تحالف المسيحية الصهيونية واليهودية الصهيونية
أكدت دراسة حديثة للباحثين الأميركيين ستيفين والت وجون ميرشيمر أنه بعد نهاية الحرب الباردة لم يعد هناك مبرر منطقي لاستمرار العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشكلها الحالي، كما أن مبرر "المبادئ الديمقراطية المشتركة" لا يتماشى مع السياسات الإسرائيلية لما فيها من انتهاكات لحقوق الإنسان وللقوانين الدولية.
وتوحي الدراسة بأن جذور خطر الإرهاب التي تواجه الولايات المتحدة اليوم متعلقة باستمرار الدعم الأميركي لإسرائيل، وإن إسرائيل لم تعد "دولة بلا حيلة" نظرا لصعودها لمرتبة القوة العسكرية الأولى بلا منازع في المنطقة. وهذا ما يفرض البحث عن الأسباب الأخرى التي تعتمد عليها الولايات المتحدة في تقديم الدعم لإسرائيل.
تحالف اليمين المسيحي واللوبي الإسرائيلي
كان الحصول على دعم البروتستانت الأصوليين مهما بالنسبة للحزب الجمهوري، ثم أضيف إلى ذلك قناعة مفادها أن الحزب بحاجة إلى دعم الطبقات المتوسطة أيضا وليس فقط شريحة متدينة بعينها.
"
لا يقتصر التحالف المسيحي- الصهيوني على المسرح الأميركي، فعلاقة الحكومة الإسرائيلية بالمنظمات المسيحية-الصهيونية تمثل بعدا هاما للحلف
"
وكان هناك إدراك بأن السياسات الاقتصادية للجمهوريين تضر نفس الطبقات التي يسعى الحزب إلى كسب تأييدها، حيث إن الحزب متمسك بمبادئ الاقتصاد الحر ما يقلص من البرامج الحكومية التي تدعم الطبقات المتوسطة والمنخفضة الدخل.
فما المبرر الذي سيقنعهم بتأييد الحزب الجمهوري رغم سياساته الضارة؟ ووجد الجمهوريون الإجابة فيما يسمى "المبادئ المسيحية" أو "المبادئ الأسرية" Family Values. وهكذا بدأ التيار اليميني يدعي أنه المحافظ الرئيس على الأخلاقيات المسيحية الأصيلة التي فقدت في المجتمع نتيجة صعود التيارات الليبرالية، وهكذا تحول الحزب الجمهوري من حزب الأثرياء إلى حزب الأخلاق المسيحية.
ولا ينسب بداية التحالف بين الصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية ليوم محدد، فهذا التحالف ناتج عن تطورات متصلة منذ زمن بعيد، فالإيمان بحتمية ظهور دولة يهودية في فلسطين كجزء من النبوءة التوراتية لعودة المسيح أمر يعود للقرن السادس، ولكن باستطاعتنا أن نتابع نمو هذا التحالف بالولايات المتحدة خلال القرن الماضي.
من الجدير بالذكر أن أول جهد أميركي للدعوة لإنشاء دولة يهودية لا ينسب إلى المنظمات اليهودية بل للمبشر المسيحي الأصولي وليام بلاكستون.
وقد شن بلاكستون عام 1891 حملة سياسية للضغط على الرئيس بنيامين هاريسون من أجل دعم إنشاء دولة يهودية بفلسطين. ورغم أنها لم تسفر عن شيء، تعتبر حملة بلاكستون الظهور الأول للصهيونية المسيحية في السياسية الأميركية.
ورغم أن الصهيونية المسيحية لم تختف تماما في العهود التالية، فإن عودتها الحقيقية إلى الساحة السياسية كانت عام 1948 عند الإعلان عن تأسيس إسرائيل، وزادت قوة بعد الاستيلاء الإسرائيلي على الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس ومرتفعات الجولان السورية وصحراء سيناء المصرية عام 1967، حيث إن المجتمع البروتستانتي الأصولي نظر لهذا الحدث كتحقق لـ"النبوءة التوراتية" بانبثاق دولة يهودية بفلسطين.
وفي هذا الإطار كتب مفكر مسيحي صهيوني مباشرة بعد الحرب في دورية "المسيحية اليوم" Christianity Today "للمرة الأولى منذ أكثر من 2000 سنة القدس الآن في أيدي اليهود ما يعطي دارسي الكتاب المقدس إيمانا متجددا في دقته وصحة مضمونه".
