مفهوم الواجب في الإسلام
مقتضياته التشريعية وتطلّباته الحكَمية1 يحظى اليوم موضوع الواجب باهتمام واسع في حلبات النقاشات النظمية والحقوقية والاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية، لكون مبحث الواجب يتموقع من هذه المجالات جميعًا في المنطلق والمبتدأ والبؤبؤ والسويداء؛ ففي مجال حقوق الإنسان مثلاً يجري النقاش على أشدّه حول كيفية زرع مفهوم الواجب ضمن البنية الحقوقية ولاسيما حقوق الجيل الثالث (الحقوق التضامنية) كالحق في البيئة السليمة والحق في السلام والحق في التنمية. وهي حقوق يحضر فيها بجلاء -إلى جانب المكون الحقوقي- مكونُ الواجب ومسؤولية الفرد.
فالبيئة السليمة لا يمكن ضمان وجودها إن لم يتحمل الأفراد مسؤولياتهم ويقوموا بواجباتهم تجاهها، وكذا ضمانُ التنمية والاسترواح بالسلام؛ فكل ذلك يحتاج إلى أن يقوم الأفراد بواجباتهم إزاءه، مما أدى إلى انبعاث مفهوم الواجب من جديد في النقاشات الحقوقية بعد أن كان الجيل الأول من الحقوق (المدنية والسياسية) والجيل الثاني (الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) مرتكزين على النموذج المعرفي القائم على الحقوق وليس الواجبات، وذلك بسبب ما نبه إليه الباحث "Saul Ben" في قوله: "بما أن النضالات التي قامت بها حركة حقوق الإنسان ضد استبدادات الكنيسة والنبلاء الفيوداليين في مرحلة أولى، وفي مرحلة ثانية ضد النفاقات الاجتماعية والإقصاء ونقائص النضالات السالفة، كلها ارتكزت على مواجهة ما كان يفرضه المتنفذون من واجبات ظالمة على الأفراد، فقد بلورت حركة حقوق الإنسان حذرًا تلقائيًّا تجاه كل لغة فيها الواجبات والإلزامات مما يبقى بالنظر إلى ماضي هذه الحركات حذرًا وتشككًا مبررين". ومن ثم معاناة المنظرين لتنـزيل الجيل الثالث من الحقوق (الحقوق التضامنية) والتي ضمن بنيتها ضرورة الارتكاز على الواجبات، وهي معاناة لا وجود لها في النماذج المعرفية التي يمنحها الإسلام.
أما في المجالين الاجتماعي والسياسي فيجري اليوم في أكثر دول العالم تقدّمًا نقاش مستحرّ حول كيفية إحياء ثقافة الواجب دون إحياء الدولانية والديماغوجية، وكما قال "Don. E. Eberly": "إعادة اختراع المواطنة ليس كنموذج شاعري بل كعقد اجتماعي يشتمل على العمل الجادّ والتضحيات، ومهما كان ما تفعله الحكومة أو لا تفعله فإن مهمة الإصلاح والتجديد ستقع على كاهل المواطنين. إذ ثمة أمل ضئيل في التغيير الذي يعتمد على الإستراتيجيات الفوقية أو على النظريات المجرّدة دون إدماج المواطنين في تولّي مسؤوليات إنعاش المؤسسات والاتّسام العملي أمامهم بالصفات التي ينبغي أن يقتدى بها". وهذا التوق ما بعد الحداثي هو ما تجسده سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي كان سباقًا للواجبات، فعن أنس قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أَحسن النَّاس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قِبَل الصوت فاستقبلهم النبي - صل الله عليه وسلم - قد سبق الناسَ إلى الصوت وهو يقول: "لن تُراعوا لن تُراعوا" وهو على فرس لأبي طلحة عُرْي ما عليه سرج في عنقه سيف فقال: "لقد وجدته بحرًا" (لفرس أبي طلحة)[2]. وكل ما سلف من عوامل يجعل الحديث في موضوع الواجب في هذه الظرفية بالذات يكتسي أهمية خاصة. فالواجب لحمة وسدى النسيج العلائقي في المجتمعات والمؤسسات، وهو المحور الذي يتمحور حوله إنجاز الدول والحضارات.
