المسلمون وحقوق الإنسان
قراءة في المقتضيات السياقية، والمستلزمات المعرفية، وآليات التعاطي[sup][1][/sup] ركّز التداول حول كونية حقوق الإنسان في عمومه، كثيرًا على إشكالية مدى مخالفة أو مواءمة القانون العالمي لحقوق الإنسان للممارسات التشريعية والثقافية المحلية، كما رام هذا التداول فكّ العُقَد بهذا الخصوص لصالح البراديغم الكوني... ويلاحظ بجلاء، أن عناية أقل بكثير، قد أوليت إلى البحث عما يمكن أن يفيده ويَثْرى به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بدراسة الأنساق التشريعية والثقافية الكونية المختلفة.
ولا يخفى أن هذه المسألة تكتسي أهمية استثنائية من الناحية البرجماتية العملية الصرف، بالإضافة إلى أهميتها العلمية والمعرفية، وذلك لأن التجانف، بل والتنكر للحقوق الإنسانية، أمر في غاية الورود إذا لم تراع أثناء عملية تنزيلها، مواءمتها الثقافية للسياقات الحضارية، والأنثربولوجية المستقبِلة. ولأن المصداقية الثقافية لهذه الحقوق لدى المتلقين محورية في عملية تملكهم لها، فإنه ينبغي تشجيع الجهود الرامية إلى تعويض الفرض والإقحام والإلزام بالتوطين والإفهام والإسهام. وذلك ليس فقط من أجل ضمان مشروعية حقوق الإنسان في مختلف المجتمعات، ولكن أيضًا لما يتيحه هذا الأمر من إمكانات في المجال الحقوقي؛ للإفادة والربح المتبادلين، بسبب تضافر وتواشج أضرب الخبرة والحكمة العالمية الغنية والمتنوعة، مما من شأنه أن يجعل حقوق الإنسان -كما هي متعارف عليها كونيًّا- أكثر جاذبية، وأوفر قابلية للتطبيق والتبني في كافة المجتمعات.
إلا أن جملة صعوبات تعترض سبيل هذا الطموح، ومن أبرز هذه الصعوبات؛ الاختلاف الجوهري بين الأسس البراديجماتية التي تنبني عليها التشريعات الكونية لحقوق الإنسان، وتلك التي تنبني عليها كثير من التشريعات العالمية الأخرى. وأبرز مثال على هذا الاختلاف الجوهري، كون الحقوق في القانون العالمي لحقوق الإنسان صريحة ومباشرة، في حين أن ما يقابلها من واجبات، متضمنة -وقد تكون أحيانًا متضاربة- وهو ما يشير إليه "دوكلاس هودكسون" (Douglas Hodgson) بقوله: "في قانون حقوق الإنسان، الحقوق صريحة ومباشرة، في حين أن ما يقابلها من واجبات تبقى متضمنة ومتضاربة وغير مغناة من الناحية التنظيرية، بيد أن العكس هو الصحيح في عدد من المنظومات التشريعية والقيمية والعقدية الأخرى، كالشريعة الإسلامية، والشريعة اليهودية، والنصرانية، والهندوسية، والكنفوشيوسية"[sup][7][/sup]. ولأن المقاربة المؤسسة على الحقوق، وكذا تلك المؤسسة على الواجبات، كلتاهما تصدران عن رؤية براديجماتية متجذرة لها تجلياتها في سائر مفردات الكسب التشريعي والتنزيلي للمنظومتين، فإنه لا يمكن الزعم بأن التوفيق بينها يمكن أن يتم بدون بذل ما يلزم من جهد واجتهاد في أفق الإسهام في حل عدد من الإشكالات المطروحة بهذا الصدد كونيًّا.