تصهين اليمين المسيحي الأميركي
في حقبة السبعينيات والثمانينيات تحولت ظاهرة تصهين اليمين الأميركي، وتحالفه مع الصهيونية اليهودية إلى عنصر دائم في الواقع السياسي. وقبل عرض تفاصيل هذا التحالف يجوز ذكر النقاط التالية:
لا يقتصر التحالف المسيحي الصهيوني على المسرح الأميركي، فعلاقة الحكومة الإسرائيلية بالمنظمات المسيحية الصهيونية تمثل بعدا هاما للحلف. ويقال إن دور المنظمات المسيحية المتصهينة في جلب الدعم الأميركي لإسرائيل يرتفع عادة في أوقات حكم حزب الليكود.
تحالف الصهيونية المسيحية مع الصهيونية اليهودية بالولايات المتحدة ليس تحالفا شاملا، فبعض عناصر اللوبي الإسرائيلي غير مرحبين بمشاركة الجانب المسيحي الصهيوني في دعم إسرائيل.
بعكس الاعتقاد السائد، التيار المسيحي الصهيوني يمثل قوة سياسية مستقلة عن اللوبي الإسرائيلي من حيث الفكر الأيديولوجي والهوية ودوافع تقديم العون لإسرائيل.
"
التيار المسيحي-الصهيوني يمثل قوة سياسية مستقلة عن اللوبي الإسرائيلي من حيث الفكر الأيديولوجي والهوية ودوافع تقديم العون لإسرائيل
"
وازدادت صلابة هذا التحالف قوة في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات عندما بدأت شخصيات بارزة من تيار اليمين المسيحي تقر علنا بأن دعم إسرائيل فرض ديني لكل مسيحي، فقد قال جيري فالويل مؤسس حركة "لأغلبية الأخلاقية Moral Majority Movement إن "الوقوف ضد إسرائيل هو كالوقوف ضد الرب، نحن نؤمن بأن الكتاب المقدس والتاريخ يثبتان أن الرب يجازي كل أمة بناء على كيفية تعاملها مع إسرائيل".
وقد قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق مناحم بيغن جائزة جابوتنسكي Jabotinsky لفالويل عام 1981 تقديرا لدعمه لإسرائيل.
كما شهد عام 1980 تأسيس منظمة السفارة المسيحية العالمية بالقدس بهدف تقوية الدعم المسيحي العالمي لإسرائيل. وكانت القدس شهدت عام 1976 تأسيس منظمة جسور للسلام أو Bridges for Peace التي تصف مهمتها في تحقيق السلام على النحو التالي "نعطي من خلال برامجنا فرصة للمسيحيين، سواء داخل أو خارج إسرائيل، للتعبير عن مسؤوليتهم الكتابية أمام الرب كأولياء لإسرائيل وللمجتمع اليهودي".
وكانت هناك عدة عوامل ساعدت على صلابة التحالف بين الصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية:
أولا: ظهور اليمين المسيحي ما أدى إلى انتشار الفكر الصهيوني المسيحي داخل اليمين الأميركي.
ثانيا: نجاح جهود اللوبي الإسرائيلي بالولايات المتحدة في تقوية دعم واشنطن لإسرائيل بعد حرب 1967.
ثالثا: نجاح حزب الليكود في الفوز بأغلبية الكنيست عام 1977. ومن المعروف أن سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بيغن للتوسع في بناء المستوطنات حظيت بتشجيع المسيحيين الصهيونيين الأميركيين، وربما كان استخدامه المتكرر للاسم التوراتي للضفة الغربية "يهوذا وسامرة" Judea and Samaria في تصريحاته ساعد على إحياء فكرة عودة المسيح وصلتها بقيام الدولة اليهودية عند اليمين المسيحي.
وكشف التحالف عن نواياه في أواخر السبعينيات، عندما أعلن الرئيس الأميركي آنذاك جيمي كارتر ترحيبه بفكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، فقامت المنظمات اليهودية والمسيحية الصهيونية بإدانة تلك الفكرة من خلال إعلان نشر في الصحف الأميركية.
أما الرئيس الجمهوري رونالد ريغان فكان من المؤمنين بالصلة بين إنشاء الدولة الإسرائيلية وعودة المسيح، وجاء ذلك في حديث دار بينه وبين مدير لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية الأميركية (أيباك) الأسبق.
وتشير دراسة لأستاذ العلوم الدينية بجامعة نورث بارك بشيكاغو دونالد واغنر إلى أن منظمات اللوبي الإسرائيلي مثل إيباك والمؤسسات المسيحية الصهيونية اشتركوا في تنظيم ندوات بالبيت الأبيض لحث إدارة ريغان على مساندة الموقف الإسرائيلي.
وحضر تلك الندوات قيادات التيار المسيحي الصهيوني مثل جيري فالويل وبات روبرتسون وتيم لاهاي وإدوارد ماكتير، ومستشار الأمن القومي الأسبق روبرت ماكفرلين، وأوليفر نورث عضو مجلس الأمن القومي في عهد ريغان.
