أحصنة طروادة الإيرانية لحِصار السعودية
د. سعد الدين إبراهيم
في الأساطير الإغريقية أن مدينة طروادة كانت معروفة بين المُدن اليونانية بنزعتها العسكرية العدوانية، تجاه المُدن الإغريقية الأخرى المُجاورة. وفي إحدى جولات صراعها مع مدينة أثينا، موطن سُقراط وأفلاطون وأرسطو اتخذت أثينا تحوطاتها الدفاعية، بتحصين أسوارها، وتقوية أبواب المدينة الأربعة. فلجأت طروادة إلى خدعة استراتيجية كُبرى، وهي تصنيع حُصان خشبي كبير، اختفى في جوفه عدد من مُقاتلي طروادة الأشداء. وحينما طرق الحصان بحافره إحدى بوابات المدينة المُسالمة وفتحت للحصان الخشبي الذي كان يتحرك على عجلات، ودخل الحصان الخشبي الكبير، انفتح جوفه، وخرج منه المُقاتلون الذين فاجأوا أهل مدينة أثينا المُسالمة، ونجحوا في احتلالها. ومنذ ذلك الحين (القرن الثالث عشر قبل الميلاد)، أصبح تعبير حصان طروادة كناية للخديعة الاستراتيجية. ويُشير إلى ما أصبح يُشار إليه في الوقت الحاضر "بالخلايا النائمة"، أو "الطابور الخامس"، في إشارة إلى زرع عُملاء، أو جواسيس لأحد الخصوم، داخل وطن أو مُعسكر خِصم آخر.
وهو ما يأخذنا إلى جوهر مقال هذا الأسبوع، حول الاختراقات الإيرانية لعدد من البُلدان العربية. فرغم أن إيران هي بلد إسلامي شرق أوسطي، وذو حضارة فارسية قديمة تعود إلى عام 539 قبل الميلاد، وعُرفت تاريخياً باسم فارس، وعُرف سُكانها الأوائل باسم الفُرس، وفي عهد الأسرة الساسانية، وخاصة مع الملك كورش (سايروس)، نشأت إمبراطورية مُترامية الأطراف، من موقع إيران الحالي، شرقاً، إلى مصر غرباً. وكانت تلك المملكة إحدى أكبر وأقوى مملكتين في زمانها. وتنافست وتصارعت مع الإمبراطورية الإغريقية إلى عهد الإسكندر الأكبر.
والمهم لموضوعنا أن هذا الإرث الإمبراطوري الفارسي، ظل جزءاً راسخاً في العقل الجمعي الفارسي، حتى بعد هزيمتهم العسكرية على يد المسلمين الأوائل في معركتي القادسية (651 ميلادية) ونهاوند (655 ميلادية)، وظلوا على إحساسهم بالتكبُر على جيرانهم، وخاصة نحو القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية. ولم يتركوا فُرصة لإضعاف الحُكم العربي، إلا وانتهزوها. من ذلك، إسهامهم في إسقاط حُكم الأمويين، والانتصار للعباسيين، الذين فتحوا للفُرس أبواب السُلطة في بلاط خُلفائهم، إلى أن تنبّه الخليفة العباسي هارون الرشيد، إلى دسائس ومؤامرات مستشاريه الفُرس، فانقلب عليهم، فيما عُرف بنكبة البرامكة (786-809م). وهو الأمر الذي لم تغفره العناصر الفارسية، فتحالفوا مع المغول لإسقاط دولة العباسيين، وعاصمتهم الزاهرة، بغداد، عام 1258 ميلادية.
ورغم مرور قرون عديدة، ومياه كثيرة تحت جسور المنطقة، المُمتدة من شبه الجزيرة الهندية إلى شبه الجزيرة العربية، إلا أن الأمة الفارسية، ظلت تبث في أعماق أبنائها، نفس روح الكبرياء بتاريخهم، ونفس روح الاستعلاء على جيرانهم، وخاصة من العرب. ومن ذلك اعتبار كل البُلدان المُجاورة (العِراق، وسورية، والبحرين، والكويت، وقطر، والإمارات، واليمن) مناطق حيوية، يجوز، بل يجب أن تكون سداحاً مداحاً للنفوذ الإيراني المُباشر أو غير المُباشر.
وليس لدى الإيرانيين أي حياء في الإفصاح عن مطامحهم، أو مطامعهم. وكما تحدث قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري مؤخراً، بأن بلاده تُسيطر بالفعل على مقاليد الأمور تماماً في أربعة بُلدان عربية (العِراق وسورية، ولبنان، واليمن)، وأنها تستهدف ثلاثة بُلدان أخرى، لم يذكرها بالاسم صراحة. ولكن أغلب الظن أنها تشمل السعودية والإمارات وسلطنة عُمان!