وتبتغي هذه الدراسة وضع جملة لبنات وظيفية، تسهم في التعزيز التعارفي لمقاربة "النسبية المعتدلة المعكوسة" (Reverse Moderate Relativism: R.M.R) والتي تختلف عن مقاربة "النسبية الثقافية المعتدلة" (Moderate Cultural Relativism: M.C.R)، حيث إن الأولى تعنى بالنظر التعارفي المنفتح، إلى ما يمكن أن تغني به المنظومات التشريعية المختلفة، منظومة حقوق الإنسان الكونية، بيد أن الثانية تقتصر على النظر في كيفية زرع وفسل منظومة حقوق الإنسان في المنظومات التشريعية الأخرى[sup][8][/sup]. غير أنه مع انبثاق الجيل الثالث من حقوق الإنسان، الحقوق التضامنية؛ كالحق في البيئة السليمة والحق في السلام والحق في التنمية، تبين أن مكوّن الحقوق يفتقر إلى التواشج مع مكوّن الواجب في طفرة متجاوزة لما كان عليه الأمر في الجيلين السابقين من حقوق الإنسان، جيل الحقوق المدنية والسياسية ثم جيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، المرتكزين على البراديغم القائم على الحقوق فقط. وسبب ذلك، على حد تعبير الباحث Ben Saul: "إن النضالات التي قامت بها حركة حقوق الإنسان ضد الاستبدادات المختلفة في مرحلة أولى وفي مرحلة ثانية، ضد النفاقات الاجتماعية، والإقصاء، ونقائص النضالات السالفة، والتي ارتكزت جميعُها على مواجهة ما كان يفرضه المتنفدون من واجبات ظالمة على الأفراد، فقد بلورت حركة حقوق الإنسان حذرا وحساسية تلقائيين، تجاه كل لغة فيها حضور لمفاهيم الواجب والإلزام، وهما حذر وحساسية مبرران، بالنظر إلى تاريخ هذه الحركات النضالي"[sup][9][/sup]. ومن هنا تأتي المعاناة التي ترافق السعي إلى تنزيل الجيل الثالث من حقوق الإنسان، والتي تستدمج في عين بنيتها، ضرورة الارتكاز على الواجبات أيضًا، بإزاء الحقوق التي لا يمكن جلبها للأفراد إلا إذا كان لديهم الاستعداد للقيام بواجباتهم بهذا الخصوص. فمثلاً، لا يتصور النهوض بتنمية بدون انخراط الأفراد في هذا النهوض من خلال القيام بواجباتهم بهذا الصدد. مما يستدعي وجوب مواكبة هذه الحقوق أولاً: بنسيج تأهيلي، تصوريًّا، وتربويًّا، ونضاليًّا، وتقويميًّا بطريقة قصدية، وإلا فستبقى الحقوق التضامنية مجرد شعارات. ومواكبتها ثانيًا بنسيج تشريعي احترازي، لحمايتها من الارتداد إلى أتون الدولانية (Etatism) من جديد كما يقول "دون. إي. إيبرلي" (Don. E. Eberly) في كتابه Building a Community of Citizen.
وجليّ أن هذا التواشج بين الحقوق والواجبات، من خلال الاستمداد من مختلف المرجعيات تأسيسًا على مكتسب حقوق الإنسان في كونيتها وعدم تجزيئها، يمكن أن يسهم في اختراع مفهوم دينامي للمواطنة في عالم اليوم المعولم، في منأى عن الشعاراتية، وفي حرص على بحث عقد اجتماعي، فيه التجانف عن الاقتصار على الإستراتيجيات الفوقية، والتشريعات غير المرفقة بالتدابير الإجرائية التنزيلية على أرض الواقع، في مراعاة لكافة مقتضيات السياق.
أولاً: المرتكزات
يروم هذا المبحث الأول، إبراز المرتكزات التي يتأسس عليها مقصد ضمان حقوق الإنسان في الإسلام.
أ- التكريم
يشكّل مبدأ التكريم الإلهي للبشر، معلمًا بارزًا من المعالم التي تستنبط منها مقصدية ضمان حقوق الإنسان، وذلك تأسيسًا على قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(الإسراء:70). فحين يتم تجذير الوعي بالتكريم في كيان الفرد، وتتم مواكبة ذلك بإتاحة المقومات الديداكتيكية للتنشئة، والمقومات التشريعية للنهوض والحماية[sup][10][/sup]، فإنه يسهل أن ينبثق في حالة تهديد هذا التكريم، مثل رد فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المشهور حين قال لعمرو بن العاص وقد ظلم قبطيًّا: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"[sup][11][/sup]. ومن مقومات هذا التكريم في القرآن والسنة:
2- تكريم إحسان التقويم: وهو المشار إليه في الآية الكريمة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)(التين:4)، وكذا الآية: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)(التغابن:3).