التأسيس القرآني لموضوع الواجب
ويمكن التأسيس للحديث في موضوع الواجب في الإسلام انطلاقًا من عدد من آيات الذكر الحكيم يبقى من أبرزها في هذا السياق قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(النحل:76).
أورد الطبري -رحمه الله- في تفسيره عن ابن عباس رواية بالغة الدَّلالة على قدرة حَبر الأمة على تبين مراد الله من كلامه. فقد قال : "وهذا المثل في الأعمال"[3] وهذا لب الآية الكريمة.
فالآية فيها الإشارة إلى مقومات القيام بالواجب من الأعمال كلِّها، وهي "القدرة" و"الإرادة" و"الإنجاز".
والقدرة قدرتان فهمية ومادية. وإلى انعدام القدرة الفهمية تمت الإشارة بقوله تعالى: (أَبْكَمُ)، قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: "وكل أبكم أخرس وليس كل أخرس أبكم، يقال بكِم عن الكلام إذا ضعف عنه لضعف عقله. فصار كالأبكم". وهو ما ذهب إليه ابن الجوزي في تفسيره إذ قال: "والبكَم عيب في الفؤاد يمنعه أن يعي شيئًا فيُفهِّمه، فيجمع بين الفساد في محل الفهم وفي محل النطق"[4]. قال الأزهري: "وبين الأبكم والأخرس فرق في كلام العرب، فالأخرس الذي خُلق ولا نطق له، والأبكم الذي للسانه نطق وهو لا يعقل الجواب ولا يحسن وجه الكلام". وأمـا "القـدرة المادية"، فإلى انعـدامها أشار قوله تعالى: (لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ).
أما قوله تعالى: (وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ) فالكلّ هو الثقيل على وليه وقرابته والذي "لا إرادة له"، فانعدم بهذا المقوم الثاني من مقومات القيام بالواجب وهو الإرادة. ونظرًا لما للإرادة من أهمية ومركزية في الفلاح فقد اشتهر في العرف الصوفي تسمية السالك: "المريد" إذ أول ما يربّى فيه هو ضبط هذه الإرادة وذلك بتزكية منابعها الباطنية وتصفية مقاصدها ومناطاتها الظاهرية وتوجيهها وجهة الخير. والإرادة تتفرع من عاملين هما: العلم والمحبة، فحتى يراد شيء لابد أن يعلم، ثم لابد أن يحب البلوغ إليه. وهذا المقوم هو الأساس الذي تقوم على توظيفه علوم التسويق إذ يصاغ العلم بالسلعة على نحو جاذب وتُنشأ في نفس المستهلك محبة البلوغ إليها.
أما قوله تعالى: (أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ)، فهو دلالة على انعدام الإنجاز والجدوى في العمل إذا أُجبر هذا الكَلُّ على القيام به بتوجيه مولاه له، وبذلك ينعدم المقوم الثالث الذي هو الإنجاز.
أما الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فأمره بالعدل دال على فهم عنده يمكّنه من إدراكه. وقد عرّفوا العدل بكونه الحق والصواب الموافق للواقع وأنه ضد الظلم؛ والظلم هو وضع الأمور في غير مواضعها. وعين أمره بالعدل دالّ على قدرته، وأما طيّب إنجازه فيدل عليه قوله تعالى: (وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، فأمامنا هنا إنسان قادر على تبيّن مواطن العدل وعلى الأمر به بحكمة مواجهًا في سبيل ذلك ما قد يعترض من عقبات، كما أنه قادر على تبين العلامات التي تمكّن من التعرف على الصراط المستقيم والثبات عليه.
وهذا الأمر بالعدل والثبات على الصراط المستقيم لا يكون بدون إرادة، فهي إذن مقومات القيام بالواجب الثلاث: "القدرة" و"الإرادة" و"الإنجاز"، وأي إنجاز أعظم من الاتصاف بالعدل والأمرِ به على صراط مستقيم.
