خامسًا: الطهطاوي كان يملك رؤية للإصلاح تعتمد على دولة حديثة التنظيم
أحسبُ أنَّ أولَ من ذكر الإصلاح في المجال العربي كان رفاعة رافع الطهطاوي، في كتابه: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، (1830-1831). وكان الإصلاح عنده يتناول شؤون الصناعة والزراعة والتجارة، كما يتناول مسائل التنظيمات الخاصة والمدنية. وقد عُنِيَ بالتنظيمات الخاصّة الشركات، وبالتنظيمات المدنية الجمعيات الخيرية الأهلية. وهو يعتبر أنّ حالتنا ليست على قدْرٍ كبيرٍ من السوء، فالمسافةُ بيننا وبين أوروبا ليست كبيرة، ويمكن تجاوُزُها برعاية تلك الأمور الخمسة السالفة الذكر، التي تقع ثلاثة ميادين منها تحت إشراف الدولة، ويقع مجالان في الحيّز الذي يمكن أن يُسهمَ فيه المجتمع.
ويتصور الطهطاوي طريقة الإصلاح بإنشاء دواوين (وزارات) للشؤون الصناعية والزراعية والتجارية؛ باعتبار أنّ الدولة تملكُ القسم الأكبر في تلك المجالات. أمّا الشركات فأهميتُها أنها تؤمّنُ الاستمرار، وتدعمُ الاستثمار، وقد كانت من أعمدة الازدهار الإسلامي القديم، وهي عمدة النشاط الحديث في سائر المجالات. وهو يرى أنَّ النشاط الخيري الإسلامي، سواءً في الزكاة والصدقات، أو الأوقاف، ضخمٌ وهائل. ولذلك يستغربُ ضآلةَ آثاره، وتماديه في الانحطاط بعد ازدهار جيلٍ أو جيلين؛ ولذلك يرى استعارة النموذج الفرنسي في الجمعيات الخيرية أو جمعيات الخير العامّ تُتَمِّمُ عملَ الدولة، وهي تُرضي دوافع المواطنين للتطوع والتصدق، وممارسة النشاط المُفيد.
والغريب أو الطريف أنّ الطهطاويَّ (1873) لم يكن يرى ضرورةً للقيام بإصلاح دينيٍ، بعكس شيخه حسن العطار، شيخ الأزهر (1835). فنموذج الطهطاوي العائد من فرنسا بعد أربع سنواتٍ فيها (1826-1830) للنهوض على مستوى الدولة والمجتمع هو نموذجٌ فرنسي؛ لكنه ما كان يرى في فرنسا بالذات أيَّ نموذجٍ للاقتداء في الشأن الديني. فأهلُ الكنيسة من وجهة نظره عديمو التأثير، وهم مع النظام الملكي، وضد الحريات والحِراك الاجتماعي. ثم إنّ الدين المسيحي نفسَه عنده ليس من أسباب النهوض الأوروبي؛ بل اضطُرّت أوروبا من أجل النهوض إلى أن تنفصلَ عنه وبعنفٍ في توجهاتٍ علمانيةٍ لا يحبذها الطهطاوي أيضًا. فالطهطاوي أزهريٌّ تقليديٌّ، ينفصلُ في وعيه التاريخي الدينُ عن الدولة دونما تنظيرٍ كثيرٍ للأمر. والدولة عنده إسلاميةٌ، لأنّ أَولياء الأُمور يعتـبرون الإسلام مرجعيتَهم العليا، والناس في الأعمّ الأغلب مسلمون متدينون، ويستندون في حياتهم إلى اعتقادٍ صلبٍ بعصمة الإسلام وتفوقه. والهزيمةُ أمام الفرنسيين (1799-1803) لا علاقةَ للدين بها؛ بل أسبابُها دنيوية: التراجع في الشؤون العسكرية، والتراجع في الصناعة والزراعة والتجارة؛ وكلُّ ذلك أمكن تجاوُزُهُ في جيلٍ واحدٍ أو أقلّ من جانب والي مصر محمد علي، دونما مشكلةٍ من جانب الإسلام الذي تنصُّ الآيةُ القرآنيةُ المشهورةُ فيه على إعداد القوة (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)(الأنفال:60). وقضى الطهطاوي حياته عاملاً على الترقّي المدني في الشؤون الدنيوية بالذات (إنشاء ديوان المدارس، ومدرسة الترجمة). ولستُ على بينةٍ بشأن رأيه في الإصلاح أو النهوض السياسي. فقد ترجم الدستور الفرنسيَّ الجديد (1830) الذي يتأسسُ على دستور الثورة الفرنسية، لكنه لم يَعُدْ للحديث عنه في كتاباته اللاحقة طوالَ ثلاثين عامًا أو أكثر. وعمل في ستينيات القرن التاسع عشر على ترجمة القوانين الفرنسية، دون أن يُحسَّ أيضًا تناقُضًا بين تلك القوانين الوضعية، ومواضعات الفقه الإسلامي. وألّف في آخِر حياته (وكان قد قرأ وقتَها مقدِّمة أقوم المسالك لخير الدين التونسي) رسالةً في الاجتهاد، تركّز اهتمامُهُ فيها على أمورٍ تقنية، وعلى ضرورة الاجتهاد، وعدم انسِدادِ بابه، وليـست هناك في أعماله غير شكوى خفيفة من تقليدية الأزهريين، الذين دعاهم أحيانًا للتعرف على العلوم العصرية (مثلما أُتيح له هو أن يفعل).