3- تكريم إعظام الدور: وهو تكريم يظهر من خلال التكليف بإعمار الأرض كما في الآية: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(هود:61)، والآية: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي اْلأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ)(الأعراف:10)، وكذا الآية: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً)(طه:53).
ويسجل بهذا الصدد أن ارتكاسًا كبيرًا حصل بعد فترة التأسيس هذه، لأسباب متداخلة لا يتسع المقام هنا لذكرها[sup][13][/sup]. 4- الخلافة: تعكس خلافة الإنسان في الأرض أسمى مراتب التكريم الإلهي؛ (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(البقرة:30).
5- التسخير: كما في الآيات: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(إبراهيم:32-34)[sup][14][/sup]. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)(الحج:65).
6- إيداع القدرة على وسم الأشياء من أجل تعقلها وتوظيفها: قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة:31)، مما يمكن الإنسان من تنمية قدراته الإدراكية التي تسعفه في تنمية استقلاليته من خلال تزايد قدرته على الفعل في الكون بالتسخير، ولذلك يسمي بعض الباحثين العلوم الكونية "علوم التسخير"[sup][15][/sup]. 7- الوحي/الكلمات: وهو المستفاد من العديد من الآيات كما في قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ)(البقرة:37)، والآية: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)(البقرة:124).
والإفادة من قدرة الأسماء ومن إيتاء الكلمات، لا يمكن أن تتم في منظومة الوحي إلا بالنظر والتفكّر والتعقُّل؛ فالاستدلال بالأدلة من أوجَبِ الواجبات بعد الإيمان الفطري الجبلِّي. وإلى هذا ذهب البخاري -رحمه الله- حيث بوَّب في كتابه "باب العلم قبل القول والعمل لقول الله - عز وجل -": (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)(محمد:19).
8- إتاحة العلاقة المباشرة بين العبد وربه: فقد ألغى الشَّارع الحكيم أيَّ وساطة بينه وبين عبادِه تفسد الاعتقاد الجازِمَ به سبحانه[sup][16][/sup]، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(البقرة:186). 9- الحرية: قال الراغب الأصفهاني: "الحرية ضربان: الأول من لم يجر عليه حكم الشيء، نحو "الحر بالحر". والثاني: من لم تتملكه الصفات الذميمة من الحرص والشره على المقتنيات الدنيوية، وإلى العبودية التي تضاد ذلك أشار النبي - صل الله عليه وسلم - بقوله: "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار"، وقيل: عبد الشهوة أذل من عبد الرقّ"[sup][17][/sup]. وقال الجرجاني صاحب التعريفات: "الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة: الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار، وهي على مراتب: حرية العامة عن رق الشهوات. وحرية الخاصة عن رق المرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق. وحرية خاصة الخاصة عن رقّ الرسوم والآثار لانمحاقهم في تجلّي نور الأنوار"[sup][18][/sup]. وهو ما ينص عليه القرآن الكريم في الآية: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(البقرة:256)، وفي الآية: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)(هود:28)، وكذا الآية: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(الكهف:29)، وفي الآية: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً)(الإنسان:29)، وفي الآية: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(يونس:99)، وفي الآية: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ)(الغاشية:22).