ولا تتردد إيران في استغلال الدين والطائفة والمذهب لتجنيد الأتباع والمُناصرين. وقد فعلت ذلك بالفعل مع حزب الله وحركة أمل في لبنان، خلال العقدين الماضيين. كما فعلت نفس الشيء مع عائلة الأسد (حافظ، ثم ابنه بشّار) في سورية، بإعلان الطائفة النصيرية كفرقة شيعية شرعية. وتحت هذا الغِطاء، قدمت دعماً بالسلاح والأموال لآل الأسد، ومكّنتهم من حُكم سورية، طيلة العقود الأربعة الأخيرة.
وحينما انتفض الشعب السوري، ضمن ثورات الربيع العربي، ضد نظام الأسد، دخلت إيران الإسلامية الشيعية إلى جانب النظام، من خلال حزب الله اللبناني في البداية، ثم تدخلت مُباشرة، خلال العامين الأخيرين، بحوالي عشرين ألف مُقاتل، عبروا الحدود من إيران، إلى العِراق، ومن الأخيرة مُباشرة إلى سورية.
وقد فعلت إيران نفس الشيء في اليمن، من خلال حركة عبدالملك الحوثي، وأنصاره من الطائفة الزيدية، أكثر الطوائف الإسلامية قُرباً إلى المذهب الشيعي. وهو الأمر الذي أطال الحرب الأهلية في اليمن، والتي دخلت بدورها، مثل سورية عامها الخامس.
كما لم تتردد إيران في دعم حركة داعش، التي سمّت نفسها بالدولة الإسلامية في العِراق الشام. والتي يُقال أن بذورها الجنينية كانت في أفغانستان، وشجّعت إيران مُقاتلين من تنظيم القاعدة، على دخول العِراق، والتمركز في منطقة الموصل، والتمدد غرباً، وليس شرقاً، لزعزعة استقرار تلك البُلدان العربية، وإضعافها، حتى تصبح لقمة سائغة، يسهل للدولة الفارسية التهامها في لحظة مستقبلية سانحة.
وهنا لا بد من التذكر بأن الفُرس هم الذين اخترعوا لعبة الشطرنج التي يستخدم اللاعب فيها أخطاء الخِصم، لإضعافه، ومُحاصرته، ثم لإسقاطه في النهاية، بإجباره على الاستسلام، والإقرار بالهزيمة (كِش ملك).
والملك الذي يبدو أن الفُرس يُحاولون حِصاره في هذه المرحلة، هو السعودية، ملكاً وحكومة وشعباً. ولا يخفى ذلك على أي مُراقب حصيف. فمنذ الثورة على نظام الشاه رضا بهلوي، لم يُخفِ آيات الله، الذين سيطروا على مقاليد الأمور في طهران، 1979، مُخططاتهم. ولأنهم يُدركون أن أحد أركان شرعية النظام السعودي هو رعايته وحمايته للأماكن الإسلامية المُقدسة في مكة والمدينة، التي يحج إليها المسلمون كل عام، فقد دأبت السُلطات الإيرانية بتدبير، وحض الحُجّاج الإيرانيين خصوصاً، والحُجّاج الشيعة عموماً، على التظاهر، وإشاعة الفوضى أثناء مواسم الحج. ولجأت السُلطات السعودية لمواجهة ذلك، بتحجيم عدد الحُجّاج الوافدين من إيران. وردت السُلطات الإيرانية، بالمُطالبة بضرورة تدويل الأماكن المُقدسة الإسلامية في مكة والمدينة، أي نزع السيادة السعودية المُنفردة على إقليم الحجاز.
بتعبير آخر، تهدف إيران من وراء هذه المُناورات والمؤامرات على النظام السعودي الحاكم، زرع مزيد من أحصنة طروادة، حول وداخل قلب المملكة العربية. ويبدوا أن مُخابرات النظام الفارسي، يشعرون أن لهم حصاناً في المنطقة الشرقية من المملكة، ولهم حصان آخر في تهامة، على الحدود اليمنية في أقصى الجنوب الغربي للمملكة. وبإشاعة القلاقل في الحجاز، والمُطالبة بتدويل الأماكن المُقدسة، تكون قد زرعت حصان طروادة ثالثا.
والجدير بالمُلاحظة هنا، هو تلك الاستمرارية الفارسية العنيدة في بسط النفوذ والسيطرة الإمبريالية على الجيران من ناحية، وحسم الصِراع المذهبي بين السُنّة والشيعة من ناحية أخرى. ففي لحظة تاريخية سابقة، حينما احتد الصِراع بين النظام الصفوي الحاكم في إيران، والإمبراطورية العثمانية في الأناضول، اختار الصفويون المذهب الشيعي كعقيدة رسمية لنظام حكمهم، إمعاناً في تعميق خطوط الفصل والاختلاف مع مُنافسهم الإقليمي العثماني في القرن السادس عشر الميلادي.
وهكذا، تعود نفس النزعة الفارسية الاستعلائية التوسعية، التي تستخدم كل أدوات الشطرنج الإقليمي لتحقيق مآربها. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وعلى الله قصد السبيل.