هم ليسوا كالطيارين الانتحاريين الذين يطلق عليهم في اليابان (كاميكازي)، ولا كالفدائيين الانتحاريين الذين يطلق عليهم (نمور التاميل) الذين انتهوا في سيريلانكا.... ولا هي نفس خواطرهم قبل التنفيذ.
في قائمة أنطولوجيا شهداء المقاومة الفلسطينية قائمة طويلة من الأسماء الخالدة المؤبدة... ليسوا انتحاريين وليسوا عدميين... لا يقبلون التعديلات الوراثية؛ فالـ D.N.A في سلالاتهم موروث من أبطال وقادة وفدائيين يقعون على الموت، ولا يقع عليهم.
بكل رشاقة... وفي لحظة أخيرة... يستعرض الفدائي وصيته ومسلسل جرائم الاحتلال... يرتـّـل: "إني ذاهب إلى ربي"... سيهديني... وكمثل عيون صقر حدّد هدفه من أعلى... ينقضُّ عليهم... لا يهتم لبنادق الجنود ولا لكاميرات المراقبة ولا لتقنيات التعرف على الوجوه... هي كبسة زِرّ ومشهد سينمائي بلا تمثيل؛ وبعد ثانية من الصوت والإضاءة والانفجار تبيَض وجوه، وتسوَدُّ وجوه، قد يُستشهد... ويتعفرّ جبين أرضه بلقاء هذا العاشق الذي يسكب فيها مسك الشهادة، ويسقي بذور ثأره بدم زكيّ يُنبت ثوارا وثائرين... وقد ينجح وينفذ عملية وعملية عملية... ويعود ويعود من الموت، ويثخن في المحتل ويفقده صوابه... فيطلقون عليه لقب (العائد من الموت).
يعلو منسوب الدم على شاشة أخبار غزة... يرتفع ضغط شباب الوطن... يقرر نتنياهو اغتيال الصف الأول من قادة المقاومة حتى مَن هم خارج فلسطين... يدرك المجتمع الصهيوني أن نتنياهو المتهور بهذا قد فتح عليهم باب جهنم أخرى.
يزعم نتنياهو أن الإبادة التي يقترفها في غزة هي ردّ على عملية السابع من أكتوبر... يتبعه اليمين الصهيوني، فيحاولون حرق وإبادة سكان الضفة أيضا.... يهددون بتهجيرهم للضفة الشرقية... لكنّ فريقا من المحتلين الحذرين يقول لهم: عليكم أن تتذكروا جيدا سلسلة "العمليات الاستشهادية" في عمقنا الإسرائيلي، والتي كانت تحت عنوان "الثأر المقدس"، رداً على اغتيال مهندس انتفاضتهم يحيى عيّاش.
وعلينا أن نذكّر الطرفين... أننا لا ننسى عندما داس رئيس حكومة الاحتلال الأسبق أرئيل شارون بقدميه أرض الأقصى عام 2000... فاندلعت انتفاضة الأقصى... وانطلقت العمليات الاستشهادية، وعمّت كل فلسطين.
... نتنياهو ومن معه لا يريدون أن يتذكروا؛ فيستمرون في عمليات الإبادة الجماعية وقصف المستشفيات والجرحى والخدّج وسيارات الإسعاف والمساجد والكنائس... والعالم الموجود في الدرْك الأسفل من النفاق والعمالة والنذالة يمدّهم بسلاسل من السلاح... والعرب المرتدّون عن شهامتهم يمدونهم بسلاسل من الدواء والغذاء دعما للجيش الإسرائيلي.... وهنا... تتشكل مَأسَدَةٌ من الشباب الاستشهادين؛ إذ لا خيار.
وكان القرار... الإعلان عن استعادة تشغيل السلاح الاستراتيجي مجددا.... نعم وكان القرار... إطلاق طوفان من العمليات الاستشهادية ضد الاحتلال.
هذا الطوفان الموازي لطوفان الأقصى انطلق بعد توقف في محطة انتظار داخلها كلابٌ ضالّة لسلطة تعمل كعيون للاحتلال...
كلابٌ تشتمّ رائحة المنفذين، وتقبض الثمن من عدو يقبض على الجارّ والمجرور منهم... انتظر شباب طوفان الانتفاضة والاستشهاد، وصبروا ليروا انسداد الأفق السياسي أمامهم... ورأوا العالم الصامت المتآمر يشكّل حبلا سُريا، ويمد الاحتلال ويتآمر عليهم سرا وجهرا... رأوا عالما يتعمد أن يكون أعمى عن المجازر والإبادة وعن الاغتيالات التي تُنفذُ على الهواء مباشرة.
يشاهد هؤلاء الشباب شلال الأشلاء والدماء المتدفقة نجيعا بريئا في أرض غزة بسلاح أمريكي مستعاد من أوهام التوراة والتطرف الصهيومسيحي... وتسليح المستوطنين والتصريح لهم بقتل الفلسطينيين في الضفة دون مساءلة... وتصريح قادة الاحتلال أن الفلسطينيين حشرات تستحق السحق... والدعوة إلى إلقاء قنبلة نووية عليهم... وطلب بعض الدول العربية إبادة المقاومة الفلسطينية ليمرّ قطار التطبيع وسط بحر الدم والأشلاء... ويشاهد هؤلاء الشباب مَن يرقصون على جراح الفلسطينيين في تل أبيب... وبعضهم قد يمرُّ في الأقصى يصلّي... مع قطعان المستوطنين.
