حماس بعد عام من طوفان الأقصى
بعد عام من طوفان الأقصى تتجلى آثار المسار الذي بدأته العملية على حركة المقاومة الإسلامية (
حماس) والقضية الفلسطينية بشكل واضح، بعد أن كان مشروع التطبيع وتشكيل تحالف عربي
إسرائيلي هو من يفرض إيقاع السياسة في المنطقة لسنوات سابقة.
وأعاد الطوفان مشروع الحركة إلى هيئته الأولى، عند انطلاقها كحركة مقاومة تعتمد الكفاح المسلح
الطريق الأساسي لمجابهة الاحتلال ورفع كلفته ومنع راحته.
وهو المسار الذي فرض نفسه على الإقليم، ليصبح الاشتباك العسكري ممتدا من الضفة الغربية وغزة
إلى لبنان واليمن والعراق وإيران، وما يجاورها من مسطحات مائية.
ووفي موازاة ذلك، تزداد شعبية حماس في فلسطين والعالم، وتتوثق علاقتها بالدول والقوى المناوئة
للهيمنة الأميركية في العالم، وتتعزز مكانتها السياسية رغم ما تعرضت له بنيتها العسكرية والتنظيمية
في القطاع من ضربات إسرائيلية.
شكلت عملية طوفان الأقصى قرارا بالحسم بين خياري الحكم والمقاومة بعد وصول محاولة الجمع
بينهما إلى طريق مسدود، بفعل الرفض الدولي لنتائج الانتخابات والابتزاز الإسرائيلي المستدام
للقطاع من خلال محاولة مقايضة الاحتياجات الإنسانية لأهل القطاع بالهدوء وبالتنازلات السياسية
والتخلي عن بقية ملفات القضية الفلسطينية.
ووظفت حماس جميع ما راكمته من قوة وموارد خلال فترة حكمها للقطاع لإيقاع أكبر ضرر ممكن
بالاحتلال، ثم لاستنزاف جيشه على مدار عام كامل.
وهو ما انعكس -وإن بعد حين- على الضفة الغربية التي أصبحت في حالة مواجهة واسعة مع
إسرائيل، وكذلك الحال في جبهة شمال فلسطين، حيث دخل حزب الله اللبناني حالة حرب مع الاحتلال،
بعد عام من الاستنزاف.
ووجدت جماعة أنصار الله الحوثيين لها مدخلا للانخراط في المواجهة، من خلال محاولة فرض
حصار بحري على إسرائيل، والضغط على حلفائه، وكذلك الحال، وبدرجة أقل، للعديد من الفصائل
العراقية، وأخيرا بدخول إيران إلى المواجهة العسكرية المباشرة مع إسرائيل.
وأسهمت هذه الحال في إضعاف مكانة إسرائيل وصورتها الدولية والإقليمية، واستنزفتها سياسيا
واقتصاديا وعسكريا واجتماعيا.
البرنامج يفرض نفسه
وشكل مجموع هذه التطورات تغييرا لاتجاه المسار السياسي للمنطقة عما كان عليه قبل السابع من
أكتوبر/تشرين الأول، إذ يرسم هذا الاشتباك الواسع مشهد الرفض الفلسطيني والعربي والإسلامي
لبقاء إسرائيل ولجرائمها المستمرة على مدار 76 عاما.
وذلك بدلا من مسار تطبيع وجودها والتحالف العربي معها وتحويل بوصلة الرفض والعداء لتصبح
باتجاه الانقسام الطائفي في المنطقة، وهو انقسام تاريخي لا يمكن حسمه، وتصعيده كفيل باستنزاف
شعوب المنطقة لأجيال دون طائل.
وكنتيجة لهذا الدور الذي عبّر عن حاجة الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية تصاعدت
شعبية حركة حماس بشكل استثنائي في فلسطين وخارجها، كما تدل المسيرات الضخمة التي انطلقت
في المئات من دول العالم، وما تدل عليه استطلاعات رأي في فلسطين وخارجها، إلا أن الحركة لا
تنجح بشكل واضح في استثمار هذا التأييد الشعبي الجارف لها، وبما يدمجه بشكل مستدام ومنظم في
مواجهة الاحتلال.
