يُروى في الأسطورة اليونانية الشهيرة " الإلياذة" لكاتبها الشاعر الشهير "هوميروس" أنَّ امرأة جميلة وفاتنة –وخائنة في نفس الوقت- كانت محلَّ صراع الملوك والأباطرة!
فقد تقاتل من أجلها أباطرة العالم، وسفك على عتبات جمالها الدماء، لمدة عشر سنوات طاحنة وحمراء, حيث كان الفارس الوسيم "باريس" ابن ملك طروادة "بريان" كان واقعاً في حب الملكة "آيلينا" زوجة ملك إسبارطة "مينالاس" ، وكان زوجها يغار عليها ويعلم أن جمالها هذا محل طمع الفرسان، فرصد لها كل عين تحرسها وترقبها، لكن الفارس الوسيم "باريس" ظهر لملكة الجمال في صورة جميلة مع وسامة ابتسامته السحرية، في اجتماع عام بين وفد مملكة إسبارطة ومملكة طروادة، فوقعت في حبه "آيلينا" الملكة الحسناء، وقد شغفها حباً وشغفته حباً من أول نظرة!
هربت "آيلينا" مع عشيقها الجديد "باريس" نحو جزيرة الأحلام، وقضيا شهر عسلٍ كامل في حب وغرام وشغف، ثم توجه بها إلى دولة أبيه في طروادة.
علم ملك إسبارطة "مينالاس" بهروب زوجته مع ابن ملك طروادة، فغضب غضباً شديداً لانتقال زوجته الجميلة في يد رجلٍ آخر، وأخذ ملك إسبارطة يشحن نفوس شعبه الغاضب من فعلة ابن ملك طروادة، للانتقام من الخائن!
حشد أهل إسبارطة الجيوش الجرارة، والسفن العديدة، ولبسوا لامة الحرب ودروع القتال، وهم يكادون يتفجرون غضباً على أهل طروادة، وفي قلوبهم العزم الأكيد لدك طروادة وتخريبها وسحق ملكها وذبح "باريس" واستنقاذ الزوجة الفاتنة من بين أحضانه وإرجاعها للملك، وتحالف مع ملك إسبارطة أكثر ملوك اليونان، فزحفوا كأمواج البحر الهائجة نحو طروادة !
في (1193 ق. م ) نزلت جيوش التحالف مع إسبارطة على شواطئ طروادة، ونشبت معركة هائلة وخيالية لم يسبق أن نشب مثلها، وقتل الآلاف، وسالت الدماء كالأنهار، وحاصر جيش إسبارطة دولة طروادة لمدة عشر سنين، دون فائدة، حيث كانت طروادة تتمتع بأسوار منيعة وعظيمة، وكادت جيوش إسبارطة تنسحب أمام عجزها عن اقتحام هذه المدينة!
وفي 1184 ق. م تمكن أحد قادة جيوش إسبارطة وهو " يوليسوس" والذي كان يتمتع بذكاءٍ خارق، ومكر ودهاءٍ بارع، من اقتحام حصن طروادة، وإلحاق الهزيمة بملكها واسترداد زوجة ملك إسبارطة !
حيث علم أنَّ أهل طروادة - بعد تحقيق ومعرفة عادات والتقاليد أهل طروادة- يقدسون الحصان ويجعلون له مرتبة خاصة في الاحترام والتقديس، فأشار على جيش إسبارطة بصنع حصانٍ خشبيٍ يتسع لمجموعة من المقاتلين الأشداء من جيش إسبارطة، وتم جر الحصان بالقرب من أبواب مدينة طروادة، وتم التظاهر بالانسحاب، فظن أهل طروادة أنه نصروا على دونهم وأنه هرب وانسحب مهزوماً، وأنهم تركوا لهم هذا الحصان غنيمة !
لقد انطلقت الحيلة عليهم وتمريرها بمكر ودهاء، فجروا الحصان – وهم لا يعلمون ما بداخله- إلى داخل المدينة، ثم أطلقوا احتفالاتهم معلنين النصر الساحق، وأحييت تلك الليلة بالمجون والسكر !