وفي واقعة تبرز قوة التيار المسيحي الصهيوني، يكتب واغنر أنه بعد تدمير إسرائيل للمفاعل النووي العراقي عام 1981 لم يقم رئيس الوزراء الإسرائيلي بيغن بالاتصال بالرئيس الأميركي، بل بأكبر زعماء اليمين المسيحي جيري فالويل طالبا منه أن يشرح للمجتمع المسيحي الأميركي أسباب الضربة الإسرائيلية للعراق.
ويضيف واغنر أن فالويل نجح في إقناع الرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ جيسي هيلمز ليصبح مؤيدا للضربة الإسرائيلية بعدما كان من أكبر منتقديها.
تراجع نسبي في عهد كلينتون
وهبطت قوة التحالف المتصهين في عهد الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون ولم تظهر له قوة كبيرة على السطح لعدة أسباب منها:
خلاف كلينتون مع منظمة أيباك قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين أن يتعامل مباشرة مع الإدارة الأميركية دون عون منظمات اللوبي ما دفع الحلف الصهيوني إلى الهوامش.
لم يرض معظم أعضاء اليمين المسيحي عن نتائج مباحثات أوسلو ودعم البيت الأبيض لها.
سيطرة حزب العمل على الكنيست أضعفت علاقة إسرائيل باليمين المسيحي المتصهين حيث إن الأخير عادة يفضل التعامل مع حزب الليكود.
تأثير فوز حزب الليكود الإسرائيلي
وبالتالي ساعد فوز الليكود بانتخابات 1996 على إعادة إحياء هذا التحالف، خاصة مع صعود بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة. وقد أقام نتنياهو علاقات وطيدة مع المنظمات المسيحية الصهيونية خلال خدمته مندوب إسرائيل الدائم بالأمم المتحدة في نيويورك.
وعند بداية خدمته طلب نتنياهو من المنظمات المسيحية الصهيونية جمع التبرعات المالية لإسرائيل بعد انخفاض تبرعات المنظمات اليهودية الأميركية جراء خلافات اعترت المجتمعات اليهودية بأميركا.
وقد شجع نتنياهو حلفاءه باليمين المسيحي على شن الحملات الإعلامية ضد مسيرة السلام. في هذا السياق قام نتنياهو بدعوة القيادات المسيحية الأصولية الأميركية لعقد مؤتمر بإسرائيل لإعلان دعم موقفها المعادي لعملية السلام. وعند عودتهم للولايات المتحدة شنت تلك المنظمات حملة إعلامية ركزت على انتقاد مقترح تقسيم القدس.
كما رددت تلك المنظمات ادعاءات إسرائيلية عن سوء معاملة السلطة الفلسطينية للمسيحيين.
في عهد جورج بوش
"
نجد في عهد الرئيس بوش دورا ملحوظا للتحالف الصهيوني في تحديد مسار السياسة الأميركية عندما توقف بوش عن مطالبة إسرائيل بالانسحاب الفوري من الضفة الغربية
"
عاد دور التحالف المسيحي اليهودي ليبرز مجددا ويقوى في عهد الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن، وينسب ذلك لعدة أسباب:
تحكم الليكود في الحكومة الإسرائيلية ما قوى من دور المسيحيين الصهيونيين بالولايات المتحدة.
نجاح الحزب الجمهوري في انتخابات 2000 ما قوى من نفوذ اليمين المسيحي ومنه التيار المسيحي المتصهين.
وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عزز الفكر المسيحي المتصهين، وساعد على تقوية التحالف بين المنظمات اليهودية والمسيحية بالولايات المتحدة كنوع من التصدي لخطر "الإسلام الأصولي".
وفي عهد الرئيس بوش برز دور ملحوظ للتحالف الصهيوني في تحديد مسار السياسة الأميركية خاصة عام 2002، ومن أمثلة ذلك الحملة الإعلامية الشرسة التي شنها التحالف الصهيوني ضد دعوات بوش إسرائيل للانسحاب من الضفة الغربية، وأدت تلك الحملة إلى تراجع بوش عن موقفه والتوقف عن مطالبة إسرائيل بالانسحاب.
وظهرت في السنوات الماضية منظمات يمينية مسيحية مؤيدة لإسرائيل مثل قف بجانب إسرائيل أو Stand for Israel التي أسسها أحد أعضاء اليمين المسيحي ويدعى غاري بوار.
وقد حضر أول مؤتمر سنوي للمنظمة السفير الإسرائيلي في واشنطن دانيال أيالون وزير العدل السابق جون آشكروفت إضافة إلى العديد من أعضاء الكونغرس.
فهي إذن خطوط بيانية صاعدة وهابطة في وجودها وتأثيراتها في المحيط الثقافي والسياسي الذي تعمل فيه.