بين الغرب والشرق
وفي المقابل ازداد الموقف الرسمي للدول الراعية لإسرائيل تشددا تجاه حركة حماس، وخصوصا في
النصف الأول من عام الطوفان، إلا أن استمرار جرائم جيش الاحتلال، وتزايد التضامن الشعبي مع
القضية الفلسطينية ومع الحركة التي تصدرت لمواجهة الاحتلال، أدى إلى تراجع نسبي في مستوى
التشدد تجاه الحركة -والموقف من الحرب عموما- وإن كان الرهان الغربي على ترويضها ودمجها
في منظومة التسوية السلمية قد سقط إلى أجل غير مسمى على ما يبدو.
وعلى الصعيد المقابل تطورت العلاقة السياسية لحماس مع كل من روسيا والصين وإيران، نظرا
لتزايد تأثير الحركة الإقليمي، وبفعل تصاعد الصراع بين هذه الدول والولايات المتحدة، بما يجعلها
معنية بشكل متزايد بتحدي السياسة الأميركية في الإقليم.
وظهر ذلك في المواقف السياسية المعلنة تجاه الصراع وفي استخدام روسيا الفيتو ضد مشروع قرار
في مجلس الأمن يصف حركة حماس بالإرهاب، إضافة إلى تبني موقف مقارب لموقفها بشأن مختلف
مشاريع القرارات الغربية بشأن الحرب في غزة.
كما أصبحت الصين أكثر انفتاحا على عقد لقاءات رفيعة المستوى مع حركة حماس، ودعوتها وبقية
الفصائل إلى لقاء للمصالحة في بكين.
في حين استمرت الاتصالات السياسية المكثفة بين الحركة وكل من قطر وتركيا وإيران وماليزيا
ومصر والعراق والجزائر ولبنان.
غير أن قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال 3 من قادة حماس يعتبر تصعيدا في الموقف القانوني
الدولي تجاه الحركة، وإن كان الاحتلال هو المتضرر الأكبر من هذه القرارات، إذ إنها تطال أيضا
مسؤوليه، وهم ممثلو دولة تقوم دعايتها الدولية على المظلومية وادعاء الأفضلية الأخلاقية في محيط
“متوحش”.
تحديات ومخاطر
لا شك في أن بنية الحركة والحاضنة الشعبية لها قد تعرضت إلى أذى بالغ بفعل حجم جرائم إسرائيل
التي أوقعت نحو 50 ألف شهيد ونحو 100 ألف جريح، والتي استهدفت تقويض بنية الحركة بالمقام
الأول، ودفع الشعب للانفضاض من حولها.
في حين سعى الاحتلال إلى تقويض التسلسل القيادي السياسي والعسكري من خلال الاغتيالات واسعة
النطاق، التي طالت رئيس الحركة إسماعيل هنية ونائبه صالح العاروري وعددا من أعضاء القيادة
السياسية وأعضاء المجلس العسكري لكتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس،
ورغم ذلك لا تزال البنية التنظيمية للحركة تعمل بلا خلل ظاهر، وتستمر أدوار التحكم والسيطرة داخل
فلسطين وخارجها.
إذ توافقت الحركة على اختيار يحيى السنوار رئيسا جديدا، رغم ظروف الحرب التي تفرض صعوبات
بالغة على الإجراءات التنظيمية التقليدية في حالات كهذه، كما قامت كتائب القسام بتجنيد آلاف
المقاتلين الجدد.
وعلى المستوى الأمني كانت المواجهة على أشدها على مدار العام، إذ سعى الاحتلال إلى استرداد
أسراه بالقوة العسكرية، وهو ما لاقى فشلا في العموم، إذ كان الموت مصير أغلب من حاول
تحريرهم، في حين بقيت أغلبية الأسرى بعيدين عن منال يده.
وكانت الاغتيالات ساحة أخرى للمواجهة الأمنية، التي تمكن فيها الجيش الإسرائيلي من إلحاق ضرر
جزئي بالحركة، إلا أن استمرار البنى الهرمية للعمل يؤدي بطبيعة الحال إلى فرز القيادات البديلة أولا
بأول.
