ألمانيا عندما تأبى أن تتطهَّر من خطيئة الإبادة الجماعية
تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، المُبرِّرة والمُؤيِّدة جريمة الإبادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزّة، مثيرة للاشمئزاز، ولكنّها ليست مُفاجئِة ولا مُستغَربة، بل متَّسقة مع تاريخ ألمانيا وحاضرها الإجرامي الفظيع والملطَّخ بالدماء. وكانت بيربوك قد قالت أمام البرلمان الألماني، بمناسبة الذكرى الأولى لعملية طوفان الأقصى، التي شنّتها حركة حماس ضدّ الاحتلال الإسرائيلي في منطقة غلاف غزّة في 7 أكتوبر (2023) إنّ “حق الدفاع عن النفس لا يعني مهاجمة الإرهابيين فحسب، بل تدميرهم”. وأضافت: “عندما يختبئ إرهابيو حماس بين الناس وخلف المدارس، فإنّ الأماكن المدنية تفقد وضع الحماية، لأنّ الإرهابيين ينتهكونها”، مشدّدة على أنّ “أمن إسرائيل جزء أساس من وجود ألمانيا الحالية، وحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها هو مسؤوليتنا أيضاً”.
لن تخوض هذه السطور في تهافت مزاعم بيربوك القانونية، فالقوانين والإعلانات والاتفاقيات الدولية تدحضها، وتؤكّد بطلانها، وقد أوضح خبراءٌ قانونيون كثر ذلك. ما يعنينا هنا أنّ تصريحات بيربوك (للمفارقة، تنتمي إلى حزب الخضر ومشهورة بالدفاع عن حقوق الإنسان وحماية البيئة!)، لا تمثّل خروجاً من السياق المعياري الألماني، كولونيالياً وعنصرياً، في التعامل مع من تقاربهم على أنّهم “الآخر”. مثلاً، قامت الإمبراطورية الألمانية باستعمار ناميبيا الواقعة جنوب غربي قارّة أفريقيا، في الفترة الممتدَّة ما بين 1884 وحتّى 1915. وعلى مدى ثلاثة عقود ارتكبت قوّاتها (ومستوطنوها) جرائمَ يندى لها الجبين بحقّ السكّان الأصليين، تضمَّنت تهجيرهم من أراضيهم وحشرهم في “محميّات”، أي معسكرات اعتقال. كما تعرّض السكّان الأصليون للاستعباد، وفُرِضت عليهم السُّخْرَة، ومُورِست في حقّهم أقسى وأحطُّ وسائل القمع والإرهاب، من القتل والجلد، إلى الاغتصاب والاستغلال الجنسي. دع عنك تحويلهم لفئرانَ تجارب طبيّة، مثل حقن كثيرين منهم بالأفيون والزرنيخ وغيرهما من الموادّ، في مسعى إلى إيجاد علاجات لأمراض معيّنة. وأمام هذه الوحشية الألمانية، ثار السكّان الأصليون من شعبَي هيريرو وناما عام 1904، إلّا أنّ ألمانيا ردَّت بوحشية أكبر، فأبادت نحو 65 ألف شخص من أصل 80 ألفاً من قبائل الهيريرو، وأكثر من عشرة آلاف شخص من قبائل الناما، وكان عددهم حينها 20 ألفاً. ورغم أنّ الأمم المتحدة اعتبرت عام 1985 ما جرى لشعبَي الهيريرو والناما إبادة جماعية، فإنّ ألمانيا لم تعترف بذلك إلّا عام 2021، ولكن بطريقة مخزية، تنمّ عن احتقارٍ لضحاياها الأفارقة، إذ أصدرت إعلاناً مشتركاً مع ناميبيا تعهَّدت بموجبه بدفع 1.1 مليار يورو للحكومة الناميبية مقسطة على 30 عاماً، على أن تُنفَق في المناطق التي يعيش فيها الآن أحفاد ضحاياها.