ولا يبدو الطهطاوي مطّلعًا على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب، الذي كانت دولة محمد علي وأحفاده تُعاديها، بعد أن خاضت حربًا (1814-1818) لحساب الدولة العثمانية من أجل القضاء على دولتها الفتية. لكنْ عندما كان الطهطاوي منفيًا في السودان (1850-1854) كانت الدولة العثمانية تشهدُ حركةً إصلاحيةً كبرى في الشأن السياسي والمدني، بلغت ذروتَها في صدور التنظيمات (1857). وإذا كانت القوانين الوضعية والمدنية (وعلى رأسها قانون التجارة، وقانون الطابو أو ملكية الأرض) قد بدأت بالصدور في مصر والدولة العثمانية في أربعينيات القرن التاسع عشر؛ فإنّ التنظيمات استحدثت أنظمة إدارية؛ والأهمّ من ذلك أنها قالت بالمواطنة العثمانية، التي عنت مساواةً بين المواطنين، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم. ولا نعْرف موقف الطهطاوي والأزهريين من تلك المستجدات؛ على الرغم من سطوة غير المسلمين في إدارة محمد علي وأحفاده.
وتزداد مشروعيةُ هذا التساؤل عندما نلاحظ أنّ أربعةً من شيوخ الإسلام، ومن الصدور العظام المتدينين، رافقوا وقادوا عمليات الإصلاح في الدولة العثمانية منذ العام 1837 وحتى صدور الدستور عام 1876. فكانت الفتاوى تُرافقُ القوانين أو تصدر القوانينُ واللوائحُ وفي مقدمتها رأي شيخ الإسلام بالموافقة عليها. ولا شكَّ في أنّ السلاطين الإصلاحيين كانوا يضغطون على شيوخ الإسلام. لكننا نعرفُ أنّ بعضهم اعترض، أو اعتزل أو حاول تنظيم انقلابٍ على السلطان. فالأمرُ لم يكن ذا اتجاهٍ واحدٍ؛ بمعنى أنّ المؤسسة الدينية (مشيخة الإسلام) في حقبة انحطاط السلطنة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ما كانت مستتبعَةً بالكامل؛ وإنْ تكن لها مصـالحُ كبرى (عشرات ألوف الوظائف والمراتب والمرتبات) مع السلطنة تحولُ في كثيرٍ من الأحيان دون المُضيّ في التمرد أو الاعتراض.
وعندما أَلغى السلطان عبد الحميد الثاني الدستور عام 1878 ما وافقَه شيخُ الإسلام على ذلك واعتزل في بيته. في حين آثَرَ قدري باشا أن يبقى في الإدارة لإتمام مشروعه المُهمّ في مجلة الأحكام العدلية (إعادة تدوين الفقه الحنفي في صيغة قانون).
إنّ ما أُريدُ الوصولَ إليه أنّ الطهطاويَّ كان يملكُ رؤيةً للإصلاح تعتمد على دولةٍ حديثة التنظيم، وعلى مجتمعٍ مدنيٍ متناغمٍ مع السلطة صاحبة المشروع. ولم يكن الإصلاح الدينيُّ من همّه؛ كما لم يكن من همّ الدولة، التي أَهملت الأزهر، وأنشأت نظامًا موازيًا للتعليم الحديث. في حين شعر الإصلاحيون العثمانيون بضرورة الحصول على دعم المؤسسة الدينية (مشيخة الإسلام). ولهذا انقسم كبار رجال الدين العثمانيين في وقتٍ مبكّرٍ إلى داعمين للإصلاح أو معارضين له. لكنْ ليس من الواضح هل كان الشيوخ الإصلاحيون يملكون مشروعًا آخر لعلاقة الدين بالدولة، أو لإصلاح المؤسسة الدينية. إنما الواضحُ في الأمر كلّه أنه في عصر الإصلاحات والتنظيمات للدولة والشأن العامّ، صار لرجال الدين العثمانيين رأيٌ واضحٌ في تلك الأمور، أحيانًا بإذن السلطان، وأحايين بدون إذنه.
سادسًا: التجديد الديني في الدولة العثمانية يهدف إلى تسريع الإصلاح السياسي والمدني ويتحول إلى ضرورة حياتية لمسلمي الهند
تسيطر أجواء وبيئاتُ الإصلاح العثماني على رجل الدولة الكبير خير الدين التونسي (1889)، والذي عمل وزيرًا أولَ في تونس، ثم لفترةٍ قصيرةٍ صدرًا أعظم في إسطنبول. ونعرفُ عنه أنه كان إداريًا كبيرًا، ورجلَ ماليةٍ ناجحًا، وعسكريًا متوسط الموهبة. وقد ترك مذكراتٍ بالفرنسية؛ لكنّ أهمَّ أعماله المدوَّنة كتابه الضخم: أقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك. والكتاب ذو الألفَيْ صفحة يتضمن تتبُّعًا تفصيليًا لبُنى الدول الأوروبية المعاصرة له، وتجاربها النهضوية. وهو مثل الطهطاوي (الذي اطّلع على أعماله) يملك أيديولوجيا للتقدم، عرضَها في مقدمة أقوم المسالك، فيما يشبه مقدمة ابن خلدون. ذاك أراد أن يعرِضَ فلسفةً للتاريخ، وهذا أراد أن يعرضَ فلسفةً للنهوض والتقدم على الطراز الأوروبي. وتقوم فلسفة التقدم عنده على تجديد المشروع السياسي أو مشروع الدولة في عالم الإسلام، وعلى دعامتين: الوعي بالمصالح (عند الطهطاوي: المنافع) العمومية، وإقامة التنظيمات أو المؤسَّسات. على أنَّ الجديدَ عنده -إضافةً للرؤية الشاملة للنهوض بالدولة- الدور الذي يتطلع إلى أن يؤديه الإسلام في هذا المشروع الجديد.
