الذاكرة العربية المثقوبة
د.رحيل محمد غرايبة
يوم التاسع من نيسان، ينبش الذاكرة العربية التي انهكتها الذكريات المؤلمة، وهدّها الانتظار لذلك اليوم الذي تستطيع فيه الأمة أن تمحو فيه ذكريات السقوط وذكريات المجازر، وتشتعل فيه شموع الانتصار ولذة الفرح.
في مثل هذا اليوم قبل سته وستين عاماً ارتكبت العصابات الصهيونية المسلحة المدعومة من الجيش البريطاني المستعمر الذي كان يفرض انتدابه على المنطقة، مجزرة مروعة في دير ياسين، حيث أقدمت على قتل ما يزيد على (254) شهيداً، منهم حوالي (53) طفلاً، وبقرت بطون النساء الحوامل، حيث تعدُّ هذه المجزرة من أبشع مجازر التاريخ وأكثرها وحشية، وكانت تهدف إلى ترويع السكان المدنيين وارهابهم في فلسطين، في خطة مرسومة تقوم على التطهير العرقي من أجل التهيئة لقيام دولة (اسرائيل)، حيث يقول (مناحيم بيغن) أحد أشهر زعماء العصابات الصهيونية الإرهابية المتطرفة الذي انتخب رئيساً لوزراء الكيان الصهيوني في أواخر السبعينيات من القرن المنصرم: ((لولا دير ياسين لما قامت اسرائيل))، لأنها أسفرت عن نجاح خطة التهجير الواسعة التي أدت إلى اخراج ما يزيد على (650) ألف عربي فلسطيني إلى خارج فلسطين.
الذاكرة المثقوبة لأغلب شعوب العالم، أدت إلى الاعتراف بـ(اسرائيل) وعدَّها دولة مدنية متحضِّرة، وأنها الواحة الديمقراطية الوحيدة في صحراء الديكتاتوريات العربية، بل تطور الأمر إلى اعتبار كل من يقاوم اسرائيل من ضحايا احتلالها ارهابيين ومتطرفين ومخربين!!
في مثل هذا اليوم قبل (11) عاماً، ظهرت أول دبابة أمريكية على جسر الرصافة في بغداد، وثم اعلان سقوط بغداد في يد جيش الاحتلال الأمريكي، بلا مقاومة في لغز محيّر، لم يتم فك أسراره حتى هذه اللحظة، وتشير بعض التحليلات الافتراضية إلى تواطؤ وخيانة كبرى حدثت في الصفوف القيادية الأولى في الحزب الحاكم والجيش، أسفرت عن هذا السقوط السريع والمروّع.
وزير الدفاع الأمريكي (باول) في ذلك الوقت و وزير الخارجية (رامسفيلد) وكوندا ليزارايس، أعلنوا أن احتلال العراق سيكون منطلقاً لتحرير العالم الإسلامي كله، وسيكون قاعدة لمحاربة الإرهاب والتطرف الأصولي في المنطقة.
وبعد مرور أحد عشر عاماً على هذا الاحتلال، نجد أن العراق أصبحت موطناً للرعب والتفجير والحرب الأهلية، والانقسام الشعبي والتعصب المذهبي، وتحوَّل نهرا دجلة والفرات إلى نهرين من الدماء والأشلاء العائمة، وأصبح العراق مثالاً للدولة الفاشلة التي تحكمها عصابات حاقدة متعصبة، أشعلت الفتن ومزقت الشعب العراقي، وجعلت مستقبل العراق على شفير الهاوية.
الذاكرة المثقوبة لبعض العرب، أدت بهم إلى الترحيب بمخلفات الاحتلال الأمريكي وترى أن العراق وسوريا المتعاونتين مع ايران تمثلان حاجز الصد والمقاومة أمام المشروع الأمريكي.
يوم التاسع من نيسان وأيام أخرى كثيرة، تشكل محطات مهمة في تاريخ الأمة، ينبغي أن تكون محلاً للدراسة المتأنية والتحليل العميق، والاعتبار المفيد لأبنائنا وأجيالنا، إذ يجب علينا جميعاً
أن نعمل على انعاش ذاكرة الأجيال بهذه المواطن المؤثرة، ليس من أجل ممارسة هواية اللطم والنواح، وممارسة جلد الذات، بل من أجل أن يكون وقوداً للطاقة، ومصدراً للتعبئة النفسية والمعنوية التي تزوِّد الأجيال بالعزيمة والإصرار على تغيير هذا الواقع، ومن أجل دفع العقل العربي الجديد إلى التفكير بالنهوض وأسباب (النهوض) لنتجاوز السقوط المريع للارادة العربية الذي أدى إلى سقوط بغداد، وسقوط فلسطين والجولان وغيرها في يد حفنة قليلة من أعداء هذه الأمة، الذين تسلقوا على ضعفنا وهُزالنا، وأقاموا على أصلابنا المُنحنية كياناتهم الاستعمارية الهشة.
آن الأوان كي نصلح ثقوب الذاكرة العربية ونقوي ضعفها، ونصلح العطب الذي أحدثه بعض قصار النظر في ارادتنا وثقافتنا ومنظومتنا القيمية، ويجب وقف العبث في ذاكرة الأجيال ووقف من يعمل على اتساع ثقوبها، ما يحتم على المؤرخين المعاصرين أن يعيدوا كتابة التاريخ المعاصر بأمانة وتجرد وموضوعية ومنهجية علمية، فهذا حق الأجيال علينا وعليهم.