غزة في مواجهة نظام ما بعد الاستعمار
لا تواجه غزة وباقي فصائل المقاومة الكيانَ الصهيوني فحسب، بل تواجه نظام الاستعمار الجديد، الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها من القوى الاستعمارية السابقة.
تشكل "النظام العالمي الجديد" بداية التسعينيات من القرن الماضي، بعد سقوط المعسكر الشيوعي، وشن الحرب على العراق، التي اعتبرها جورج بوش أوَّل حرب كبرى لهذا النظام الجديد
وقد سبق لباحثين أن وصفوا معالم هذا النظام، وبينوا أن مرحلة مابعد الكولونيالية، لا تعني نهاية الاستعمار، بل تشهد فرض نظام استعماري جديد، يقوم على التدخل العسكري، وترسيخ الهيمنة الثقافية المسيحية الصهيونية على باقي الحضارات؛ ويتأسس نظام ما بعد الاستعمار أيضًا على الفصل العنصري بين عالم أبيض وآخر أسود وملون، ويستخدم إسرائيل في الشرق الأوسط أداة لقتل أعدائها. وقد لخص علي الأمين مزروعي معالم هذا النظام العالمي الجديد بالقول: "نذهب إلى أن المسلمين هم ضحايا النظام العسكري من النظام العالمي الجديد، في حين أن السود هم ضحايا الجانب الاقتصادي من هذا الفصل العنصري العالمي الذي يتشكل".
لقد تشكل هذا "النظام العالمي الجديد" بداية التسعينيات من القرن الماضي، بعد سقوط المعسكر الشيوعي، وشن الحرب على العراق، التي اعتبرها جورج بوش أوَّل حرب كبرى لهذا النظام الجديد. ويؤرخ باحثون مثل المهدي المنجرة، وعلي المزروعي لحقبة الاستعمار الجديد ببداية العدوان الذي شنه التحالف الدولي على العراق، وتتكامل مقاربة هذين الباحثين في توصيف نظام ما بعد الاستعمار.
يذهب علي المزروعي إلى أن مرحلة ما بعد الكولونيالية تقوم على توجيه الآلة العسكرية لأميركا وحلفائها ضد بلدان الشرق الأوسط (العراق وأفغانستان، وليبيا، وسوريا واليمن)، وعلى الاستغلال الاقتصادي لثروات شعوب الجنوب، في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية.. بينما يرى المهدي المنجرة أن مرحلة ما بعد الاستعمار- خلافًا لباقي مراحل الاستعمار السابقة – تقودها الولايات المتحدة الأميركية التي لم تكن إمبراطورية استعمارية، وتتحالف مع الدول الاستعمارية السابقة، وتستخدم الكيان الصهيوني وكيلًا لها في الشرق الأوسط. وحسب المهدي المنجرة، يحرك مرحلة ما بعد الاستعمار رهان ثقافي حضاري، يتمثل في تسييد الثقافة الغربية، وتدمير المقومات الحضارية للشعوب الإسلامية، ومجتمعات العالم الثالث.
أعاد طوفان الأقصى القضية الفلسطينية من جديد إلى المسرح الدولي، وكشف عنصرية النظام العالمي وتحيزاته، وعجز مؤسساته عن وقف جرائم الإبادة عندما تُقترف ضد الآخر الفلسطيني
تشهد الحربُ على غزة على دقة توصيفات هذين المفكرين، فقد "شعر المسلمون- وخاصة في الشرق الأوسط- ببطش البنادق الأميركية والطائرات الإسرائيلية المدعومة أميركيًّا"، إذ أرسلت أميركا وباقي الدول الاستعمارية، منذ اندلاع طوفان الأقصى، شحنات أسلحة وذخيرة حربية لإسرائيل لإبادة الفلسطينيين، هذا من جانب.
ومن جانب آخر تمثل الضغوط السابقة على الدول العربية والإسلامية لإدخال تعديلات على نظمها الثقافية والاجتماعية والدينية آليات الإبادة غير العنيفة للثقافة الإسلامية ومنابعها الحضارية، ما دفع بالمهدي المنجرة وباحثين آخرين إلى الحديث عن ضرورة تصفية استعمار الثقافة، والتحرر فكريًا لمواجهة مرحلة ما بعد الاستعمار، التي تهدف إلى الحفاظ على الهيمنة الأميركية، وإخضاع النطاق الحضاري الإسلامي؛ الذي يقدم بدائل لمواجهة الهيمنة الغربية، ومنعه من التعبير عن نفسه كنطاق حضاري مستقل.
أعاد طوفان الأقصى القضية الفلسطينية من جديد إلى المسرح الدولي، وكشف عنصرية النظام العالمي وتحيزاته، وعجز مؤسساته عن وقف جرائم الإبادة عندما تُقترف ضد الآخر الفلسطيني. ويواجه نظام ما بعد الاستعمار النطاق الحضاري الإسلامي، لأن الإسلام "في الوقت الحاضر يمثل الثقافة الكبرى الوحيدة التي تتمرد على الغرب"، وتعرض رؤية حضارية مختلفة.
