الأنا الفلسطينية في زمن الإبادة
نحن الفلسطينيين شعب واحد، ولكنّنا مختلفون في الرؤى والمكنون والهُويَّة الوطنية والجغرافيا. تجمعنا مأساة الاحتلال، وهدفنا التحرّر والاستقلال، ولكننا نختلف في ما بيننا في كثير من الاجتهادات والتفاصيل المهمّة المتعلّقة بكيفية الوصول إلى هذه الأهداف. لذلك، من المهمّ جدّاً، في هذه المرحلة الحرجة التي تمرّ بها القضية، أن ندرك أنّ هذا الاختلاف طبيعي، ويجب أن نبني عليه، لا أن نجعله يُشرذمنا ويُضعفنا. ولا ينبغي أن تكون هناك أصوات إقصائية تمنع طرح الأسئلة الصعبة، بل ينبغي أن نحتضن الاختلاف في الرأي، حتّى لو تبنّى الأكثرية شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
علينا إذاً أن ندرك ونتقبّل هذه الاختلافات حتّى نتجاوزها، ومن ثمّ نبني على ما يمكن أن تقدّمه من فرص في مواصلة نضالنا العادل. ولكن علينا، قبل ذلك، أن نسأل أنفسنا: كيف ولماذا نحن مختلفون؟ ... نختلف بحكم ما أنتجته دولة الاحتلال من فصل جغرافي باعد غزّة من الضفّة، ومن أهلنا في الداخل المحتلّ. نختلف لأنّ هناك هُويَّة ثقافية، مجتمعية، قبلية وطبقية متنوّعة، في أرضنا المحتلّة. نختلف لأنّ عديدين من أبناء غزّة وبناتها ينظرون إلى العالم من نوافذ الجغرافيا والسينما والرياضة لجارتنا مصر الشقيقة بحكم صلة الجغرافيا والتاريخ، وينطبق ذلك على أهلنا في الضفّة الغربية من نافذة الأردن الشقيق. نختلف لأنّ هناك هوّة مجتمعية، ثقافية واقتصادية، بين أجزاء الوطن المحتلّ بفعل سياسات الاحتلال، وأيضاً لأنّنا فلسطينيون ساهمنا بطريقة ما في إنتاج هذه الهوّات، بإهمالنا لها وتركها تمتدّ.
نختلف لأنّ أجيالاً منّا تهجّرت وانتهى بها المطاف في مخيَّمات اللاجئين والاستقرار في مجتمعات ودول مختلفة في بقية أنحاء العالم. نختلف لأنّ الأجيال الشابّة داخل بقايا الوطن المحتلّ، وفي الشتات، اختلف منظورها، واختلفت سرديّتها، بحكم تقادم القضية ونشأة أجيال فلسطينية كاملة في بلدان ومجتمعات جديدة، تشرّبت هُويَّتها وثقافتها. نختلف لأنّ حركة التحرّر الفلسطينية تشرذمت وتشتَّتت وأصبحت لها استراتيجيات ومرجعيات مختلفة، بل وأهداف تحرّرية متضادّة في بعض الأحيان. ونختلف في أمورٍ كثيرة يطول شرحها.
متى عرفنا "الأنا" الفلسطينية ستنفتح لنا الآفاق كلّها، ولن تكون الرؤية ضبابيةً وغامضةً كما هي الآن
نحن بحكم الواقع الآن شعب مشتّت ومليء بالاختلافات، وهناك حاجة ملحّة لأن نتعرّف بشكل أفضل إلى بعضنا بعضاً، بدلاً من الانجرار وراء الشحن الإعلامي والسياسي والأيديولوجي، من دون فهم وتعمّق لما أصبحنا عليه الآن. صدقاً، هناك حاجة لأن يتعرّف أبناء غزّة والضفّة والداخل والشتات إلى بعضهم بشكل أفضل، وهادئ ومتعمق، حتّى يمكننا أن نتخطّى الجُزر المكانية والهُويَّاتية المنفصلة التي صنعها الاحتلال، وتركناها نحن بإهمالنا شعباً ومجتمعاً وسياسيين.
نحتاج إلى التعرّف إلى بعضنا بشكل هادئ ومتعمّق، حتّى نستطيع الوصول إلى أرضيةٍ مشتركةٍ ننطلق منها. عندما نتعرّف إلى بعضنا بشكل أفضل، سيتحوّل هذا الاختلاف إلى تنوّع إيجابي ينشئ ديناميكيات جديدة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني المتشرذم الآن، ولكنّه مليء بالحيوية والقدرات. حالة التشتّت هذه يمكن أن تتحوّل تنظيماً وتياراً جارفاً إذا أحسنا استغلاله. ولا نحتاج إلى الذهاب بعيداً في التجارب، يكفينا أن ننظر وندرس نشأة الحركة الصهيونية، وكيف وحّدت الصهاينة وأخرجتهم من حالة التيه، ونتعلّم منهم لاسترجاع وطننا المسلوب.
أوّل خطوة في هذه الطريق هي إدراك اختلافاتنا شعباً، والوصول إلى أرضية مشتركة نبدأ منها قبل حتّى الحديث عن مشاريع التحرّر. متى عرفنا "الأنا" الفلسطينية ستنفتح لنا الآفاق كلّها، ولن تكون الرؤية ضبابيةً وغامضةً كما هي الآن.