خير الدين ليس من العلمـاء أو خريجي الزيتونة، بل إنّ معرفته بالعربية الكلاسيكية ليست على ما يُرام. ولذا فكما اتخذ من ابن خلدون (في نشرة كاترمير([sup][2])[/sup] لمقدمته) نموذجًا له في فلْسفة التاريخ ورؤية التقدم، اتخذ من الشيخ محمد بيرم الخامس -وهو فقيهٌ حنفيٌّ معروف- (دولة البايات في تونس تركية تتبع المذهب الحنفي، مذهب الدولة العثمانية، بينما الجمهور التونسي مالكي) مُرشدًا له بشأن الاقتباس من المصادر الفقهية. وقد زوَّدهُ الشيخ باقتباساتٍ مالكيةٍ وحنفيةٍ في أمرين اثنين: ضرورة فتح باب الاجتهاد، وضرورة مُراعاة المصالح، في التفكير الفقهي، وفي الاجتهاد والاستنباط، وفي النظر لأمور الشأن العام. ومع أنّ المصالح المرسلة، مصدرٌ من مصادر التـشريع الفرعية عند المالكية؛ مثلما هو الاستحسان عند الحنفية (وقد أورد التونسيُّ اقتباساتٍ بشأنهما من مصادر المذهبين)؛ فإنّ التونسيَّ ما اكتفى بذلك؛ بل ذكر نصوصًا من عند الفقيه الحنبلي المعروف ابن قيم الجوزية (751 هـ)، تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية. وما كانت كتب ابن القيمّ مطبوعةً وقتَها؛ لكنّ التونسيَّ رجع (بالواسـطة في الغالب) إلى مخطوطتي الفقيه الحنبلي: إعلام الموقّعين، والطُرُق الحكمية في السياسة الشرعية. والسياسةُ الشرعيةُ عنده هي تدبير الأمر بما يُصلحُه، أو بما يجعلُهُ أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد. وحسبما ينقل ابن القيم عن ابن عقيل الحنبلي أيضا؛ فإنّ المصلحة (العامة طبعًا هي بمثابة الشرع؛ إذ حيثما تكونُ المصلحةُ يكونُ شرعُ الله). إنّ الواضحَ أنّ خير الدين التونسي يرمي إلى شرعنة المؤسَّسات الحديثة باعتبارها مصالح للمسلمين أو باعتبارها تحقيقًا لمصالح عامة لهم؛ بغضّ النظر عن أصلها أو اقتباسها؛ فحسب ابن عقيل: كلُّ ما يحقّقُ مصلحةً للناس يمكنُ اعتبارُهُ شرعـيًا. لكن: مَن المُخاطَبُ بذلك؟ بالتأكيد ليس رجال الدولة التونسية أو العثمانية، الذي كانوا يقومون بمحاولاتهم الإصلاحية الكبرى، ولا يُعانون من مشكلاتٍ كبرى (أو هكذا نفترض) مع الناس أو مع رجال الدين! بيد أنّ دافيسون مؤرّخ الإصلاح العثماني يخبرنا أن الإصلاحات ما لقيت ترحيبًا كبيرًا من المسلمين أو المسيحيين. المسلمون لاعتقادهم أنّ تلك القوانين فرضها الغربيون، والمسيحيون لأنها رتّبت عليهم التزامات في الجندية وأمام المحاكم، كانوا في حِلًّ منها بعد أن تخلصوا عمليًا من وضع "الذميّة" بمعاونة القناصـل الأجانب.
لكن، يبدو في الغالب، أنّ الحُجَجَ السالفة الذكر، أوردها التونسي على سبيل التوعية، ثم لأنّ معارضةً متنـاميةً ظهرت من جانب رجال الدين المسلمين. وهكذا، بعكس الطهطاوي، الذي ما أزعجته التقليدية الدينية، ولم يعتبرها عقبةً في طريق مشروع النهوض؛ رأى التونسيُّ أنّ الإصلاح الدينيَّ ضروريٌّ من أجل نجاح الإصلاح السياسي. وبسبب عدم توافر معرفةٍ عميقةٍ لديه بالنصوص الدينية، وبمواقع الاجتهاد في النصوص؛ فقد اعتقد أنّ ذاك الإصلاح يمكن أن يتمَّ من طريق تجديد التقليد، أو ممارسة انتقائية في تأويل النصوص، وفي الاقتباس من القُدامى. على أنَّ التجديدَ الدينيَّ الذي كان يتحول في أقطار الدولة العثمانية من مطلبٍ لدى النُخَب بعد خمسينيات القرن التاسع عشر من أجل تسريع الإصلاح السياسي والمدني؛ كان بالنسبة للمسلمين بالهند ضرورةً حياتيةً، يتوقفُ عليها استمرارُهم أو استمرارُ جماعتهم. فمنذ القرن الثامن عشر، بدأَ فقهاؤهم يتساءلون عن مشروعية وجودهم البشري، وهل الهند ما تزالُ دار إسلام أم صارت دار شِرْكٍ بسبب ضعف السلطنة المغولية، واستيلاء البريطانيين على أكثر أُمورها. وقد رجع كثيرٌ من فقهائهم وهم أحنافٌ متشددون إلى النصوص الفقهية الحنفية يستشيرونها؛ في حين لجأت قلةٌ في مطلع القرن التاسع عشر إلى نصوص ابن تيمية التي اكتشفوها في مكتباتهم.
