مسار سفينة... مصير وطن
ليست القضية سفينة محمّلة بالمتفجرات ظلت تعربد في البحر، يرفضها هذا ويطردها ذاك، حتى
استقرّت في ميناء الإسكندرية لتلقي بما في جوفها إلى سفينة أصغر تنقل أدوات القتل إلى عدو ينهش
في لحمنا الحيّ في فلسطين. القضية هي هذا التخبّط في مصير وطن يتأرجح حائراً بين الشقيق
والعدو، حتى يستقر على حالة وسيطة بين متناقضين، فلا يحتفظ من ملامح الشقيق بشيء، ولا
يحافظ على مقتضى وظيفة الوسيط، ثم يصيح بغضبٍ في وجه من يذكّرونه بتاريخه ويضعونه امام
حقيقته.
مهينٌ للغاية أن يصل الحال بجيش مصر أن ينفي عن نفسه اتهام التعاون العسكري مع الكيان
الصهيوني، ذلك أن أحداً لم يتطرق لهذا الأمر، بل كان السؤال محدّدًا وواضحاً: هل مرت سفينة
الموت من هنا أم لا؟ لم يسأل أحد عن التعاون العسكري مع الكيان الغاصب ضد الشعب الفلسطيني
حتى تردّ المؤسسة العسكرية بالنفي، إذ لم يكن هذا متوقعاً في أسوأ كوابيسنا، أن ننحدر إلى مرحلة
أن نعتبر أنفسنا طيبين وخيرين ووطنيين، لأننا لا نتعاون مع العدو ضد فلسطين.
هذا انحرافٌ مخيفٌ في الخط البياني لمفاهيم مستقرّة، أو هكذا ظننا، عن الشرف الوطني والانتماء
القومي والانتساب لهوية حضارية عربية، وكأن الأمة استبدلت جلدها وغيّرت دمها وتركت وجهها
لمجموعة من خبراء التجميل الأشرار، فسرقوا وجهها الحقيقي، وزرعوا مكانه وجهاً آخر غريباً
ومرعباً. قبل خمسين عامًا في الزمن الناصري فقط كان معيار الشرف الوطني وضع تحرير فلسطين
والاستعداد لمحاربة العدو من أجل هذه الغاية، وكان المشروع القومي كله في تجلياته التنموية
والاقتصادية والثقافية يتمحور حول هذه القضية، فتجد انعكاساتها في مناهج التعليم وفي مضامين
الإبداع الفني والأدبي، وفي مرتكزات العمل بالقلاع الصناعية، تلك كانت المعركة المحدّدة لمسير
الوطن ومصيره. حتى في زمن أنور السادات، لم يكن سلامه الاستسلامي يعني الاستقالة النهائية من
دور الشقيقة الكبرى الملتزمة بقضية فلسطين على هذا النحو الفادح الذي بدأ مع زمن حسني مبارك،
وبلغ ذروته منذ 12 عاماً مضت، بات فيها الممسك بسلطة الحكم لا يتورّع عن المجاهرة بالتعاون مع
إسرائيل، ففي يناير/ كانون ثاني 2019 قال عبد الفتاح السيسي في حوار لقناة CBS الأميركية إن
التعاون بين القاهرة واسرائيل في أعلى مستوياته، وذلك حين طرح عليه المذيع هذا الأمر فردّ "هذا
صحيح… لدينا تعاون واسع النطاق مع الإسرائيليين”.
قبل ذلك بثلاث سنوات، وفي ديسمبر/ كانون أول 2016، أعلن مدير برنامج السياسة العربية في
معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، إن مصر منحت إسرائيل تفويضاً مطلقاً لنشر
طائرات بدون طيار فوق شبه جزيرة سيناء لاستهداف مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الموجودين
فيها. وأضاف في مقابلة نشرها موقع المعهد تحت عنوان "الحفاظ على العلاقات خلف الأبواب
الموصدة" إن السلام بين مصر وإسرائيل وصف ب"البارد" عقوداً طويلة، ولكن هذه الدينامية قد
تغيّرت منذ الانقلاب الذي أطاح الرئيس محمد مرسي. ونقل شينكر عن نائب رئيس أركان جيش
الاحتلال الإسرائيلي، اللواء يائير جولان، إن التعاون الاستخباراتي بين مصر وإسرائيل في عام
2016 "غير مسبوق".
ولاحقاً، في أبريل/ نيسان 2017 عاد شينكر، في مقال في مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، ليكرّر
الإعلان إن مصر تعتمد بشكل متزايد في أمنها على القوات الجوية الإسرائيلية، التي لديها الآن
تصريحا على بياض لاستهداف الإرهابيين عن طريق الطائرات العادية والطائرات بلا طيارين التي
تعمل في المجال الجوي المصري. مرّة أخرى، ليست المصيبة في عبور فرقاطة حربية تابعة للعدو
نفسه تمرح في قناة السويس، رافعة علم الأعداء معانقًا علم مصر، فالمصيبة الأعظم محاولة تبريد
هذا الأمر الشائن في هذا التوقيت الذي تهدّد فيه إسرائيل الأمن القومي لمصر، وتحتل محور صلاح
الدين، وأن تنطلق أصوات النعيق الإلكتروني تتهم المعترضين على هذا الخلل بأنهم الخونة والعملاء
الحاقدون على مصر، وأن تُستعاد لوثة الهجوم على قطر وتركيا في سياق الدفاع عن الموقف
المصري المتخاذل، واعتباره منتهى الحكمة والوطنية، ما دام سيعود على الوطن بمكاسب مالية.
المروّع حقًا أن يتصوّر هؤلاء أن العالم كله يتحالف في مؤامرة ضد مصر، لتعطيل مشروعها
القومي، وهذا هو العمى الحضاري مكتملاً، إذ يقوم المشروع القومي على سواعد المواطنين، وليس
فوق عظامهم، ويسعى إلى جعلهم أكثر حريةً وكرامةً، لا أكثر شعوراً بالعار، وبالتالي، لا يمكن
إطلاق على ما يجري تمويله والإنفاق عليه من مانحين أقوياء، يدفعون المال لشراء التبعية السياسية
والاقتصادية، مشروعاً قوميّاً للنهوض، بل هو الضياع في أوضح صوره.