وانتهى الاحتفال بتسلل جنود إسبارطة من الحصان الخشبي، والتوجه إلى البوابة وكسرها، إطلاق إشارة نارية للجيش المختبئ خلف الهضاب للانقضاض على طروادة، فمزقوها شر ممزق، ودمورها تدميرا، وأصبحت خاوية على عروشها، وقتل ملكها وأكثر شعبها، وتم استعادة الملكة الفاتنة "آيلينا" إلى أحضان زوجها الملك "مينالاس" واعتذرت منه، وعاشا معاً مجدداً !!
هذه الأسطورة.. تود أن تقول لنا أن جيش إسبارطة عجز كجيشٍ أجنبيٍ عن اختراق مدينة طروادة ذات الحصون المدنية، لكن هذا الجيش أدرك أنه لن يهزم طروادة إلا بالحيلة المتمثلة في اختراقها من الداخل، واستغل أقدس ما تقدسه تلك المدينة، وهو "الحصان" وبواسطته استطاع اختراقها ثم تدميرها بشكل مبرم.
كانت تلك أسطورة .. لكن في القرون الوسطى في تاريخ "الكنيسة" كانت الكنيسة تمثل السلطة الدينية في الغرب، وكان الغرب يموج بتياراتٍ إلحادية "ATHEISM" أو موقف جحودي "A disbeliever" ، كذلك كان هناك تيار قوي وهو تيار جماعات اللأدرية "A hesitant" الذي يرى الأشياء بلا حقائق ثابتة، ويعيش حالة صراع متكافئ الفرص!
كانت الكنيسة تعيش حرباً ضروساً في مواجهة هذا العدو الخارجي الذي ظل ضعيفاً أمام الكنيسة –مع ضعفها هي وخرافاتها وبطشها- إلا أنه كان يحارب الكنيسة من خارج الأسوار، فمهما كان فهو عدو مكشوف وخارجي بشكله ومظهره ولونه!
إلا أن الصراع أخذ شكلاً جديداً وخطيراً، حيث كانت الكنيسة تمر بأزمات داخلية وصراعات جوانيَّة، بين طائفة الإصلاحيين الجدد، والحرس القديم للكنيسة!
ففي القرن الحادي عشر من تاريخ "الكنيسة" ظهرت جماعة دينية مسيحية اسمها " الباترينيون" اعترضت على بيع وشراء ترقيات الكنيسة ومناصبها وبقية المخازي، والتي كان البابا يستخدمها لأغراضه الخاصة، وبعد قرن من ظهور هذه الحركة التصحيحية ظهر مصلح جديد وهو " بيتر والدو" وقد ُحرم من حقوق الكنيسة لأنه تعرض لمخازيها بالنقد.
لم تكن الكنيسة راغبة في قبول دعوة التصحيح والإصلاح والتجديد. كان "بيتر والدو" تاجراً غنياً تبرع بجميع أمواله للفقراء، وطفق يتجول ويعظ الناس ويصحح عقائدهم، وكانت أولى محاولاته منصبَّة على جعل الإنجيل سهلاً بالنسبة لمدارك عامة الناس.
لكن هذا أثار عليه سخط الكنيسة لأنها شعرت بأن سلطتها ستتقوض، فمنعت "بيتر والدو" من إلقاء المواعظ، ولما رفض؛ حرمته من حقوق الكنيسة.
لكن الكنسية قامت بخطوة حمقاء لما هاجمت بيتر والدو، وكان أجدى لها أن تحاول اجتذابه، لقد دفعته هجماتها عليه إلى أبعد مما كان يريد أن يذهب إليه، حيث انتهى إلى إعلان أن الكنيسة غير ضرورية ألبتة، وزاد عدد أتباعه وسموا أنفسهم "الوالديين" وهكذا بدأت حركة قوية ضد الكنيسة في فرنسا، ومن داخل الكنيسة.