وترتّب على هذا النزوع السلطوي بروزُ أحد مخرجين: الجهاد أو الهجرة. وقد ثارت جماعاتٌ صغيرةٌ لعقود، وحاولت جماعاتٌ أُخرى الهجـرة إلى أفغانستان، التي لم يحتلّها المشركون! لكن المخرجين فشِلاً، إلى أن صار هناك إجماعٌ على التمرد عام 1857، وانتهى ذلك بمذابح ضدَهم سقط فيها عشراتُ الألوف، وفقدت جماعاتٌ كاملةٌ في المدن والأرياف أولادها وأملاكَها. وفي حين مالَ فقهاء التقليد للعزلة أو الهرب من البلاد للمجاورة بمكة أو الاستقرار في بلدٍ إسلامي آخر، ظلَّ السلفيون مُصِرِّين على متابعة الجهاد أو الهجرة أو يكون المتجاهلون لأحد المخرجين مرتدين. في هذه الظروف ظهر السيد أحمد خان الذي دعا المسلمين بالبلاد إلى إقامة المؤسسات الحديثة لكي يستطيعوا حفظ وجودهم وتطورهم، وأنشأ هو جامعة عليكره. لكنه ما اكتفى بذلك بل تصدّى بقوةٍ للسلفيين وفقهاء التقليد في الوقت نفسه.
كتب الرجل تفسيرًا جديدًا للقرآن، كما دعا للاجتهاد والتجديد في الفقه. وقال بضرورة التوقُّف عن كلٍ من الجهاد والهجرة. فالهجرةُ دمار، والجهاد انتحار، وسط ظروف الاستضعاف وشروطه. فتكليف المسلمين بالجهاد بعد هزيمة العام 1857 هو تكليفٌ بما لا يُطاق. ثم إنّ الدار دار إسلام ما دام الناس يستطيعون أداء عباداتهم بحرية. ولا بد من خوض التجربة الحديثة في بناء المؤسسات والتعليم العصري، لكي يستطيع المسلمون صَون هويتهم ومصالحهم، وإلاّ صاروا رهائن الكثرة الهندوسية، والاستعمار البريطاني. وكما يحدُثُ عندنا اليوم لدُعاة الإصلاح الراديكالي والليبرالي؛ فإنّ الرجل اتُهم بمحاباة البريطانيين؛ بل التآمُر معهم. وظلّت هذه التهمة (الردة بسبب إبطال الجهاد) تترددُ على مدى أكثر من خمسين سنة؛ إذ كررها أحمد أمين في أربعينيات القرن الماضي، في كتابه: "زعماء الإصلاح في العصر الحديث"، وصار الرجل علَمًا على التغريب الذي هاجمه من أجله شباب وكهول الجيل التالي من أمثال أبي الحسن الندوي، وأبي الأعلى المودودي. والانقسام الذي حصل بالهند (هجرة أو جهاد من جهة، وحياة من الممانعة لصون الهوية والانتماء، باكتساب العلوم الحديثة، من جهةٍ ثانية) حصل مثله في الجزائر عندما احتلها الفرنسيون عام 1830. فالتأزم الذي أحدثه الاستعمار، أفضى في بعـض نواحي العالم الإسلامي، إلى نُصرة التيار الجهادي من أجل التحرير، وإلى بروز تيار إصلاحي تتفاوت قوته، رغم كثرة الناطقين باسمه.
سابعًا: جمال الدين الأفغاني جاء من إيران وأفغانستان والعراق بوعي مؤداه أن لمشكلة المسلمين قطبين دينيًا وسياسيًا
تتميز حركة جمال الدين الأفغاني (1879) ومحمد عبده (1905) وجيلهما للإصلاح والنهوض بعدة أُمور؛ أولها أن الرجلين كانا من علماء الدين. فإن قيل: والطهطاوي كان فقيها؛ فالإجابة أنه لم يعتبر نفسه كذلك، بل كتب وخاطب باعتباره مبشِّرًا بالثقافة الحديثة. وعندما حاول في آخِر حياته أن يكتب في الاجتهاد، جاء كتابُهُ شـديد التواضـع، ومنقـولاً في أكثره عن عصورٍ مضت بمشكلاتها وإشكالياتها. نقل الطهطاوي عن السيوطي (من القرن العاشر الهجري)، وزكريا الأنصاري (من القرن الحادي عشر)؛ وكانت مشكلتهما إثبات أنـهما مجتهدان مطلقان (إلى جانـب الشعراني الذي ادّعى الأمر ذاته)، وليس من ضمن المـذهب الشافعي. وما أقصدُهُ من وراء التأكيد على علمهما الدينـي: ثقتهما بنفسيهما من حيث المعـرفة العميقة بالموروث الإسلامي (الفلسفي والروحي لدى جمال الدين، والكلامي والفقهي لدى محمد عبده)؛ وثاني تلك الأمور أو الميزات استقلاليتهما النسْبية طبعًا؛ إذ لم يعمل أيٌّ منهما موظَّفًا إبّان تطويرهما للمشروع الإصلاحي؛ وبذلك فقد جاء المشروع شاملاً أكثر مما قدَّرا، واستقطب من أجل ذلك مئات من النُخَب على مدى العالم الإسلامي. وثالث تلك الأُمور أنهما ملكا على مدىً معتبر، وسيلةً إعلاميةً للمشروع؛ من العروة الوثقى بباريس، وإلى المنار بالقاهرة (فضلاً عن الوقائع المصرية إبان الثورة العرابية). فكانا بين أوائل من أفاد من تلك الأداة الثقافية الحديثة في الدعاية لأفكاره؛ وأعني بها المجلة.
