطمس آثارها وإصلاح أخطائه والتكفير عن خطاياه، وتهرع للأسف صاغرة إلى فعل ذلك، ترضيةً للولايات المتحدة وانصياعًا لأوامرها ورغبةً منهم في تسريعِ قطار التطبيع والبحث عن بدائل للمقاومة المسلحة التي أضحت تمثل خطراً استراتيجيًا لوجودهم، فمن يتحمّل مسؤولية إعادة الإعمار والتعويض عن ضحايا الإبادة الجماعية هي دولة الاحتلال التي ارتكبت هذه الجريمة وشركاؤها، فمرتكب الفعل الإجرامي بصورةٍ قصدية هو المسؤول عن جبْر الضرر، ونسبة الفعل إليه تُعدّ موجبة للعقاب وللتعويض، ولا يمكن إحالة هذه المسؤولية الى وكلاء آخرين أو تجزئتها أو التعسّف في استعمالها والتلاعب بها، ألم تقم ألمانيا بدفعِ التعويضات لليهود عن جرائم النازية في حقهم بين 1933 و1945 بمقتضي اتفاقية لوكسمبورغ التي تمّ التوقيع عليها بين إسرائيل وألمانيا الاتحادية سنة 1952، والتزمت بمقتضاها ألمانيا بدفع عشرات المليارات من الدولارات تعويضًا لليهود الناجين من الهولوكست ولدولة إسرائيل، وذلك على امتداد عقود متتالية؟ أليست "هولوكوست" غزّة أشدَّ وحشية وفتكًا من جرائم النازية، وتفترض تبعًا لذلك تعويضات للفلسطينيين المتضرّرين ولدولتهم تتناسب مع حجمِ الدمار والخراب الذي تسبّبت به؟
وسيشكّل قرار محكمة العدل الدولية أيضًا إحراجًا كبيرًا لمجلس الأمن، لأنّه ملزم بتنزيله على أرضِ الواقع، وفوراً، كما أوصت المحكمة، فافتقار هذه المحكمة للوسائل التنفيذية لقرارتها لا يُفترض أن يفضي إلى الإفلات من العقاب، لأنّه بإمكان الأمين العام للأمم المتحدة اللجوء إلى مجلس الأمن ليطلب منه إنفاذ القرار، وخصوصاً فيما يتعلّق بوقف الهجوم العسكري على مدينة رفح، وإيصال المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، ولن تجد الولايات المتحدة من الجرأة والعنجهية ومن المبرّرات ما يكفي لاستعمال حق الفيتو ضدَّ تنفيذ قرار يصدر عن أعلى محكمة دولية تمثل رمزًا للعدالة الدولية ولتطبيق القانون الدولي، لن يكون بمقدورها أن تمضي في عزلتها الدولية، وفي سقوطها المدوي في حضيض اللامعقول، واللاأخلاقي حتى، وإن أضمرت ذلك، فقد أضحى صوتُ طلاب جامعاتها المُنشد لملحمة غزّة والمنادي بالحريّة لفلسطين يقضّ مضاجع حكامها، إلى جانب تعالي الأصوات الدولية المذكّرة بإلزاميةِ قرارات المحكمة والمطالبة بضرورةِ تنفيذها، كصوتي الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، والمنسّق العام للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الذي اعتبر أنّ على الاتحاد الأوروبي أن يختار بين الانحياز إلى الشرعية الدولية أو المساندة للكيان المحتل، محمّلا الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مسؤوليتها التاريخية في الانتصارِ للحق والعدالة.
العزلة الدولية والإدانة سياسياً
ومن الناحية السياسية، يجدُ الكيانُ المحتل نفسه لأوّل مرّة في تاريخِ وجوده المندسّ يواجه هذا الزحف الهائل من التنديد والادانة والعزلة الدولية، ويتحول الى كيان منحرف مارق عن القانون منبوذ، بل يواجه قادته مذكرات اعتقال وخطر التسليم إلى السُلطات المختصّة للدول الأعضاء في معاهدة روما واتفاقية منع الإبادة الجماعية لمحاكمتهم، ولم تعدْ حجّة معاداة السامية التي كان يتشدّق بها مع حلفائه مجدية ومكفرة عن جرائمه التي تخطّت كلّ الحدود والمحظورات الإنسانية والقانونية والأخلاقية، وتحوّل دور الضحية وسردية المظلومية اللذان كانا سلاحه في استجلابِ التعاطف الدولي إلى وبالٍ عليه لأنهما دعتا العالم إلى أن يبحث عن الرواية الحقيقية للأحداث وللتاريخ دون تزييف أو تحريف، وحرّضت الضمير العالمي للشعوب على الصحوةِ لمجابهة أنظمتهم الرسمية المهادنة والمتواطئة.