لكنّ بعد هذه المشاهد وهذه الضربات القاضية... تكون ضربة أخيرة تفجّر نفقا للعمليات الاستشهادية ليرى هؤلاء الأبطال بطولات شباب المقاومة في غزة، وهم يضعون المثلث الأحمر فوق دبابات متوحشة تدمر كل شيء في مرمى قذائفها... المثلث الأحمر يعني أنه "تمت العملية بنجاح"... يعني أن شابا حافيا وبأسمال تحمل رُتبا عسكرية خاصة بجيش غزة يزرع عبوة تفجر قلب الدبابة، ويتطاير جندها وتتحول إلى خُردة... المثلث الأحمر يعني إفراز إنزيم سعادة وابتسامة نصر للمشاهدين كلهم الذين يصطفّون لتقليدهم... يستلهمون روح أبطال صاروا مدرسة عسكرية ليس لها فروع أخرى خارج فلسطين... وكان قرارهم: نسخة أصلية من هذا المثلث الأحمر فوق رؤوس جنود الاحتلال في الضفة، وفي الداخل الفلسطيني، بل وقرب باب عرين الموساد، وعلى شبّاك (الشاباك)... وقد حصل.
تنادي الضفة أبناءها.... أصارحكم يا أبنائي... أنتم تأخرتم قليلا بسب إخوة عاقّين هم عبيد الدرهم، ويشتغلون لسيدهم عبد الذات الخادم المخلص للعدو.
يا أبنائي، سأقول لكم سرّا... معروفا: هنا أسهل من غزة... فجنود الاحتلال منذ سنوات موجودين في كل مكان.... طريدة سهلة وهم من فصيلتين مجرمتين جندي... ومستوطن... وسلاحهم غنيمة... وإن لم تستطيعوا فدافعوا عني بالسكين والفأس... بالعبوة والدهس... وكلكم اليوم أولياء الدم.
المثلث الأحمر... يعني: أنا... والداخل الفلسطيني... وغزة.
يعني: طوفان السابع من أكتوبر... وطوفان العمليات الاستشهادية... وقادمين بدأتُ أسمع وقع خطاهم على الحدود.
يا أبنائي: انطلقوا واستمروا واطمئنوا؛ فالاحتلال لا يستطيع أن يكون في غزة... والاحتلال لم ينجح في عمليات (جّـزِّ العُـشب) في الضفة؛ فحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل... وكل مظلوم سيحمل قنابل ويقاتل ويقاتل.
يا أبنائي... أمُّـنا الكبرى فلسطين تقول: على أرضي ما يستحق الموت... وما يستحق الحياة... وسيذكر التاريخ أنكم قاومتم بمسيّرات لا تعترف بالأسوار... وبأحزمة ناسفة وبسيارات مفخخة وبقنابل موقوتة، وبعبوات ناسفة... واجهضتم قذائف الدبابات بعبوات لاصقة، وأدخلتم بصواريخكم حثالة الأمم إلى جحورها والطائرات إلى مرابضها.
يا أبنائي: مجازر غزة أيقظت العالم النائم، وجعلت الصهيوفوبيا في المركز الأول عالميا على منصة الإرهاب الدولي، وجعلت الكيان الصهيوني المطلوب رقم واحد للمحاكم الدولية.
سأحدث التاريخ أنهم رغم طاغوتهم وجبروتهم وتمزيق أوصالي في الضفة وغزة... وبعد أن مزقوا قرارات الأمم المتحدة في عرينها على الهواء مباشرة… تمزقت وتصدّعت روايتهم... مع أنهم ظنّوا أننا لو أنفقنا ما في الأرض ذَهَبـَا لمَا اقتنعت الشعوب بالرواية الفلسطينية.
يا أولادي: بينما العالم يحاول أن يقرأ روايتنا ويستيقظ؛ فلا وقت لتضييع الوقت
لذا أهمسُ في أُذُن الأقصى: "إني نذرت لك ما في بطني محررا".... لدي أبناء اضطروا للعمليات الاستشهادية، الواحد منهم قد يجهّز العملية وحده، وينظّم نفسه ويختار الهدف المراد نسفه، ويدفع فاتورة الحساب وحده... ويلقى الله وحده.
ومن يستشهد منهم تذهب أرواحهم في حواصل طير خضر معلقة بعرش الرحمن بقناديل من ذهب.
في ظل مآذن الأقصى درس هؤلاء الأبطال أنهم لا يًقتلون أنفسهم انتحاراً؛ بل نكاية وقهرا للعدو وحباً لله وطلباً لجنته... وأنهم يَشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله... وأنهم من الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون. وأنهم هم غلام أصحاب الأخدود المجاهد الذي أتاه حديث الجنود، وفرعونهم فغرّر الغلام بنفسه، ودلّهم على طريقة قتله فقتل واستشهد، وتسبب في إسلام قومه... واستشهادهم.
وأنهم البراء بن مالك في معركة اليمامة، الذي اُحتمل في تُرس على الرماح والقوة على العدو، فقاتل حتى فتح الباب، لها
وأنهم الفدائيان الانغماسيان (أبو قتادة وسلمة ابن الأكوع) اللذان قال فيهما صل الله عليه وسلم: "خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجَّالتنا سلمة"
كانت النجاحات، وكانت الفتوى أقوى... اطمأنوا بها.... منهم من قضى نحبه، ومنهم من نجح ونجا واستمر في تجهيز عملية بطولية أخرى وأخرى...
المحتل يخاف أن لا يستطيع القضاء على هذه العمليات، ويخاف من الجامعات والمساجد التي أصبحت حاضنة وخزان مقاومة استراتيجي، ويخاف أن ترفع هذه العمليات فاتورة التكلفة، وتقصّر من عُمره.... مهما فعل وفعل وفعل.... ويخاف أكثر أن يشكّل طوفان العمليات الفدائية الاستشهادية مع طوفان الأقصى (تسوناميَ) يغرقهم ويجرفهم إلى حيث أتوا.