لقد وصفت بعض قيادات الكيان الصهيوني الفلسطيني بـ "الحيوان البشري"، ودعت إلى تدمير قطاع غزة تدميرًا كاملًا وإبادة سكانه، ولم ينتفض العالم ضد تلك التصريحات، ولم يمارس ضغوطًا على الكيان الصهيوني لاعتقال تلك القيادات، أو إنهاء مهامها. ويمكن التأكيد، أن العدوان على الشعب الفلسطيني، وفّر الكثير من الشواهد المادية على عنصرية النظام العالمي، وتحيزه للنطاق اليهودي، كما تحدّث عن ذلك مفكرون تحرريون منذ عقود.
التحليلات السائدة لا تضع عدوان الكيان الصهيوني على غزة، وباقي الحروب التي كان الشرق الأوسط مسرحًا لها، في إطار ما بعد الكولونيالية، ونادرًا ما تربط هذه التحليلات بين الثقافة الحديثة وتدمير الإنسان غير الغربي
وبيّن هذا العدوان، دون شك، أن منابع العدوان والتدمير تكمن في الإرث الغربي، العقلاني الحداثي والتنويري والإنسانوي، الذي صنف شعوب العالم وفق سلم حضاري، يحتل فيه الغربي مرتبة متقدمة، وتصنف وفقه باقي الشعوب المندرجة في صنف الآخر، مثل العرب والسود وباقي الملونين، في مرتبة دنيا.
وبقدر ما أزال عدوان الكيان الصهيوني اللثام عن هذا الواقع، فقد ساهم في تحريك مقدرات أحرار العالم لمواجهة نظام ما بعد الاستعمار، فلأول مرة ينتفض طلاب الجامعات الغربية لفصل المعرفة عن نظام القوة، فقد طالب هؤلاء بوقف التعاون العسكري مع الكيان الصهيوني، وتصدير السلاح إليه، ما يشكل في نظرنا تحديًا غير مسبوق لآليات اشتغال نظام ما بعد الاستعمار. وتمثل دعوى جنوب أفريقيا، ومبادرات الدول التي انضمت إليها، وعيًا متقدمًا بعنصرية النظام العالمي الجديد، وقد استفادت هذه الدول، من تجربتها في مواجهة الفصل العنصري، وحاولت استثمارها لمواجهة عنصرية النظام العالمي الجديد.
التحليلات السائدة في جانب كبير لا تضع عدوان الكيان الصهيوني على غزة، وباقي الحروب التي كان الشرق الأوسط مسرحًا لها، في إطار ما بعد الكولونيالية، ونادرًا ما تربط هذه التحليلات بين الثقافة الحديثة وتدمير الإنسان غير الغربي، وفي حالات قليلة فقط تكشف هذه التحليلات – كما فعل علي مزروعي – عنصرية النظام الدولي، وتحيزه ضد الإسلام.
ولقد آن الأوان لنقد تحيزات النظام الدولي العرقية والدينية؛ تحيزاته للإنسان الأبيض وللثقافة الدينية، على نحو ما بيّن علي المزروعي، وتقويض الحداثة، والحداثة السياسية الغربية بالخصوص، وعلى رأسها فكرة الدولة- الأمة، التي بررت جرائم الإبادة في حق الفلسطينيين، كما كشفت دراسات محمود ممداني.
كشفت الحرب على غزة الطبيعة الإجرامية للعقيدة العسكرية الإسرائيلية، التي تستهدف الأطفال والنساء والشيوخ لحسم المعارك، والأهم من هذا كله أن طوفان الأقصى دفع أحرار العالم إلى مقاومة نظام الاستعمار الجديد
لقد أسقطت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) نظام الخوف الذي أرسته سرديات الاحتلال، من قبيل "الجيش الذي لا يقهر"، و"الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وحررت المتخيلات الاجتماعية حول قدرة الفلسطينيين على المواجهة، وفككت البناءات الاستشراقية المغلوطة في الخبرة العسكرية حول الإسلام، من خلال المعاملة الأخلاقية لأسرى الكيان، مقارنة مع تعامل الكيان الصهيوني مع الأسرى الفلسطينيين.
وكشفت الحرب على غزة الطبيعة الإجرامية للعقيدة العسكرية الإسرائيلية، التي تستهدف الأطفال والنساء والشيوخ لحسم المعارك، والأهم من هذا كله أن طوفان الأقصى دفع أحرار العالم إلى مقاومة نظام الاستعمار الجديد. ويمكن لهذه التطورات أن تفضي إلى تغيرات فكرية كثيرة لصالح منبوذي العالم، لا سيما أن هناك موارد فكرية يمكن للمفكرين التحرريين استثمارها.
لقد وفر الفكر ما بعد الاستعماري، والديكولونيالي، والفكر الإسلامي الجديد -وهذا الأخير يعتبره عبد الوهاب المسيري جزءًا من فكر الجنوب- مفاهيم تسعف في فهم النظام الجديد، والتخلص من الهيمنة الفكرية والثقافية التي يفرضها.
ويدشن طوفان الأقصى مرحلة جديدة للتحرر الفكري؛ تحرر يضع موضع النقد الإرث الحضاري الغربي، وكونه مسؤولًا عن أزمات العالم المعاصر.