والآية الكريمة من آيات وعلامات سورة النحل. وهي سورة ومنذ مطلعها تبين مؤقتية هذا الوجود وتُذكر بيوم الحساب (أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(النحل:1). وتبين للإنسان أن لا حجة ولا عذر بعد البيان الذي جاءت به الرسل: (يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ)(النحل:2).
وبعد امتنانه تعالى وتذكيره بكل المقومات والمؤهلات التي سخرها للإنسان ينتقل السياق إلى تجلية وبيان معالم أوجبِ الواجبات وهو توحيد الله تعالى وإفراده بالعبودية المبني على الاستحقاق الأمْكَن، بسبب الخلق والهداية والتسخير والإحسان: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(النحل:18)، في مقابل ما تردّى إليه الضالون من عبادة ما لا يستحق (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ)(النحل:20).
ليخلص السياق بعد ذلك إلى بيان -وعلى لسان من قاموا بواجب طلب العلم- أن الجزاء من جنس العمل. وَوَفْقَ القيام بالواجب أو عدمه: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(النحل:27-28). فلا يجيب أهل الظلم والتفريط والكلالة، للـ"بكم" الذي فيهم، بل يجيب أهل العلم والعدل في مقابل الذين أحسنوا عملاً الذين يجيبون عن أنفسهم لأنهم كانوا -وهم بعد في الدنيا- محسنين آمرين بالعدل وهم على صراط مستقيم: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ)(النحل:30). إلى أن يقول سبحانه: (كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(النحل:31-32). ليبين بعد ذلك سفه وبكم منظومة الشرك واختلال معتقدهم (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ)(النحل:56-57).
وهو موقف سوف يصير في السنوات القليلات التاليات لزمن نزول الآيات عنه مؤشرًا على بيان النقلة البعيدة التي قام بها الوحي مع الإنسان وذلك في قوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)(النحل:59-58). فشتان بين هذا الموقف وبين الريادة العلمية لأم المؤمنين عائشة .
وذلك بعد أن بين سبحانه مركزية الوحي في حياة الكائنات عمومًا وأن فلاحها رهين باتباع هادياته إن طوعًا أو كرهًا. (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(النحل:43-44).
كما بين سبحانه أن استقامة الكون وما فيه من كائنات إنما هي نتاج اتباع الوحي: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)(النحل:48-50)، في مقابل: (وَيَجْعَلُونَ لِلهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ)(النحل:62)، رغم هاديات الوحي: (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(النحل:63-64)، بيد أن الكائنات الكونية تنتفع بوحيها وتنتج ما خلقت له عن طريق القيام الطوعي بالواجبات التي يهدي إليها الوحي: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(النحل:68-69)، لتنتهي بنا السورة الكريمة إلى بيان معالم المجتمع السليم مجتمع الواجبات الذي يكون لأفراده إنجازهم المنتج المتنافس المتكامل "المعتبر بمجتمع النحل وأدائه المتناسق" (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، وذاك قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(النحل:93-96). وذلك في دقة متناهية ترسم معالم مجتمع الواجب ليُنْصَب، تتويجًا لهذه المعاني وتجسيدًا لها، مثال أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم الذي تجلت كلها فيه بامتياز وذلك في قوله سبحانه: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(النحل:120-121). والشكر عمل وقيام بالواجب لقوله تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(سبأ:13).
لتختم السورة بإيقاع نابض تتجلى من خلاله حركة الإنسان الآمر بالعدل (وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(النحل:76). لإقامة صرح مجتمع الواجب في دفق إنجازي لا يوقفه خلاف المخالفين ولا صدّ الصادّين أو مكر الماكرين ولا كل الصعوبات التي تعترضه ولكن لا تعيقه. وذاك قوله سبحانه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)، (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)، (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(النحل:125-128)، مما يجعل سورة النحل سورة تتجلى فيها مقومات الواجب كلها، من بواعث قائمة على الشكر الدافع للإحسان بسبب التسخير والهداية. وكذا وعي مؤقتية اللَّّبث في هذه الحياة وحتمية مجيء يوم الحساب والعبرة بمصائر المخالفين والعمل بمقتضى كل ذلك في اتزان على صراط مستقيم.