وظهرت على أثرها حركات أخرى مثل: الألبيجنسيين، الكاثاريين، واعتقدوا جميعاً بوجوب منع القسم، وبأن الحكومة لا تستطيع أن تعاقب، وأن كل إنسان هو قسيس وأن الكنيسة الكاثوليكية ليست الكنيسة الحقيقية وإنما هي كنيسة الشيطان، و بغيّ بابل.
حاولت الكنيسة أن تقضي على الهرطقة بتعيين المفتشين الذين اندفعوا اندفاعاً أهوج في إحراق وتعذيب وسلب أموال الهراطقة، وانسحب أتباع "بيتر والدو" إلى وديان سويسرا حتى لا تصلهم يد أتباع الكنيسة، وهنالك أسسوا علاقات مع مصلحي سويسرا وألمانيا، وتضاعفت الحركة وشكلت ضغطاً كبيراً على الكنيسة.
وهكذا صار المصلح والمجدد عاصياً متمرداً، وبدأ الإصلاح بمعزل عن الكنيسة، وانصرمت ثلاثة قرون أخرى قبل أن تتلقى الكنيسة الضربة الكبرى على يد "مارتن لوثر" .
لكن الكنيسة لم تتعلم من دروس التاريخ واستمرت في سياسة الاضطهاد، فتكاثر عليها الأعداء، وخرج عليها كثير من أبنائها.
فهذا "جون ويكليف" يهاجم الكنيسة، ورفض طاعتها، بعد اضطهاد الكنيسة له، ودفعته الكنيسة إلى مدى بعيد من العداء، وبدأ بكتابة كراس أكد فيه على أن الكنيسة يجب أن لا تتدخل في القضايا الوقتية، وأن القساوسة يجب ألا يملكوا أموالاً.
واستمرت الكنيسة في اضطهادها إياه حتى ذهب إلى أبعد من ذلك وأعلن أن البابا هو عدو المسيح، وأن تحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه مجرد هراء.
وهذا "جون هاس" مصلح بوهيميا، دعا إلى إصلاح وتطهير الكنيسة من المخالفات الأخلاقية التي كان يرتكبها القساوسة، لكن الكنيسة هاجمته وحرمته من حقوق الكنيسة، فتعاظمت مكانته بين الناس، فزادت الكنيسة اضطهادها له فقبضت عليه وحوكم واحرق، وقد أثار قتله عداءً شديداً للكنيسة الكاثوليكية في بوهيميا.
لقد دفعت الكنيسة غالياً ثمن اضطهادها للهرطقة، إذ لم يمض قرن على إحراق وقتل "هاس" حتى ظهر قسيس ألماني شاب اسمه "مارتن لوثر" وهاجم فساد الكنيسة وبدأ بمهاجمة قبول المال مقابل غفران الخطايا وعلق خمساً وتسعين موعظة ضد ذلك على باب كنيسته، فأمره البابا بأن يرجع عن هذا إلا أنه رفض وكتب كراساً اسماه (تثقيف الناس) هاجم فيه مختلف مخازي الكنيسة.
واصدر البابا ضده وثيقة استهجن أعماله فيها ودعاه مرة أخرى إلى الرجوع عن أفكاره، ولكن "مارتن لوثر" كان عنيداً فذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أحرق وثيقة الاستهجان علناً.
فلم يكن من البابا إلا أن استخدم آخر أسلحته وهو الحرمان من حقوق الكنيسة، ثم عقد البابا اجتماعاً وطلب من لوثر أن يرجع ويتوب من هرطقته، إلا أن لوثر أجاب بأنه لن يفعل ذلك إلا بعد أن تثبت له الكنيسة بموجب نص الإنجيل أنه كان مخطئاً، فصاح أنصار البابا والجنود، وقالوا: ألقوه في النار.. أحرقوه!