وصحيحٌ أنّ "العروة الوثقى" و"المنار" تبدوان لنا الآن كأنما هما كتابان وعظيان؛ لكنهما (وبالذات المنار) كانا وسيلةً حديثةً لنشر الأفكار والتوجهات؛ وبخاصةٍ المنار التي استمرت ستةً وثلاثين عامًا، ورابع تلك الأمور معرفة الرجلين بأوروبا وسياساتها الاستعمارية عن كثب؛ لكنّ معرفتهما، (وبخاصةٍ محمد عبده)، شملت أيضًا أوروبا الحديثة، ووسائل وآليات تقدمها وقوتها. ما كانت القاهرة فارغةً عندما أتى إليها جمال الدين الأفغاني، ذلك الرجل الغامض في سبعينيات القرن التاسع عشر. صحيح أنّ مشروع محمد علي كان قد انكسر، لكنّ التغييرات التي أحدثها ما كانت قد نسيت، والعشرات الذين أرسلهم إلى أوروبا صاروا مئات، وحركة الإصلاح العثماني كانت ما تزال تمضي نحو الذروة، وتجربة إسماعيل التحديثية (بما في ذلك استحداث حكومة، ومجلس شوري) تترك آثارها الهائلة على فئاتٍ واسعة من المجتمع.
ويكفي لمعرفة أهمية ما كان يجري أنّ القاهرة كانت تصدر فيها عدة صحفٍ ومجلات، وكذا الإسكندرية، وأنّ المثقف والسياسيَّ على حدٍ سواء كانا يشهدان بداياتهما. ومجيء جمال الدين للقاهرة ما كان أمرًا فريدًا من نوعه. فقد سبق للقاهرة أن شهدت إقبالاً أجنبيًا، ثم من جبل لبنان وسائر أقطار الدولة العثمانية للإفادة من حركة محمد علي لبناء الدولة الحديثة، واستمر هذا الإقبال بعد توقفٍ طفيفٍ أيام عباس الأول وسعيد، للعمل من جهة، وهذه المرة أيضًا بحثًا عن أُفقٍ جديد، تجنبًا للسلطة العثمانية ومضايقاتها في الشام كما في البلقان. ولا نعرفُ عرضًا مشهديًا للقاهرة الاجتماعية والثقافية فيما بين الستينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر، يشبه ذاك الذي نعرفُهُ لها إبّان الاحتلال الفرنسي (الجبرتي، وجومار)، ثم في الربع الأول من القرن العشرين، من خلال قصص نجيب محفوظ.
بيد أنه كان بين أبرز متغيرات النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهور المقهى وازدهاره. وما كانت المقاهي مكشوفة، كما أنها لم تكن مجالس لعلية القوم -في نمطها الراقي- بعد. كان المقهى الناشئ هو البيئة الجديدة لصغار الموظفين، وللغرباء الذي يلتمسون الاتصال بالمجتمع المصري؛ وهذا الجديد في البيئة التي نشر فيها جمال الدين دعوته ما كان يمكن له أن يبدأ في أحد المساجد، لأنه لم يكن يتحدث في الدين بالتحديد، وما كان يمكن له ذلك أيضًا لأنّ الذين يحضرون في المقهى كانت بينهم في البداية كثرة غير مسلمة، وما كان يمكن الذهاب إلى المسجد أخيرًا لأنّ جزءًا كبيرًا من الحديث كان سياسيًا. ويتنبَّه أبو المعاطي أبو النجا في كتابه "العودة إلى المنفى" إلى عاملٍ آخَرَ لظهور بيئة المقهى التي تشي بالمتغيرات، فالمصريون الذي كانوا يأتون إليه أيضًا بينهم ريفيون أتوا للقاهرة للتعلم أو للوظيفـة، ثم زلّت أقدامهم فوجدوا أنفسهم يهيمون على غير هدى، ويتحولون إلى فئةٍ عاجزةٍ عن التلاؤم والتأقلم؛ تملكُ ذلك القلق الذي نعرفُهُ عن المثقفين في باريس في تلك الفترة.
كانت أولى موضوعات الجلسات في المقهى ذات طابعٍ فلسفيٍ عام. ويبدو أنّ ثلاثةً أو أربعةً من أبناء الطبقة العليا كانوا يحضرونها، إلى جانب عشرةٍ أو أكثر من الفئة المتنوعة التي وصفناها.