فما هو الواجب في الإسلام وما هي أسسه الاعتقادية والتصورية؟ وما هي مقتضياته الشرعية وتطلباته الحكمية؟
تعريف الواجب
الواجب لغة: من وَجَبَ الشيء يَجِبُ وجوبًا، أي لزم لزومًا، وثبت ثبوتًا، والموجِبة من الأعمال الكبيرة، الحسنة أو السيئة الموجِبة للثواب أو العقاب[5].
وقبل الانتقال للحديث عن الواجب شرعًا يحسن المهد لذلك بالحديث عن المقومات والأسس الاعتقادية والتصورية التي يرتكز عليها هذا المفهوم في الإسلام. فالاعتقادات والتصورات دعامة الواجب وعماده في هذا الدين.
الأسس الاعتقادية والتصورية المؤطرة للواجب في الإسلام
يبرز الإنسان في منظومة الإسلام الاعتقادية والتصورية باعتباره الجسر الكوني المؤهَّل الذي تعبر منه القيم والأخلاق والتشريعات الحاملة لمراد الله التكليفي من الإنسان تجاه نفسه ومحيطه الكوني إلى البعدين الزماني والمكاني لتصبح جزءًا من التاريخ والحياة، ويبرز التكليف الملقى على عاتق هذا المخلوق (الأمانة)، (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)(الأحزاب:72). باعتباره تكليفًا لا يعرف حصرًا ولا حدودا، إذ الكون كله في هذه المنظومة مسرح لفعل الإنسان وعتاد له. فالنوع الإنساني كله موضوع فعله الأخلاقي كما الكون كله.
وقد تجلى هذا الوعي بعمق في قول عمر : "لو أن بغلة عثرت في طفّ العراق لخشيت أن يسألني الله لِمَ لَمْ تعبّد لها الطريق يا عمر".
أما زمانيا فإن هذا التكليف لا ينتهي إلا يوم القيامة، قال رسول الله - صل الله عليه وسلم -: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"[6].
وتبرز مقومات القيام بالواجب في هذه المنظومة الاعتقادية والتصورية على الشكل الآتي:
1- تزويد الإنسان بالعقل وجعله مناط التكليف: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(النحل:78)، (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)(الأعراف:179).
2- المواءمة بين الإنسان والكون من جهة، وبين الإنسان والوحي من جهة ثانية: وارتكاز المواءمة في الإنسان يقوم على قدرته على الفهم عن طريق الألباب/ النُّهى/ الأفئدة/ العقل، وهي الوظائف التي تمكن الإنسان من الإدراك والتعقل والتفكيك والاستنباط والتخيل والحدْس والاستشراف: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(البقرة:33). أما في الكون فترتكز المواءمة على تسخيره (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الجاثية:13). وترتكز في الوحي على تيسيره (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(القمر:17)، مما يجعل الإنسان قادرًا على استبانة الآيات والعلامات سواء كانت في الكون أو في الوحي. ونظرًا لمطواعية الكون واستجابة الوحي فإن الإنسان يصبح قادرًا على الفعل في الأول بهاديات الثاني.
3- قصدية الخلق: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)(الذاريات:56-58). وارتكازًا على الأسس السالفة يصبح الإنسان قادرًا على إدراك هذه القصدية ويصبح من ثم مسؤولاً عن تحقيقها.
4- بنائية الشرع والعقيدة ووحدتهما ومفهوميتهما: وهذا يثمر وضوح الواجبات التي توجهان إليها، فمقاصدُهما، وأوامرهما، ونواهيهما واضحة قابلة للتعقل، ومتكاملة تحرر تماسكًا يُمكِّن من تحديد الأولويات وتبَيُّن مراتب الأعمال.