"تحرير فلسطين ولبنان" من شعبيهما
على عكس التيار الصهيوني، الغالب في تأييده حرب الإبادة في فلسطين وما يقابلها في لبنان، ثمة بعضٌ عربي يروج ويصدق واهماً أكاذيب واشنطن، خصوصاً حول ضرورة "تحييد المدنيين ودخول المساعدات الإنسانية"، تزامناً مع وقاحة منح تل أبيب مهلة شهر لتهجير سكان شمال قطاع غزة. هذا البعض يذهب في تماهيه مع السردية الصهيونية، التي ينفضّ عنها غربيون ويهود معادون لها، إلى القول: "انظروا ماذا فعلت المقاومة بشعبها".
حرب الإبادة والاستهداف المتعمد للمستشفيات والبنى التحتية المدنية، إن في قطاع غزة أو في لبنان، وبأسلحة وذخائر الولايات المتحدة التي تكذب منذ أكثر من سنة، يردّها رهط مرددي السردية الصهيونية إلى "الإرهابيين المتعصبين". وقاحة الأمر، واحتقار العقل وبلغة ضاد لا تشبه العرب، تحيل الممارسة التطهيرية المتوارثة من زمن عصابات الإرهاب الصهيوني المنظّم قبل عام نكبة 1948 إلى "ردود أفعال على المتطرفين"، أي على الفعل المقاوم برمته. ليس غريباً إذاً في السياق تحميل الضحايا مسؤولية الجرائم المرتكبة بحقهم. وذلك ربما ينسجم مع ترهات "المتحدثين" باسم جيش الاحتلال.
منذ بداية الحرب على غزة كرر البيت الأبيض ووزير خارجيته أنتوني بلينكن القول إنهما يعارضان احتلال قطاع غزة. التصريحات تلك ليست سوى استمرار لأكبر عملية تحايل دبلوماسي-إعلامي، بل مباركة ومشاركة في حرب الإبادة ونيّة ارتكابها، تزامناً مع اندفاع التيار التوراتي- التلمودي، بياقات صهيونية، للتبشير بالاستيطان.
علنية مشروع توسيع "أرض إسرائيل" شمالاً في لبنان وجنوباً في قطاع غزة والضفة الغربية، وربما شرقاً باتجاه سورية والأردن، وغرباً نحو سيناء المصرية، يزيدها وقاحة اعتبار مجرم حرب، كبنيامين نتنياهو، وأركان عصابته، "محررين" للبنان وقطاع غزة. فهل يتحمّل الواقع العربي الرسمي مسؤولية ما يجري؟
البعض ممن ظن قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أن نتنياهو "حليف يُعتمد عليه"، لا يرمش له جفن أمام مشروعه للشرق الأوسط الجديد، وتوسيع مهماته أخيراً نحو "تحرير" لبنان، وبالطبع قطاع غزة.
تلك ليست كوميديا سوداء، بل واقع دامٍ في سياق سكوت وعجز رسمي عربي مرعب النتائج على المديين المتوسط والبعيد، وخصوصاً في التساوق مع التحايل الأميركي لحماية جرائم الحرب، بما فيها التهجير القسري بأوامر استعمارية استعلائية لإخلاء السكان والمستشفيات والمنشآت المدنية، بل وقوات حفظ السلام التابعة الأمم المتحدة، "يونيفيل"، في جنوب لبنان. فسؤال المسؤولية الرسمية العربية هو السؤال الذي يبتعد عنه أصحاب تحميل من يقاوم المشروع الاستعماري الإحلالي التوسعي مسؤولية الإبادة المنهجية.
ومأساوية الواقع العربي، ومن خلفه هذا الركل الغربي للقوانين والقيم والمبادئ العالمية، والاستهتار بملايين الضحايا العرب، تتزايد مع ركون جنوني لتطبيق إرث إجرامي لعصابات إرغون وشتيرن التلموديتين لابتلاع الأرض العربية، ذلك بدعم أميركي ينسجم مع ما اعتبره في 2003 مهمة "تحرير العراق"، بعد حصار دام 12 سنة، ليتكثف ذلك "التحرير" في تدمير النسيج العراقي، ويُختزل في سجون أبو غريب.
يبقى التذكير أن رهط "ذباب" التصهين، بمستوياته المختلفة، ما كان له أن يكون بمثل هذا "الاعتدال" المتسامح لو أن متراً واحداً من حدود بلده جرى التعدي عليه من جار عربي. بالتأكيد كان ليستدعي حمية قبلية لأجل ذلك "المتر السيادي". بينما في المقابل فإن توسيع حدود أرض "إسرائيل الكبرى" عبر المجازر يصير وجهة نظر، تحت بند "الاختلاف على الوسيلة"، كأزمة تزوير آخر للتاريخ القريب، بوصف خيالي لسلام كان على الأبواب في فلسطين، ومحاولة تزوير أعمق على مستوى الضمير وبوصلة المصالح العربية المشتركة تحت عباءة الصهيونية.