وقد سيقت كلمة "إكراه" بالتنكير في قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، والتنكير عند علماء الأصول، يفيد الاستغراق لكل مرتبة أو نوع من الإكراه. قال الإمام محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في تفسير آية نفي الإكراه؛ البقرة 256: "جيء بنفي الجنس لقصد العموم نصًّا، وهي دليل إبطال الإكراه بسائر أنواعه؛ لأن أمر الإيمان يجري على الاستدلال والتمكين من النظر"[sup][19][/sup]. وما أجمل ما قال عبد المتعال الصعيدي بهذا الصدد في كتابه "حرية الفكر في الإسلام": "مثل المرتد مثل الكافر الأصلي في الدعوة إلى الإسلام، فكما يُدْعَى الكافر الأصلي في الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالتي هي أحسن، كذلك يدعى المرتد إلى العودة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالتي هي أحسن، ولا يكره على العودة إليه بوسيلة من وسائل الإكراه، كما لا يكره الكافر الأصلي على الإسلام بهذه الوسائل أيضا"[sup][20][/sup]. وقد أحسن بعض الدارسين حين فكك الردة إلى قسمين: مركبة، فيها الارتداد عن الدين ومفارقة الجماعة والعمل على إلحاق الأذى بها، وردة بسيطة فيها الارتداد عن الدين فقط. وقد ذهب العلماء إلى أن الردة غير المركبة تجري عليها أحكام قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[sup][21][/sup]. فالحرية في المنظومة التشريعية الإسلامية هي الأصل، قال محمد الطاهر بن عاشور: "الحرية وصف فطري نشأ عليه البشر، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض، حتى حدثت بينهم المزاحمة، فحدث التحجير"[sup][22][/sup]. بـ- التكليف
يبرز الإنسان في منظومة الإسلام الاعتقادية والتصورية، باعتباره الجسر الكوني المؤهَّل الذي تعبر منه القيم والأخلاق، والتشريعات الحاملة لمراد الله التكليفي من الإنسان تجاه نفسه ومحيطه الكوني، إلى البعدين الزماني والمكاني، لتصبح جزءًا من التاريخ والحياة. ويبرز التكليف الملقى على عاتق هذا المخلوق (الأمانة): (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)(الأحزاب:72)، باعتباره تكليفًا لا يعرف حصرًا ولا حدودًا، إذ الكون كله في هذه المنظومة مسرح لفعل الإنسان وعتاد له. فالنوع الإنساني كله موضوع فعله الأخلاقي، كما الكون كله.
وتبرز مقومات القيام بالواجب في هذه المنظومة الاعتقادية والتصورية من خلال:
1- تزويد الإنسان بالعقل وجعله مناط التكليف: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(النحل:78).
2- المواءمة بين الإنسان والكون من جهة "التسخير": (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)(الجاثية:13)، وبين الإنسان والوحي من جهة ثانية "التيسير": (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(القمر:40).
3- قصدية الخلق: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)(الذاريات:56-58).
4- بنائية الشرع والعقيدة ووحدتهما ومفهوميتهما، فمقاصدُهما، وأوامرهما، ونواهيهما واضحة قابلة للتعقل، ومتكاملة تحرر تماسكًا يُمكِّن من تحديد الأولويات وتبَيُّن مراتب الأعمال.
ويعتبر تكليف الإنسان بتزكية نفسه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)(الشمس:9-10)، إفادة بالتأسي ممن تم تكليفه بريادة هذا الفعل عمرانيًّا: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ)(الجمعة:2).
يعتبر هذا التكليف، رافعة عملية تستند على الواجب إزاء الحق، لتمكين الإنسان فردًا واجتماعًا من ضمان الحقوق والاسترواح في ظلها؛ لأن التزكية بهذا المقترب القرآني ذات حمولة وظيفية وليست فقط استيطيقية.
جـ- الجزاء
وهنا يبرز دور المسؤولية والمحاسبة؛ إذ برز أن على الإنسان مسؤولية العمل في ذاته وفي محيطه، وفق قيم الوحي الحاكمة وشرائعه الموجِّهة. وقد زوِّد بالقدرات التي تُمكّنه من الاضطلاع بذلك، وكان الكون قابلاً لفعله مسخرًا له، وكان الوحي مُيَسَّرًا له متستجيبًا لتساؤلاته: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)(النحل:89). فإن ذلك يستتبع المحاسبة التي يُجزى بمقتضاها المحسنون عن إحسانهم، والمسيئون عن إساءتهم. وهذا البناء هو الذي يحرر الشعور المتسامي بالواجب، وهو شعور انزرع في نفوس المسلمين، فأثمر المسلكيات والممارسات التي رفعت، في جمالية صرح الحضارات والثقافات الإسلامية المتنوعة.