5- المسؤولية والمحاسبة: إذ برز أن على الإنسان مسؤولية العمل في ذاته وفي محيطه وفق قيم الوحي الحاكمة وشرائعه الموجِّهة. وقد زوِّد بالقدرات التي تمكنه من الاضطلاع بذلك، وكان الكون قابلاً لفعله مسخرًا له، وكان الوحي مُيَسَّرًا له متستجيبًا لتساؤلاته: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاَءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)(النحل:89). فإن ذلك يستتبع المحاسبة التي يُجزى بمقتضاها المحسنون عن إحسانهم، والمسيئون عن إساءتهم. وهذا البناء هو الذي يحرر الشعور النبيل المتسامي بالواجب وهو شعور انزرع في نفوس المسلمين فأثمر المسلكيات والممارسات التي رفعت في جمالية صرح الحضارات والثقافات الإسلامية الشامخة.
التعريف الشرعي للواجب
الواجب شرعًا هو "ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبًا حتمًا بأن اقترن طلبه بما يدل على تحتيم فعله، كما إذا كانت صيغة الطلب نفسها تدل على التحتيم، أو دلّ على تحتيم فعلٍ ترتيبُ العقوبة على تركه، أو أيةُ قرينة شرعية أخرى"[7].
تجدر الإشارة هنا إلى أن الواجب عند جمهور الأصوليين لا فرق بينه وبين الفرض، وقد انفرد علماء الحنفية بالتمييز بينهما فقسموا الحكم التكليفي إلى سبعة أقسام عوض خمسة عند الجمهور، أولها الفرض، وميزوا بين الفرض والواجب بقولهم: "ما طلب الشارع فعله طلبًا حتمًا وكان دليل طلبه قطعيًّا بأن كان آية قرآنية أو حديثا متواترًا، فهو الفرض، كالأركان الخمسة مثلاً، أما إن كان دليل طلب الفعل ظنيًّا بأن كان حديثًا غير متواتر أو قياسًا فهو الواجب"، ولهذا التفريق وجه من جهة إسعافه في التمييز بين الواجبات المنصوص عليها في العبادات وغيرها والأخرى المرسلة التي ينفسح فيها المجال للاجتهاد والتقدير، فيكون بذلك هذا التفريق في غاية الوظيفية. ويقترب من معنى الواجب في العلوم السلوكية: "Duty, Devoir".
وقد قسم علماء الأصول الواجب إلى أقسام أربعة كل منها يستند إلى اعتبار:
1- الواجب من جهة وقت أدائه: ويكون مؤقتًا أو مطلقًا، ومثال المؤقت الصلاة، لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)(النساء:103)، ومثال المطلق الحج والكفارة. والواجب المؤقت حين يوقع في وقته كاملاً مستوفيًا أركانه وشروطه يسمى ذلك أداء، وإذا فعله المكلف في وقته غير كامل ثم فعله داخل الوقت كاملاً سمي ذلك إعادة، أما إذا فُعل خارج وقته فيسمى قضاء[8].
2- من جهة المقدار المطلوب: حيث ينقسم الواجب بهذا الاعتبار إلى محدد وغير محدد، فالواجب المحدد ما عين له الشارع مقدارًا معلومًا لا تبرأ ذمة المكلف إلا إذا أداه، كالصلوات الخمس والزكاة والديون. والواجب غير المحدد، هو ما طلبه الشارع من المكلف بدون تحديد، كالإنفاق في سبيل الله، وإطعام الجائع، وإغاثة الملهوف.
3- من جهة تعيين ماهيته وصيغته وكيفيته: حيث ينقسم الواجب بهذا الاعتبار إلى معيّن ومخيّر، فالمعيّن ما طلبه الشارع بعينه كالصلاة والصيام وثمن المشترى وأجر المستأجر وردّ المغصوب. والواجب المخير ما طلبه الشارع واحدًا من أمور معينة؛ كأحد خصال الكفارة لمن حنث في يمين مثلاً، فعليه إما أن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم أو يعتق رقبة أو يصوم ثلاثة أيام، وتبرأ ذمة المكلف بالقيام بأحدها، وهو معنى التخيير.