ومعنى الحديث الفلسفي وقتها الحديـث النهضوي أو العلمي، بالاستناد إلى الترجمات عن تـطور العلوم والصنـاعات، والتي كانت تنقلها عن الفرنسية غالبًا المجلات التي كـان اللبنانيون يُصدرونها بالقاهرة والإسكندرية. ويُضافُ لذلك الحديث عن حروب الدولة العثمانية، وعن وقائع حركة الإصلاح فيها. ثم كيف يمكن تخليصُ الدولة العلية والمسلمين (كانوا يقولون: الشرقيين مراعاةً لغير المسلمين بينهم) من إطباق الأوروبيين عليهم، بالاستعمار المباشر وغير المباشر. ولا ندري متى وجد الأزهريون (من أمثال محمد عبده) طريقهم إلى تلك المجالس. والذي يبدو على أي حال أنهم لم يكونوا كثيرين. إذ ما كان الأزهري وقتها يجلس في المقهى لأنّ ذلك يمسُّ هيبته ورؤية الناس له. ثم إنّ الجلوس إلى غُرَباء وغير مسلمين دونما مناسبةٍ غير التواصل ما كان أمرًا محمودًا. ويقال إنّ محمد عبده تنبه إلى أهمية جمال الدين عندما كان الأخير يتحدث إلى مجموعة صغيرة بالأزهر بعد صلاة العصر، لفت انتباهه بثقافته العقلية (العلوم العقلية: الفلسفة والكلام)، والتي كانت قد أُهملت بالأزهر لصالح الفقه وعلوم النقل. وعلى أيّ حالٍ؛ فقد وجد محمد عبده نفسه حوالي عام 1875م في حلقة جمال الدين بالمقهى، يجلسُ إلى أُناسٍ متنوعين، يجمعهم أمران: النَهَم المعرفي، واستكشاف سُبُل الخروج من التخلف والاستعمار.
كان جمال الدين قد جاء من إيران وأفغانستان والعراق بوعيٍ مؤداه أنّ لمشكلة الشرقيين (المسلمين) قطبين اثنين: ديني وسياسي. وقد استخدم ثقافته العقلية في البداية للسيطرة على حلقة المقهى، التي كانت المعارفُ الفلسفيةُ والحديثةُ تُهمُّها، باعتبارها أساسَ النهوض. على أنّ دخولَ محمد عبده على الحلقة أحدث روحًا جديدة لا من حيث ذكاؤه وحماسه وحسْب؛ بل من حيث وعيه بانحطاط التعليم في الأزهر من جهة، وسُخْط الأزهريين لإهمال دولة محمد علي وأحفاده له. وبتأثير من الأخبار التي كانت تأتي للقاهرة عن حروب الدولة العثمانية التي كانت تنهزم فيها دائمًا تجاه روسيا والنمسا أو في البلقان، وبتأثير أيضًا من أخبار الإصلاح السياسي العثماني الذي وصل عام 1876 إلى إعلان الدستور، اتسع حديثُ الحلقة الجمالية ليشمل الموضوعين الديني والسياسي، وبدون حرج -لأنّ المتحدثين في الدين كانا جمال الدين ومحمد عبده وهما مسلمان- ولأنّ المتحدثين في السياسة كانوا من المصريين الذين يستمع إليهم جمال الدين، ويُسارع إلى عقد مقارنـاتٍ مع الدول الإسلامية الأخرى. ويقال إنّ جمال الدين كانت له علاقةٌ بتوفيق، ولي عهد إسماعيل، وأنّ توفيق كان شديد السخط على الأوضاع، وكان يتوق لتولي السلطة من أجل الإصلاح. وقد ظلَّ الإصلاحيون المسلمون ثم القوميون ينتظـرون طويـلاً "المستبدَ العادل"؛ إذ كان محمد علي قد تحول إلى أمثولةٍ ونموذج.
ثامنًا: محمد عبده كان يؤيد إقامة حكومة دستورية تتولى الأمر فيها نخبة واعية
طردت الحكومة المصرية جمال الدين عام 1879، على الرغم من أنّ توفيق ابن إسماعيل (المفروض أنه صديق لجمال الدين) كان قد تولّى السلطة، بعد عزل والده ونفيه. وفي حين لا يمكن تمييز مرحلتين في فكر جمال الدين وممارسته السياسية، لا بد من القيام بهذا الأمر بالنسبة لمحمد عبده.
فبعد الثورة العربية والاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، حوكم محمد عبده ونفي فذهب إلى تونس وبيروت، ثم التقى بجمال الدين بباريس، حيث أصدرا "العروة الوثقى" قُرابة السنة، ليعودا إلى الافتراق نهائيًا: محمد عبده إلى مصر بعد عودةٍ قصيرةٍ لبيروت، وجمال الدين إلى الطواف الذي انتهى به -بعد أن ضاقت به السُبُل- في أحضان السلطان عبد الحميد. ما كانت عند جمال الدين أفكارٌ واضحةٌ في الإصلاح؛ لكنْ كان همُّه توحيد المسلمين والشعوب الشرقية إن أمكن في مواجهة الاستعمار (البريطاني بالدرجة الأولى والروسي بالدرجة الثانية)، واستحداث وعي لدى المسلمين حكامًا ومحكومين بضرورات النهوض السياسي أولاً، والديني ثانيًا. وعلى الرغم من أنّ حلوله كانت ثورية (تحمَّسَ لثورة المهدي في السودان، وحرَّض على اغتيال شاه إيران)؛ فإنه ما كان يمانعُ في ظهور "مستبدٍ عادل" -وإن لم يثبت أنّ هذه العبارة جرت على لسانه- ويقصدُ به: حاكم يقيم نظامًا للعدالة في الداخل، ويعي ضرورة مصارعة الاستعمار.