ووفقا لتقارير إعلامية فإن غالبية كتائب القسام العاملة في غزة بقيت بحالة تمكنها من القتال، وهي
ترمم قدراتها بشكل مستمر وتطور تكتيكاتها وفقا لمقتضيات المواجهة، وهو ما يثبته استمرار
العمليات العسكرية في مختلف مناطق الاحتكاك مع قوات الاحتلال.
ترسانة الصواريخ
في حين يظهر تراجع القوة الصاروخية، التي كانت تطلق مئات الصواريخ في الأيام الأولى للحرب،
واقتصرت على قذائف الهاون في غالبية أيام الأشهر الماضية، مما يشير إلى أنها تضررت بشدة على
ما يبدو، سواء بفعل الاستنزاف الناشئ عن طول أمد القتال، أو بفعل النطاق الواسع للقصف
الإسرائيلي، وقد لا ترغب القسام بالمبادرة إلى إطلاق ما يتوفر لديها من صواريخ لتجنب تصعيد
القصف الإسرائيلي على المدنيين.
وفي هذا السياق تظهر الفيديوهات الصادرة عن كتائب القسام لجوءها إلى إعادة تدوير ما لم ينفجر
من صواريخ وقنابل الاحتلال، وهو ما يوفر مصدرا يعوض جزئيا التبعات العسكرية لإحكام الحصار
على القطاع منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
بينما تشكل المعاناة الإنسانية الهائلة في القطاع عامل الاستهداف الأكبر على حماس، بفعل تراكم
مفاعيل الحصار، وسعي الاحتلال وجهات فلسطينية وإقليمية إلى خلق اقتتال فلسطيني داخلي في
القطاع، وإشاعة جو الفوضى بما يكسر قدرة الشعب على تدبير أموره بالحد المتوفر من الموارد.
وهو ما نجحت الحركة في مواجهته نسبيا، إذ تمت توافقات فصائلية بشأن الإغاثة العاجلة، وهو ما
يتحقق نوعا ما في الأماكن التي لا توجد فيها قوات الاحتلال.
في حين يشكل دخول حزب الله وإيران إلى المواجهة بشكل أوسع تعزيزا معنويا لسكان القطاع، وإن
كان يهدد بتخفيف التركيز عليهم، الذي يقلل مستوى الردود السياسية والاستجابة الإنسانية للجرائم
الإسرائيلية مستقبلا.
وبالمحصلة تشير مجمل هذه العوامل إلى أن الوزن السياسي للحركة يرتفع، مما يرشحها إلى لعب
دور أكبر في مستقبل القضية الفلسطينية.
مخاطرة جوهرية
لا شك من أن قرار الطوفان الذي اتخذته الحركة أدخلها في مخاطرة سياسية وعسكرية جوهرية، ولا
تزال المخاطر قائمة، إلا أن الفرص المذكورة توازيها أو تزيد عليها.
ويتعزز هذا التقدير إذا تم تقييم الأمر بمنظور مكاني وزماني واسع، فمقابل الاستنزاف في الجانب
الفلسطيني واللبناني يتعرض الاحتلال للاستنزاف في غزة والضفة ولبنان وعبر الجو والبحر، كما
أنه يستنزف على صعيد الشرعية الدولية.
وعلى الصعيد الزماني، فإن ملاحظة أن الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال منذ أكثر من 100 عام،
وأنه قد جرب طرقا كثيرة للتحرر لم ينجح أي منها، وأن آخرها دخول الانتخابات ومحاولة المراهنة
على وجود فرصة معقولة للإنصاف في النظام الدولي، وهو ما كان الرد الدولي عليه حصار غزة
وابتزازها سياسيا لمدة 17 عاما.
ودعم ذلك تقدير حماس عند اتخاذها قرار الطوفان بأن إيقاف مسار تصفية القضية الفلسطينية
بمختلف جوانبها من دون مخاطرة كهذه لم يكن ممكنا على الأرجح، وهو ما تعززه طبيعة الثورات
على الاحتلال، التي لا تنجح غالبا دون التسبب بأذى شديد للاحتلال، وهو ما يرد عليه بكثير من
العنف، إلى أن يضطر في حال استمرار مقاومته إلى الاندحار.