4- الواجب من جهة المطالب بأدائه، (هل هو مكلف بعينه أم عموم المكلفين): وبهذا الاعتبار يكون الواجب إما عينيًّا أو كفائيًّا.
فالواجب العيني: هو ما طلب الشارع فعله من فرد من أفراد المكلفين، ولا يجزئ قيام مكلف به عن آخر، كالصلاة والصيام والوفاء بالعقود.
والواجب الكفائي: هو ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين لا من كل فرد منهم بحيث إذا قام به من يكفي من المكلفين أجزأ ذلك وسقط الإثم عن الباقين. قال الشافعي -رحمه الله- في الرسالة: "وهكذا كل ما كان الفرض فيه مقصودًا به قصد الكفاية فيما ينوب، فإذا قام به من المسلمين من فيه الكفاية خرج من تخلّف عنه من المأثم، ولو ضيعوه معًا خفت ألا يخرج واحد منهم مطيق فيه عن المأثم". ويدخل في هذا القسم من الواجب كل ما يلزم الأوطان من خدمات عامة لا تتعلق بذمة مكلف بعينه كالتطبيب وبناياته ومستلزماته وصناعاته ومدارسه وإيجاد العدد الكافي للأمة من الأطباء والصيادلة ومؤسسات تكوينهم وأماكن عملهم وخدمتهم ومصانع الأدوية والمعدات، وكحراسة الأوطان وحمايتها، وبناء المساكن والطرقات والقيام بواجب التعليم والقضاء والإفتاء. وغير ذلك مما لا يكاد يُحصر إذ تتجدد حاجات الأمم في كل حين.
والحاصل أن هذه الفئة من الواجبات هي مناط التكليف العام، وهو تكليف لا تبرأ ذمة الأمة إن لم تقم به على وجه الكفاية، بمعنى أن الجماعة جميعَها تأثم في هذه الحالة قادريها وغيرُ قادريها وهو قول الإمام الشاطبي المالكي الأندلسي -رحمه الله- في موافقاته: "القيام بهذا الفرض قيام بمصلحة عامة، فهم مطلوبون بسدها على الجملة، فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلاً لها، والباقون وإن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة القادرين. فالقادر مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر، إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"[9]. أي إنه في حالة عدم القيام بهذه الواجبات على وجه الكفاية يأثم القادر لإهماله واجبًا قدَر على أدائه إذ يكون متعيّنًا عليه، ويأثم غير القادر لإهماله ما تعيّن عليه من حثّ القادر وحمله على القيام بالواجب المقدور له، وهذا هو البعد التضامني في القيام بالواجب.
وقد كان هذا الوعي متجذّرًا عند علمائنا عامة وعند علماء هذه الربوع خاصة، ومن تمظهراته ما روي عن الإمام أبي عبد الله محمد بن علي المازَري المالكي نزيل المهدية -رحمه الله- المتوفى سنة 536هـ، وكان إذا أطلق لقب الإمام في إفريقية لا ينصرف إلى غيره لنبوغه وتمكنه في العلوم الشرعية. فحين علم -رحمه الله- أن الحاجة ماسة إلى الأطباء في هذه الأوطان خاف لفقهه من المأثم، إذ لمس في نفسه القدرة على القيام بهذا الواجب الكفائي، فتوجه إلى طلب علم الطب إلى أن صار وكما قيل عنه -رحمه الله- تعالى: "يفزع إليه في فتوى الطب كما يفزع إليه في فتوى الفقه"[10].