لكن لوثر نجا، واستمر خصامه مع روما أربع سنوات، وتبع لوثر الكثيرون من أبناء بلده، وكان الإمبراطور شارل قد وقع قراراً استهجن فيه تجاوزات "مارتن لوثر" ، بيد أن الشعور العام كان مع لوثر إلى درجة أنه صار من المستحيل تنفيذ ذلك القرار.
وظهر في جنيف "جون كالفن" فأسس الكنيسة البروتستانتية، وصارت معارضة الكنيسة يوماً بعد يوم تزداد حتى أصبحت أقوى من أن تستطيع الكنيسة مقاومتها، وبدأت سلطة الكنيسة تتدهور في جميع أنحاء أوروبا.
في هذا الجو المليء بصراح داخلي كنسي، كانت هناك مجموعة من طلاب العلم الأذكياء الذين كانوا يراقبون بقلق هذا الصراع، بين القديم والجديد، فحاولوا التدخل للإصلاح، وصنع منهجٍ وسطي يصلح أن يكون جسراً يردم الهوة بين هؤلاء جميعاً، لقد كانوا متأثرين بمناهج الملحدين والعقلانيين، وفي نفس الوقت لم يردوا أن يفقدوا الإيمان كله!
فظهر "رينيه ديكارت" و "ليبتز" و "إيمانويل كانط" وغيرهم من الذين يقدرون المواقف الإيمانية لكن كانوا يغلفونها بأساليب عقلانية ترضي الطرفين، أرادوا أن يفلسفوا الإيمان، أرادوا أن يعقلنوا الدين، كي يصلح للجيل الجديد العقلاني!
لقد أستطاع هؤلاء بكل جدارة أن يسددوا الضربة الأخيرة للكنيسة، حيث أدخلوا العقائد المخالفة والمضادة باسم الدين أو الدفاع عنه، فسرت تلك الجراثيم في الدين نفسه.
بحق نستطيع أن نقول بكل تأكيد: إن ضربات التغيير والتجديد .. أتت من داخل الكنيسة لا من خارجها، إن الإصلاحيين الكنسيين أو الدينيين أو المسيحيين قد مهدوا بهذه الضربات التغيرية والتجديدية لأكبر قاصمة قصمت ظهر الكنيسة، حيث كانوا الجسر الذي سيعبر عليه لاحقاً ملاحدة أروربا لضرب الدين والتدين نفسه، ولم يكن يدر في عقل "مارتن لوثر" و"كالفن" أو "رينيه ديكارت" و "ليبتز" و "إيمانويل كانط" وغيرهم أنهما بما قاما به من احتجاج ضد رجال الكنيسة قد حطموا (سلطان الدين) حينما حطموا سلطان رجاله!
ثم مرت السنوات وأصبحت الحركة الإصلاحية البروتستانتية، من أهم الأسباب التي نشرت ومكنت الإلحاد في أوروبا!
هذا هو تاريخ الأمم السابقة، ولو تأملت –مثلاً- تاريخ المعتزلة في الإسلام، لوجدت أوائلهم من أشد الناس غيرة وحرصاً على الدفاع عن الدين والاستماتة في سبيله، وكانت لهم مواقف مشرفة في الوقوف في وجه الملاحدة والزنادقة من الدهريين والبراهمة وغيرهم، لكنهم ومن حيث لم يشعروا أخذوا في التأثر بمناهج هؤلاء بحجة استخدام نفس سلاحهم، حتى اعتنق كثير من رجالات المعتزلة عقائد خصومهم!
وها نحن في هذا العصر نجد أن أعداء الإسلام تحطموا أمام أسواره في كل مرة، وأيقنوا أنه لا حل إلا كما جرى على الأمم السابقة حذوا القذة بالقذة، فكان الخيار الإستراتيجي لهؤلاء هو:
( العمائم الليبرالية هي حصان طروادة الفعَّال)
ولعل هذا ما دفع الشيوعي "رفعت السعيد" إلى تأليف كتابه «عمائم ليبرالية» كأحياء وشكرٍ وعرفانٍ لرموز يزعم أنها متنورة ساهمت في تقويض داخلي خطير، ومن الذين ذكرهم: جمال الدين الأفغاني، ورفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وأمين الخولي، وعلي عبدالرازق وغيرهم.