وهو ما انتبه إليه الباحث الأمريكي Jason Morgan Foster حين قال: "ولأن الواجبات لها مركزية في الاعتقاد والتطبيق الإسلاميين، فإن لغة وبنية الواجبات تطورت في الشريعة الإسلامية، وهما إلى حد بعيد أكثر تركيبًا من الإحالات البسيطة إلى الواجبات التي نراها في الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان، فالشريعة الإسلامية عبارة عن مخطط عمل اجتماعي عقلاني المعنى لكل أفعال المسلمين، والتي قد أُطّر مجملُها من مدخل الواجب"[sup][23][/sup]. وفي التراث العلمي الإسلامي وفرة من الشواهد تؤكد ما انتبه إليه هذا الباحث. منها ما جاء عن إمامنا مالك - رضي الله عنه - أنه سئل عن طلب العلم أفرض هو؟ فقال: "أما على كل الناس فلا" يعني به الزائد على ما لا يسع المسلم جهله من أركان وغيرها... وقال أيضًا: "أما من كان فيه موضع للإمامة فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب، والأخذُ في العناية بالعلم على قدر النية فيه"[sup][24][/sup]، فانظر إلى هذه الدقة في التمييز بين الواجب ومناطه. ثانيا: التشريعات
صناعة الإنسان في الإسلام تتغيّا إخراج إنسان متحرر، ليس في ضميره أو جسده فحسب، وإنما متحرر أيضًا في رأيه، وفي أسلوب تعبيره عنه. فالإنسان في الإسلام يُتغيّا أن يكون متحررًا من سلطان العباد[sup][25][/sup]. وإن جوهر الاستخلاف والأمانة هو القدرة على أداء الواجبات، وانتزاع التمتع بالحقوق: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)(النساء:97). وقال سبحانه: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)(النساء:75).
وقد استنبط الإمام مالك من هذه الآية أن براءة الذمة بخصوص المستضعفين، معقودة بالنصر بالبدن إن كان العدد يحتمل، وإلا فلا سبيل إلا ببذل جميع الأموال[sup][26][/sup]. وقال تعالى لومًا للذين ينشِّئون بناتهم تنشئة تعجزهن عن المطالبة بحقوقهن، وبعد ذلك تظل وجوههم مسودة وهم كظيمون إذا بشروا بالأنثى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)(الزخرف:17-18).
ويمكن رصد عدد من المركبات التشريعية المشَكِّلة لصرح مقصد ضمان حقوق الإنسان:
أ- الحفظ
ونقصد به حفظ الحقوق والمصالح الضرورية التي بها تتحصل السعادة في العاجل والآجل. وهذا الحفظ يكون بأحد أمرين: الأول من جانب الوجود؛ وذلك بما يقيم أركانها ويثبت قواعدها. والآخر من جانب العدم؛ وذلك بما يدرأ الخلل الواقع أو المتوقع فيها.
1- حفظ الدين: وذلك من خلال:
• التشريع وتوفير أماكن العبادة المرعية، وتنظيم المساجد والقيمين عليها، وتنظيم الزكاة والصيام والحج، وتنظيم الوقف وحمايته.
• التربية السليمة والممنهجة.
• حماية وتيسير وتوطين القيم المعنوية والروحية للدين.
• حرية التدين وعدم الإكراه.
• تقنين وهيكلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بتجلية شروطه وموانعه، ومناهجه وعقوباته، وزجر من يترامون بغير حق ولا مستحق للقيام به.
• التشجيع على الاجتهاد الكفء.
2- حفظ النفس: وذلك عبر:
• ضمان الحق في الحياة.
• احترام التشريعات المحرِّمة للقتل والأذى.
• الحماية من العدوان، وهو ما يظهر جليا في حد الحرابة.
• حماية البيئة (مناخيا ونباتيا وحيوانيا)،
• ضمان حق العيش، والصحة، والحركة، والتنقل مع الحماية من الاتجار بالبشر.
3- حفظ العرض: وذلك من خلال حفظ قسميه:
أ. الكرامة، عبر تحريم القذف والرمي.