إن هذا البناء التشريعي قد ألزم الأمة بامتياز ومنذ وقت مبكر جدًّا بالولوج إلى آفاق الهندسة الاجتماعية والإستراتيجيات العملية للبراءة من الإثم والفوز بالرضوان. وهو ما انتبه إليه الباحث الأمريكي "Jason Morgan Foster" حين قال: "ولأن الواجبات لها مركزية في الاعتقاد والتطبيق الإسلاميين، فإن لغة وبنية الواجبات تطورت في الشريعة الإسلامية، وهما إلى حد بعيد أكثر تركيبًا من الإحالات البسيطة إلى الواجبات التي نراها في الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان، فالشريعة الإسلامية عبارة عن مخطط عمل اجتماعي عقلاني المعنى لكل أفعال المسلمين والتي قد أُطّر مجملُها من مدخل الواجب"[11].
وفي تراثنا العلمي عيون وذرر تؤكد ما انتبه إليه هذا الباحث. فقد جاء عن إمامنا مالك أنه سئل عن طلب العلم أفرض هو؟ فقال: "أما على كل الناس فلا" يعني به الزائد على ما لا يسع المسلم جهله من أركان وغيرها. وقال أيضًا: "أما من كان فيه موضع للإمامة فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب، والأخذُ في العناية بالعلم على قدر النية فيه"[12].
وللعلماء تفصيلات مشرقة في رسم إستراتيجيات تدبير الملفات الحيوية للأمة من هذا المدخل، ومن ذلك مثلاً ما خطه الإمام الشاطبي في موافقاته عن الملف التعليمي، إذ قال: "فإذا فرض مثلاً واحد من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك وجودة فهم ووفور حفظ لما يسمع -وإن كان مشارِكًا في غير ذلك من الأوصاف- مِيلَ به نحو ذلك القصد، وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة مراعاةً لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم، فطُلب بالتعلم وأُدّب بالآداب المشتركة بجميع العلوم، ولابد أن يُمَال به منها إلى بعض، فيؤخذَ به ويعان عليه، ولكن على الترتيب الذي نصّ عليه ربانيو العلماء، فإذا دخل إلى ذلك البعضِ فمال به طبعه إليه على الخصوص وأحبه أكثر من غيره تُرِك وما أحبّ وخُصّ بأهله.
وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وصف الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور، فيُمال به نحو ذلك ويُعلَّم آدابه المشتركة ثم يصار به إلى ما هو أولى فالأولى من صنائع التدبير كالنقابة أو الجندية أو الهداية أو الإمامة أو غير ذلك مما يليق به وما ظهر له فيه نجابة ونهوض". وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم، لأنه يسير أولاً في طريق مشترك، فحيث وقف السائر وعجز عن السير فقد وقف "في مرتبة محتاجٍ إليها في الجملة"، وإن كان به قوةٌ "زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية". وبذلك تستقيم أمور الدنيا وأعمال الآخرة"[13].
وفي الجانب الاجتماعي يقول: في "وجوب الصدقاتِ المطلقةِ وسَدِّ الخَلاَّت ودفعِ حاجات المحتاجين وإغاثة الملهوفين وإنقاذ الغرقى والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويدخل تحته سائر فروض الكفايات، فإذا قال الشارع: (وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ)(الحج:36)، أو أمر بكسوة العاري أو قال: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)(البقرة:195)، فمعنى ذلك طلبُ رفعِ الحاجة في كل واقعة بحسبها من غير تعيين مقدار؛ فإذا تبيّنت حاجة تبيَّن مقدارُ ما يُحتاج إليه فيها بالنظر لا بالنص، فإذا تعين جائع فهو مأمور بإطعامه وسدّ خلّته بمقتضى ذلك الإطلاق، فإن أطعَمَهُ ما لا يرفع عنه الجوع فالطلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافعٌ للحاجة التي من أجلها أُمر ابتداء، والذي هو كاف يختلف باختلاف الساعات والحالات في ذلك المعيّن، فقد يكون في الوقت غير مفرط الجوع فيحتاج إلى مقدار من الطعام فإذا تركه حتى أفرط عليه احتاج إلى أكثر منه، وقد يطعمه آخرُ فيرتفع عنه الطلب رأسًا، وقد يطعمه ما لا يكفيه فيُطلَب هذا بأقلّ مما كان مطلوبًا به.