وكلها عمائم دينية عملت بشكل فعال من داخل أسوار الدين، ولذلك أخبر محمد عبده أن أستاذه جمال الدين الإيراني –الأفغاني- قال له: أنه لن يقطع عنق الدين إلا بسيف الدين نفسه!
وهذا ما أكده المفكر المسيحي "جورج طرابيشي" حيث قال في ربطٍ -ذا مغزى خطير- بين التاريخ الكنسي والتاريخ الإسلامي ما نصه: (ليس لنا أن نتصور فولتيراً عربياً بدون لوثر مسلم)!
وقال "رفعت السعيد" مؤكداً ذلك أيضاً وهو السبب الذي جعله يخلد ذكرى هؤلاء في كتابه الجديد، وأنه ألفه ليساهم: (في المعركة الدائرة لم تزل، والتي من فرط الظلام لفكري الذي فرضه المتأسلمون فرضت علينا أن نخوضها متراجعين ومتحصنين بآراء عمائم هي بالضرورة أعمق مرجعية وأكثر دراية بالشأن الديني).
[color][font]
( دروس وعبر من السياق التاريخي السابق)
[/font][/color]
(1) من خلال هذا الاستعراض التاريخي الموجز ندرك أن كثيراً من الذين نقضوا الكنيسة هم من رجالاتها وأبنائها، وهم في الحقيقة أشد خطراً من غيرهم، فهم أعرف بخفاياها ونقاط الضعف فيها، ثم هم يمتلكون نفس آليات الصراع والمواجهة التي تملكها الكنيسة، فهم أعرف الناس بتفكيك منظومة الكنيسة الفكرية، وأقدر على تطوير آلياتها المحاربة، ومن ثم القضاء عليها بنفس أساليبها.
ومن يستعرض التاريخ المعاصر يجد أن أبلغ الحركات تأثيراً في المجتمعات الإسلامية والعربية، هي الحركات التي قادها رجال يحسبون على التيار الديني، من أمثال: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، عبدالرحمن الكواكبي، قاسم أمين، رفاعة الطهطاوي.. وغيرهم.
إن العلمانية والحداثة.. أضعف من أن تشكل خطراً حقيقياً على الدين، لأن الناس دائماً ينظرون لهؤلاء على أنهم من خارج الأسوار، وعملاء، ومن المتنكرين للأمة، لكن من ينتمي للمدرسة الدينية "الجماعة المؤمنة" سيكون لديه قدرة على أشياء كثيرة، أقلها المتاجرة بهذا الانتماء.
(2) إن التيار الليبرالي والعلماني فشل فشلاً ذريعاً في استقطاب العلماء الكبار، كما فشل في استقطاب الشريحة العامة، لكنه نجح نجاحاً نسبياً في استقطاب قلة من الطبقة الوسطى وخاصة من طبقة الأذكياء الذين يعيشون مرحلة اضطراب وصراع غير محسوم، فكانت كتابات التيار الليبرالي مغرية له، ومؤثرة عليه، ككتابات عبدالله العروي، ومحمد عابد الجابري، وحسن حنفي، وجورج طرابيشي.. غيرهم.
(3) ما كان يقدمه الفيلسوف المشهور "رينيه ديكارت" من خدمات جليلة للكنيسة والبابا، وكان ديكارت يوصف بأنه متدين ومؤمن جداً بتعاليم رجال الدين، لكنه في الوقت نفسه كان يستظل تحت ظل الكنيسة ليمرر بعض أفكاره، مثل "الكوجيتو" أي الشك المنهجي، الذي استغله فيما بعد الملاحدة لتعميم الشك في كل شيء، ولم يكن ديكارت نفسه يريد أن يصل هذا الأمر إلى هذا الحد.