• رعاية وحماية كرامة وسمعة الإنسان الفرد والمجتمع، بالتنشئة على الكرامة، وزرع قيم عدم الاعتداء عليها.
• حماية الحق في الخصوصية وعدم الاجتراء عليها وإن قامت حولها شكوك (مثال عمر حين اقتحم على من بلغه أنه يشرب الخمر فزُجِر وقبِل الزجر وانصرف)[sup][29][/sup]. • الحيلولة دون الاستعمال غير المشروع للسلطة، للمساس بكرامة الفرد أو الأسرة أو الجماعة أو المنظمة.
بـ. النسل والأسرة، عبر ضمان أن يكون التناسل في إطار الزواج، حيث المسؤولية، وحفظ الأنساب، وإمكان تلقي الرعاية والدعم المنظمين والمنضبطين من الدولة، وكافة الجهات المختصة؛
• حماية الأسرة ورعايتها وتوفير حاجياتها الأساسية، غذائيًّا، وإيوائيًّا، وصحيًّا، وتربويًّا، وقيميًّا.
• رعاية الطفولة والنشء (أيتام، ذوي الاحتياجات الخاصة).
• رعاية الشيخوخة.
• الحرص على توطين المساواة بين الرجال والنساء، حتى يضطلع كلٌّ بمسؤوليته لحفظ الأسرة وتنميتها.
جـ. حفظ العقل:
• تحريم الشرك، والخرافة، والسحر، والطيرة، والمخدرات، والمسكرات، والمفترات التي تؤدي إلى مختلف أضرب الإدمان الضارة بالعقل وبالفرد وبالمجتمع.
• إشاعة الموضوعية في التمثل والتفكير، وإشاعة رؤية علمية موضوعية للذات والموضوع والعالم، وذلك من خلال السهر على أن تضطلع نظم التربية والتكوين الإلزامية في المدرسة والتطوعية في المسجد والإعلام ووسائل الاتصال بذلك دون السقوط في التقنين الدولاني الحاد من الحريات المشروعة.
• إشاعة العلوم والمنتوجات الثقافية المغذية للعقل.
• ضمان الحقوق الثقافية واللغوية والكَلغْرافية.
• تشجيع وحماية البحث العلمي والتكنولوجي.
• ضمان الولوج إلى المعلومة.
• السعي إلى بناء مجتمع المعرفة.
• ضمان وحماية حرية التعبير، في حماية للفرد والمجتمع من الظلم بهذا الصدد، من القذف والرمي غير المشروعين، مما تكون له آثار على ضياع مصالح الفرد والجماعة مادية كانت هذه المظالم أم معنوية[sup][30][/sup]. د. حفظ المال:
• تحريم السرقة.
• حماية الملكية العامة والملكية الخاصة (مادية كانت أم فكرية أم اختراعية أم تجارية أم صناعية أم مهنية).
• سلامة واستقرار التبادل التجاري.
• حماية المستهلك من أن ينفق ماله فيما يضره أو يضر غيره.
• حماية حقوق العمال (أجورًا وحسن معاملة) سواء كانوا أبناء البلد أو من الوافدين.
• منع الربح غير المشروع، ومنع الاستغلال بسائر أنواعه وأشكاله (ربا، ميسر، رشوة...).
• إشراف الدولة على التنمية المستدامة اقتصاديًّا وبشريًّا.
• حماية السوق من المضاربات التي تؤدي إلى غلاء الأثمان غير المشروع.
هذه هي المصالح الكلية التي جاءت الشريعة الإسلامية لتأمينها بأن نصّت على كل منها، وبينت أهميتها، وخطورتها ومكانتها، في تحقيق السعادة للإنسان، ثم كلّفت بالأحكام الوظيفية لضمان تحقيقها.
ويدل الاستقراء والبحث والدراسة والتأمل على أن الشرع الحنيف جاء لتحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتحسينية، وأن الأحكام الشرعية كلها إنما شرعت لتحقيق هذه المصالح. ومعلوم أن ضمان الحقوق للإنسان، من أعظم الأمور التي تحصل بها سعادته[sup][31][/sup]. بـ- العدالة
1- العدالة في التوزيع: (مفهوم القَسْم) بين المسلمين، ومثال أراضي سواد العراق الرائع، حيث لم يوزعها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بين الفاتحين، وإنما وزعها على أهل العراق.