فإذا كان المكلف به يختلف باختلاف الأحوال والأزمان لم يستقرّ للترتيب في الذمة أمر معلوم يطلب ألبتة. فلا يكون معلومًا إلا في الوقت الحاضر "بحسب النظر، لا بمقتضى النص". فإذا زال الوقت الحاضر "صار في الثاني مكلّفًا بشيء آخر لا بالأول" أو سقط عنه التكليف إذا فُرضَ ارتفاع الحاجة العارضة"[14].
إن علماءنا قد نظروا إلى الواجبات باعتبارها مرتّبة حسب مراتب ثلاث، فثَمة الضروريات ثُم الحاجيات ثم التحسينيات. وأرسوا بناء على هذا الوعي العميق دوائر للواجب يحمي بعضها بعضًا وَفْقَ نسق مفهومي في غاية الدقة، فنصّوا على أن اختلال الضروري بإطلاقٍ يؤدي إلى اختلال الحاجي والتحسيني بإطلاق، وأنه لا يلزم من اختلالهما أو اختلال أحدهما اختلالُ الضروري بإطلاق، كما نصّوا على أن اختلال الحاجي بإطلاق ينجم عنه اختلال التحسيني بإطلاق، ونصوا على أن اختلال التحسيني بإطلاق يؤدي إلى اختلال الحاجي بوجه ما، وأن اختلال الحاجي بإطلاق يؤدي إلى اختلال الضروري بوجه ما. مما يلزم معه الحفاظ على الواجبات المتعلقة بالتحسيني حماية للحاجي، والحفاظ على الواجبات المتعلقة بالحاجي حماية للضروري. وبينوا أن التجرّؤ على الإخلال بالتحسيني منها معرِّض للتجرؤ على ما سواه.
وعلى هذا الإدراكِ قام أصل سدّ الذرائع واعتبار المآل، وقرروا أن المندوب إليه بالجزء واجب بالكل، إذ الإخلال بالمندوب مطلقًا إخلال بركن من أركان الواجب، ونصّوا على أن المندوب في كليته محميةٌ لا يجب خرمها، لأن خرمها يؤدي إلى الإخلال بالواجب وإبطاله. وقالوا في ذلك: "وكل واحدة من هذه المراتب لمّا كانت مختلفة في تأكد الاعتبار -فالضروريات آكدها ثم تليها الحاجيات ثم التحسينيات- وكان مرتبطًا بعضها ببعض، كان في إبطال الأخفِّ جرأةٌ على ما هو آكد منه، ومدخل للإخلال به، فصار الأخفُّ كأنه حمى للآكد، والراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، فالمخلّ بما هو مكمِّل كالمخل بالمكَمَّل من هذا الوجه"[15]. قال الإمام الغزالي رحمه الله: "قلّما يُتصوّر الهجوم على الكبيرة بغتة، من غير سوابقَ ولواحقَ من جهةِ الصغائر"[16].
معظم الواجبات كفائية
وحيث ثبت أن جلَّ الواجبات التي تقوم عليها حياة الأمم في معاشاتها داخلة في الصنف الكفائي، ويقتضي كلٌّ مِن تَبَيُّنها ومَقْدرتها وتقعيداتها وتقنيناتها اجتهاداتٍ مستأنفةً في كل حين، من أجل تنـزيلٍ متَّزِن لها على أرض الواقع تكون عاقبته يسرًا... لما ثبت أن الأمر كذلك، فقد كان لعلمائنا كلام مفصل نفيس عن كيفية الاضطلاع بالواجب في سياقاته المختلفة؛ مِن نظرٍ في المآلات وتحقيقٍ للمناطات وتنقيحٍ لها وموازنة دقيقة بين المصالح والمفاسد جلبًا للأُولى إن رجحت، ودفعًا للثانية إن غلبت، تسديدًا وتقريبًا وتغليبًا، مع تحديدات وضيئة لمناهجِ كل ذلك مما هو مفصل في مظانه.