لقد استغل الملاحدة فكرة ديكارت في الشك، وأصبح ديكارت رمزاً للإلحاد، ويوصف بأنه رجل الكنيسة الذي ثبت جذور الإلحاد بالشك، وهدم صرح الإيمان.
ولعل ما تفطن له الدكتور "سلمان العودة" في حواره الهادئ مع الشيخ "محمد الغزالي" كان وجيهاً، حيث قال : ( فرح بكتب الشيخ هذه كثير من أصحاب الفكر المنحرف؛ سواء كانوا يساريين أو علمانيين، أو غيرهم، فطاروا بها كل مطار، وصوروها ونشروها، ووزعوها ونشروا مقتطفات منها في كل وسيلة).
(4) كما يتضح لنا أيضاً دور العلماء في تخفيف أو تأجيج التمرد الديني، فنحن نلاحظ كيف كانت الكنيسة تستخدم أساليب اللعن والطرد والإحراق مع مخالفيها، ظناً منها أن ذلك سيحول دون تسرب الأفكار المخالفة، وكان هذا حقيقة خطأ استراتيجياً دفعت الكنيسة الثمن باهظاً عليه، الاضطهاد لا يزيد المتمرد إلا تعنت وبعداً بل وإيغالاً في الضلال، وماذا عليها لو أنها احتوت هؤلاء ؟!
(5) مما هو معلوم في السياق التاريخي للكنيسة وحركة التجديد أو التنوير؛ أنَّ نزاعات علماء الدين ورجالات الكنيسة فيما بينهم، كيف كان لها دور كبير في تمرد الكثير من الشباب المتدين، فالخلافات بين رموز الكنيسة، وغالباً ما كان خلافاً مصلحياً دنيوياً، كان هذا الخلاف يمثل الضربة القاضية للصورة المثالية لرموز الدين.
(6) أثبتت التجربة التاريخية أن القهر لا يولد إلا مزيداً من التعنت، وأن الضغط لا يولد إلا انفجاراً، ولذلك أفلست الكنيسة لما ظنت أنها بالاضطهاد ستحول دون تسرب الأفكار.
إن الحوار هو أفضل وسيلة لاحتواء المخالف، بل ولتضميد جراح المتمرد، فالمتمرد الذي يظن أنه مصلح أو مجدد، عادة ما يبدأ فوضوياً، ويزداد تضخماً بالمخالفة والتأجيج الأحمق ضده، كتكفيره أو لعنه أو سك الفتاوى في حقه، لكنه يتمزق ويتقزم أو يرجع للحق أو ينكشف حاله وضعفه حينما يحاور، ويناقش، ويكاشف.
الكنيسة لم تقبل الحوار، لأنها تعلم أنها هشة وضعيفة، ولذا لجأت للقهر والاضطهاد كسبيل وحيد للتخلص من تمرد الأفكار.
(7) أن الأمور الصحيحة يجب الاعتراف بها ولو خرجت من فم ضال مبتدع مخالف، لقد كابرت الكنيسة وتعنتت في رفض الإصلاحات الأولى البسيطة التي بدأها "بيتر والدو" حول أخلاقيات الكنيسة وانحرافها، وسرقاتها، وفسادها.
لقد رفضت الكنيسة قبول الحق عند أول قطرة نقد، ورفضت وأصرت، حتى تكاثرت القطرات، وأصبحت طوفاناً أجتثها من فوق الأرض.
إن قبول الحق من المخالف يدل على تعظيم الحق لا المخالف، وفي ذلك تكريس للأمانة والمصداقية، كما أن فيه قطع الطريق على المهرج الذي يريد أن يجعل من هذا الخطأ مسمار جحا.
( أن العمائم الليبرالية كانت عبر التاريخ خير معبر عن "حصان طروادة" الذي تم اختراق الدين بواسطته، والتاريخ عبرة وعظة، ومن لم يتعظ فهو مفلس!