2- العدالة الكونية: حلف الفضول "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت"[sup][32][/sup]. ويدخل في هذا: الوفاء بالعهود (الآليات والالتزامات والعقود بعد المصادقة عليها) ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. 3- العدالة التصحيحية: والأصل فيها قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)(الأنبياء:78-79)، حيث تروي كتب التفسير مراجعة سليمان - عليه السلام - لأبيه نبي الله داوود - عليه السلام - في الحكم، مما يعد نواة مقدرة للعدالة التصحيحية.
قال - صل الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر، إنما أنا أقضي بينكم بما أسمع منكم، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار"[sup][33][/sup]. ويدلُّ على رجوع القاضي عن حُكمه في هذه الحالات، ما ورد في كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - حيث قال فيه: "ولا يمنعك قضاءٌ قضيتَ فيه اليوم فراجعتَ فيه رأيك، فهُديت فيه لرشدك، أن تُراجع فيه الحق، فإنَّ الحق قديم لا يُبطله شيء، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل"[sup][34][/sup]. 4- العدالة السياسية: ومن ركائزها مبدأ الشورى لقوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(آل عمران:159)، وقوله سبحانه: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(الشورى:38)، ومبدأ شفافية الحكامة Tranparency of governance، ومبدأ فصل السلط، وكل ذلك مؤطر بضرورة رعاية مصالح الناس، وهو ما أشار إليه علماء الأصول بقولهم: "تصرف الإمام على الرأي منوط بالمصلحة"[sup][35][/sup]. جـ- المساواة تحت القانون
ومما يشهد لهذا المحدد آية: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(التوبة:71).
وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(النحل:97)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)(النساء:1)[sup][36][/sup]. ونجد للحسبة أصلاً في الآية: (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ)(النساء:114)، وفي الآية: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)(الحجرات:9).
ويؤيد ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)(الرعد:22).
ولا تقتصر هذه الفعالية على الفرد، وإنما تتعدى إلى الجماعة والدولة. فإذا كان الأمر بالمعروف واجب على الفرد المسلم، فإنه واجب على الجماعة، حيث يتعاون عليه الأفراد في الجماعات ويتشاورون فيه لقولـه تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران:104)، وقال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(المائدة:2).
وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره. وفي تسمية علماء الأصول -خصوصًا الأوائل- لها بالفروض الكفائية، إيحاء، بأن القيام بها من لدن القادرين، ينبغي أن يكون كافيًا للأمة، وإلا فإنها لا تسقط، ويبقى الإثم عالقًا بعموم الأمة.
إلا أن غير القادرين، لا يبقون -بخصوص الفروض الكفائية- بدون مسؤولية، فالشرع يُرتِّب عليهم مسؤولية السعي، لإقامة القادرين[sup][38][/sup]. ونفيُ الضرر ورفعه، مقصد عليّ من مقاصد الشريعة الإسلامية. فلا يقبل كل فعل فيه ضرر على الفرد أو المجتمع في الحال والمآل. وهو ما يتساوق تمامًا مع مبدأ التيسير ورفع المشقة الذي يعد بدوره مقصدا أساسًا من مقاصد التشريع في الإسلام: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(البقرة:185).
و- تحريم الظلم
إن النصوص التي تحث المسلمين على تحريم الظلم، والسعي إلى ضمان حقوقهم وترغِّب في ذلك، أكثر من أن تُحصى[sup][40][/sup] في هذا المقام... والمتعامل معها، يلاحظ، أن في الإسلام نظامًا كاملاً، لإقامة العلاقات الاجتماعية بين الناس، على وجه يُبعِدُ كلَّ الأدواء التي تَنْخر كِيَان المجتمعات عن المجتمع الإسلامي... وهو نظام حري بأن يُبحث فيه وتُوَضَّح معالمُه، في دراسة جادة موضوعية مستقلة. وبذلك فإن هذا المقصد، تحريم الظلم، يمكن أن يعتبر من المقاصد ا