ويبدو أنه حتى في مرحلة التوافُق مع جمال الدين، كان محمد عبده يؤيد -شأن المثقفين الذين كان يجتمع بهم في قهوة متاتيا بالقاهرة مع جمال الدين- إقامة حكومةٍ دستورية تتولى الأمر فيها نخبة واعية، تحدُّ من سلطات الحاكم وصلاحياته، باتجاه المساواة بين المواطنين (عرب وأتراك وشركس)، وتخصيص موارد الدولة لخير الناس، والتخلص من الهيمنة الأجنبية على مصر من طريق إدارة الدّين (مصر للمصريين). وقد تبينتْ ميوله هذه عندما تولّى رئاسة تحرير الوقائع المصرية، جريدة الدولة الرسمية، في فترة سيطرة العُرابيين على الأمور. ولا يمكن التمييز بين أفكار الرجلين في العروة الوثقى، التي يبدو أنهما كانا يشتركان في كتابتها وتحريرها. ويقال إنّ الصياغة كانت لمحمد عبده، لكنها لا تشبه أُسلوبَهُ الذي عرفناه في العقد ونصف العقد الأخير من حياته.
وتسودُ العُروةَ الوُثْقى لهجةٌ خطابيةٌ تتركز في أمرين: التوعية السياسية بالاستعمار ومخاطره وطرائق مكافحته، ودعوة المسلمين لنبذ الفُرقة الناجمة عن الصراعات الإقليمية والسياسية والمذهبية، أو الناجمة عن الممارسات الدينية التي سادت في عصر الانحطاط. وقد تكررت هذه الآراء من جانب جمال الدين في إسطنبول (في الخاطرات التي نشرها عن مجالسه محمد باشا المخزومي). ويعني ذلك أنّ هذه الآراء هي في الأساس له، أو أنّ محمد عبده كان ما يزال يشاركُهُ إيّاها. وليس في تلك الآراء شيءٌ خاصٌّ لافت للانتباه، باستثناء ذلك الوعي الإسلامي العامّ، وأنّ المسلمين أمةٌ واحدةٌ تتعرض لمشكلةٍ رئيسية هي الاستعمار، وأنّ المنقذ من ذلك مجيء حكام واعين يقدّمون مصلحة بلادهم على كلّ أمرٍ آخر، ويتوحدون مع شعوبهم من أجل النهوض، ومقارعة الغُزاة.
ولأنّ كتابات جمال الدين قليلة؛ فقد يكونُ مُفيدًا العودة (خارج مقالات العروة الوثقى والرد على الدهريين) إلى مناقشـاته في الصحافة الفرنسية مع إرنست رينان وهانوتو، والتي شارك فيها محمد عبده. أما رينان فهو من كبـار علماء الساميّات، وله دراسـةٌ مشـهورةٌ عن الرشـدية اللاتينيـة (ترجمها عادل زعيتر إلى العربية في الخمسينيات). وكـان له رأيٌ في قصور العقـلية الساميـّة (العبرية والعربية)، وفي انحطاط الشرقيين.
وقد ردَّ عليه جمال الدين أو ناقشه في ذلك؛ فأوضح أنّ الانحطاط ليس ناتجًا عن القصور العقلي أو الدين، وأن مشكلة المسلمين والشرقيين في سوء حكامهم، وفي الاستعمار القاعد على أنفاسهم. وذكر شاهدًا على إمكان نهوض المسلمين عبر دولة محمد علي، والتي ضربها البريطانيون والفرنسـيون على حـدٍ ســواء.
أما هانوتو فهو سياسي وكاتب فرنسي، رأى أن للاستعمار رسـالةً تمدينيةً، لأن المسلمين منحطّون، وحكّامهم غير صالحين. وقد ناقشه كل من جمال الدين ومحمد عبده في أن الإصلاح لا يأتي من الخارج، وأن التمدن الأوروبي الزاهر سيفشل لدى الشرقيين إن كان مفروضًا من الخارج. وهكذا فقد كان الأفغاني ثوريًا محترفًا، تتقدم لديه الاعتبارات السياسية على كلّ ما عداها. وقد كان أكثرما يقلقُهُ تكالُبُ الأوروبيين على استعمار الشرق وبلاد المسلمين، وعدم تنبه السياسيين المسلمين لذلك بحيث يتوحدون في مواجهته. وقد وضع أملَهُ في آخِر حياته في الجامعة الإسلامية، التي كان السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909م) يتزعم الدعوةَ إليها، باعتباره رمزًا لوحدة الإسلام، والشرعية السياسية للأمة التي هو خليفتها.
ونعرفُ مما انكشف من وثائق ورسائل وتقارير استخبارية في الثلاثين سنةً الأخيرة، أن الرجلَ ما كان أفغانيًا بل إيرانيًا. وأنه قضى فترة الشباب بين إيران وأفغانستان والعراق. وأنه أخفى ذلك كلَّه حتى لا يتأثر تحركه في العالم السُنّي. وأنه ربما تكونُ له علاقات ببعض الأجهزة والسلطات في فرنسا وبريطانيا وروسيا. ويريد خصوم قدامى، وباحثون معاصرون، التشكيك في إيمانه، وفي أمانته للقضايا التي قضى حياته يعملُ من أجلها.