ولم تكد ألمانيا تطوي صفحة العار في ناميبيا، حتّى كانت تفتح (مع دول أوروبية أخرى) صفحة إجرامٍ أشدَّ وأنكى في أوروبا وبعض مناطق أفريقيا والشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، تسبّبت في مقتل أكثر من 17 مليون إنسان وإصابة عشرات الملايين. ويذكر لألمانيا هنا أنّها كانت أوّل من استخدم الأسلحة الكيماوية والغازات السامّة خلال تلك الحرب. ثمَّ كانت الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، التي كانت ألمانيا النازية، مع دول أوروبية أخرى، والولايات المتّحدة، والاتحاد السوفييتي، واليابان، أقطابها، وقد قُتِل فيها ما لا يقلّ عن 73 مليون إنسان، وأصيب عشرات الملايين غيرهم. في تلك الحرب لم تكن ألمانيا أقلّ إجراماً من بريطانيا وفرنسا وأميركا والاتحاد السوفييتي واليابان. وتاريخ ألمانيا المُخزي هنا مُسجَّل ومُوثَّق، على أساس أنّها خرجت مع إيطاليا واليابان مهزومة، من دون أن ينتقص ذلك من نصيب إجرام المنتصرين وشركاء ألمانيا في الهزيمة. ولا تنكر ألمانيا ما نُسِبَ إليها من فظائع وتهم بالإبادة الجماعية خلال الحرب العالمية الثانية، إذ إنّها تقرّ بإبادة ملايين اليهود والبولنديين والغجر وذوي الإعاقات في الهولوكوست، هذا فضلاً عن قتلها ثلاثة ملايين أسير حرب سوفييتي. ومرّة أخرى، لا ينبغي أبداً نسيان عشرات الملايين من البشر الذين أبادهم الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون والسوفييت واليابانيون في أوروبا، بما في ذلك في ألمانيا، وفي الصين ودول آسيوية أخرى، بما في ذلك اليابان نفسها.
لم تعمل ألمانيا، المجرمة والضحية (بفعل صنائعها) في آن، على التعلّم من خطاياها والتطهّر من جرائمها المدمّرة حتّى اليوم، بل إنّها ماضية في غِيِّها. على مدى أربعة عشر عاماً، منذ عام 1952، دفعت ألمانيا ما يعادل اليوم ثلاثة مليارات دولار تعويضات لإسرائيل لقاء ما فعلته باليهود خلال الحرب العالمية الثانية. لكنّها لم تقف عند ذلك الحدّ، إذ عملت على تقديم مساعدات عسكرية للدولة العبرية، وبيعها أنظمة تسليح حديثة استخدمتها الأخيرة على مدى العقود الماضية في عدوانها على العرب والفلسطينيين. وألمانيا هي الدولة الثانية، بعد الولايات المتّحدة، من جهة الدعم العسكري المُقدَّم لإسرائيل. مثلاً، في عام 2023 وحده وَرَّدت ألمانيا لإسرائيل مُعدَّاتٍ عسكرية وأسلحة حربية بقيمة 356 مليون دولار (30% من مجموع الأسلحة التي تلقَّتها إسرائيل العام الماضي). ومع أنّ هذا الرقم كان أقلّ بحوالي 16.4 مليون دولار هذا العام، إلّا أنّه يبقى كبيراً. وبناء على هذه المعطيات رفعت نيكاراغوا في وقت سابق من هذا العام دعوى قضائية ضدَّ ألمانيا أمام محكمة العدل الدولية، متَّهمة إياها بمخالفة التزاماتها بموجب “اتفاقية الإبادة الجماعية”. ورغم أنّ المحكمة رفضت الدعوى، فإنّ التبرير الذي قدّمته ألمانيا أمامها لمساهمتها في جرائم إسرائيل كان لافتاً. “تاريخنا هو السبب وراء كون أمن إسرائيل في صميم السياسة الخارجية الألمانية”. هكذا قالت رئيسة فريق الدفاع القانوني الألماني فون أوسلار غليشين، في إشارة إلى جريمة ألمانيا في الهولوكوست. أي إنّ ألمانيا لا ترى مانعاً في أن تكفّر عن جريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبتها في حقّ اليهود في الحرب العالمية الثانية بتمكين إسرائيل من ارتكاب إبادة جماعية بحقّ الفلسطينيين في قطاع غزّة (!)
من هنا، يتّضح أنّ تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، لم تكن خروجاً عن سياق تاريخ ألمانيا المُخزي والإجرامي. كلّ ما في الأمر أنّ هُويَّة الضحية هي من تتحوّل من فترة زمنية إلى أخرى، كما أنّ الذرائع تتغيّر، لكن يبقى جوهر الجريمة واحدٌ، ألا وهو أنّ حضارة الرجل الأبيض لا ترى مثلمة في جرائم الإبادة ما دامت هي من ترتكبها، وما دام الضحية هو “الآخر”.