لم يعُد يُخفى على أحد أنّ الآليات القانونية والقضائية التي ابتكرها الغرب إنّما وُضِعت لتخدم مصالحه ولاستحكام سيطرته على العالم
يمثّل المسار الثاني المتعلّق بالاعتراف بالدولة الفلسطينية أيضا مسارًا مخيفًا ومرعبا للكيان المحتل الذي أنكر على الفلسطينيين حقّهم في دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ وذات سيادة، تُعتبر تتويجًا لنضالهم ولحقّهم في تقريرِ المصير، اعترفت ثلاث دول أوروبية بالدولة الفلسطينية، وستتلوها دول أخرى على المدى القريب. وبالتالي، ستفضي هذه الاعترافات إلى الإجهازِ على مخطّطات الحركة الصهيونية التي امتدّت عقوداً لوأدِ القضيّة الفلسطينية بوصفها قضية تحرّر وطني ولتهجير الفلسطينيين وطمس معالم حقّ العودة للاجئين منهم، وإنكار كلّ المقرّرات الأممية المتعلّقة بالنزاع العربي الصهيوني، كما أنّه يصعب تصوّر تكرار سيناريو الفيتو الأميركي الذي عرقل قبول العضوية الكاملة للدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، وحرم الشعب الفلسطيني من حقّه المشروع في الانتماء إلى دولةٍ تمثله وتعبّر عن طموحاته وتطلعاته من دون تمييز أو إقصاء، فالولايات المتحدة لن تجرؤ على مجابهةِ شبه إجماع دولي على الاعتراف بالدولة الفلسطينية واعتبارها مقوّمًا من مقوّمات إرساء السلم في المنطقة، ما سيدفع أيضًا إلى تحميلِ المجتمع الدولي مسؤولية الإيفاء بالتزاماته في وقفِ العدوان على غزّة، وفي إيجادِ حلٍّ دائم وعادل للقضيّة الفلسطينية، وقد بدا ذلك جليّا عبر تصويت 143 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح منح العضوية الكاملة لفلسطين في المنظمة الأممية، وتدعم هذا التوجّه باعتراف إيرلندا وإسبانيا والنرويج بالدولة الفلسطينية، وما غضب الكيان المحتل وردّة فعله العنيفة إزاء هذه الاعترافات إلا دليل قاطع على أنّ الأمر أضحى يهدّد الكيان في وجوده، وأنّ الحليف الأميركي أضحى قاصرًا أو مقصّرًا في لعب دور الحامي والرادع لكلّ القوى المناوئة، وهو مؤشر على أنّ دولاً عديدة في الاتحاد الأوروبي تحرّرت من ولائها الأعمى للولايات المتحدة فيما يتعلّق بضبط سياساتها الخارجية، وباتتْ تبحث عن فكِّ الارتباط وكسرِ الهيمنة الأميركية وفاءً لإرثها الإنساني والحقوقي واستجابةً لمطالب شعوبها.
خلاصة القول إنّ ما تمرّ به القضية الفلسطينية منذ "7 أكتوبر" يقوق الخيال، ولم يكن بوسع أحد أن يتنبأ أنّ ما يحدث في أشهر معدودة يُعادل أو يزيد ما حدث طوال عقود من مراكمةٍ للمكاسب النضالية، فمن كسر لوهمِ التفوّق العسكري الإسرائيلي وأسطورة الجيش الذي لا يُقهر إلى تحطيمٍ لسردية الضحية والمظلومية اليهودية، إلى إعادةِ بحث وتدقيق في التاريخ والرواية المقدّمة عن الاحتلال وقهر الشعب الفلسطيني، إلى تصدّر أبشع صورة للكيان الصهيوني في تاريخه، وهي صورة الكيان المجرم المارق عن القانون المُرتكب لأفظع المجازر وأبشع أعمال الإبادة الجماعية، وأخيرًا إلى أن تكون القضية الفلسطينية في صدارةِ الأولويات والاستحقاقات الدولية وانقلاب التعاطف الدولي والشعبي إلى صفها بصورةٍ غير مسبوقة في تاريخها، وبالتالي، على جميع الأطياف والفصائل الفلسطينية والمناصرين للقضية الفلسطينية اقتناص هذه الفرصة التاريخية وتكثيف الفعل النضالي بمختلف أشكاله السياسية والقانونية والعسكرية والدبلوماسية وتوحيد الصفوف تحت راية واحدة تنشد الحريّة لفلسطين وتغلب قضيّة التحرّر على الولاءات الأخرى بمختلف تمظهراتها، وتعوّل على الذات الفلسطينية بدرجة أولى من دون الاتكال على "حلفاء" تحرّكهم المصالح والأهواء وتردعهم المخاوف والحسابات الضيقة.