بيد أن الثابت والظاهر من انطباعات مُعاصريه عنه، أنه كان يعتبر نفسَهُ سيّدًا (من سُلالة النبي)، وأنه كان عميق الاقتناع بقدرة الدين على استنهاض المسلمين. ولذلك؛ فإن اهتمامه ما كان منصبًا على القيام بإصلاح ديني (حتى لا تتفرق الكلمة)؛ بل الاعتماد على عواطف الجمهور ونوازعه الإيمانية لمُجاهدة المستعمرين، ومكافحة الظَلَمة والمستبدين. ولو كان انتهازيًا وضعيف الدين -كما اتهمه مفكرو الصحوة الإسلامية، وسخر منه من أجل ذلك المستشرقون- لاستطاع الاطمئنان إلى جوار هذا الحاكم أو ذاك، أو هذا الوجيه أو ذاك، أو هذا الطرف الاستعماري أو ذاك. بينما الواقع أنه قضى حياته متنقلاً قلقًا معذَّبًا في كل مكانٍ قصده، دون أن يخطر بباله اعتبار نفسه ضحية. وقد كان مقتنعًا بإمكان تهييج العامة والخاصة على المستعمرين وعلى الحاكمين، وفي كلّ الحالات بواسطة الإسلام. وما كان الرجل من الحنكة والصبر بحيث يعملُ كالجيل الذي أتى بعده، على الفتنة بين المستعمرين أو الحكام، رغم أنه حاول ذلك.
وأرى أنَّ أهمَّ ما تركه من آثار في الحقيقة، تسييس الإسلام، وتحويله إلى عامل مؤثّرٍ في السياسات الدولية. وأعتقد أنّ هذه الحملات الاستشراقية والاستعمارية والتي توالت منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، ضد فرضية الجهاد (سمَّوها الحرب المقدسة)، وقع في أصلها ما تنبهوا إليه من خلال كتابات جمال الدين، الذي كان مُصِرًّا على أنَّ المسلمين إنما يدافعون -شأن سائر البشر عندما يتعرضون للغزو والسحق- عن أنفُسهم بهذه الطريقة.
وتذكر تقاريرُ هندية وبريطانية أنّ جمال الدين، كان شديد السُخْط على السيد أحمد خان، الذي كان يُحاجّ في فرضية الجهاد، خوفًا منه على مسلمي الهند أن يتعرضوا للإبادة إن ثاروا. وكانت وجهة نظر جمال الدين أنه لا يمكن اعتبار الهنود مسلمين وغير مسلمين، مستضعفين. لكن حتى لو كانوا كذلك؛ فيمكن إقامة العذر لهم، دونما إلغاءٍ لفرضية الجهاد عندما تتوافر القدرة.
تاسعًا: محمد عبده لم ينج من التقليد أو إشكاليته فهو يلجأ للتأويلات
تغيرت أمور أساسيةٌ في شخصية محمد عبده ودعوته بعد مغادرته باريس وجمال الدين عام 1887م. وما كان ذلك مفاجئًا في الحقيقة لمن يتتبع اهتماماته بدقةٍ منذ العام 1884. ففي ذلك العام كتب في بيروت "رسالة التوحيد"، ثم صدرت له في آخِر حياته حاشيته على شرح الدواني للعقائد العضدية (1904). وهكذا فمحمد عبده يُعطي أولويةً للإصلاح الديني. ولا يرجع ذلك لاعتقاده ضرورةَ ذلك وحسْب؛ بل لاعتباره أنّ هذا مجالٌ يمكنُهُ السيطرة عليه، وقول جديدٍ في نطاقه. ولا شكَّ أنّ تفسيره للقرآن (الذي عُرف فيما بعد بتفسير المنار، لأنه نُشر أولاً على حلقات بمجلة المنار) هو أهمُّ النصوص التي يمكنُ تتبع آرائه في الإصلاح من خلاله؛ لكنّ نصَّيه الكلامين (الرسالة، والحاشية) تشير إلى الخطوات التي رأى إتّباعَها للانطلاق في الإصلاح والتغيير الإسلامي.
لقد رأى أنّ الإصلاح العَقَدي له أُولوية. فالعقائد العَضُدية هي النص السنّي الأشعري الرئيس في العقائد لدى المتأخرين، ولذلك كثُرت عليها -إلى جانب العقائد النَسَفية- الشروحُ والتعليقات. ركّز الشافعيةُ بالمشرق على العقائد العَضُدية (نسبة لعضُد الدين الإيجي الذي عاش في القرن الثامن الهجري)، بينما ركّز الأحناف على العقائد النَسَفية (نسبة للنَسَفي من القرن السادس الهجري).
بيد أنّ العقائد العضُدية ظلّت أهمّ لدى الأزهريين، رغم ميل العثمانيين الحاكمين للنَسَفي الماتريدي.
تمثَّل التجديد العَقَدي لدى محمد عبده بالتركيز على ثلاثة أفكار -والاستغناء في الاستدلال عليها عن الموروث المنطقي والفلسفي والجدالي، الذي جعل من المباحث العقدية أُحْجيةً تستعصي على التفكيك والفهم- الفكرةُ الأولى: وجودُ الله ووحدانيتُهُ استنادًا إلى العقل والفطرة معًا، وليس انطلاقًا من مقولات الوجوب والإمكان، والقِدَم والحدوث. والفكرة الثانية: النبوة باعتبارها رسالةَ هدايةٍ وإصلاح أخلاقي، تتدرج بها دعواتُ الأنبياء والرُسُل وصولاً لخاتم المرسَلين محمد - صل الله عليه وسلم -. والفكرة الثالثة: الشرائع باعتبارها مُرشدًا للسلوك البشري، وتواصُل الناس، وعيشهم معًا؛ بالهداية الإلهية، وبإصغاء البشر العقلاء لأخلاق النبوة، ولمقتضيات العقول والمصالح.
وقد حار الباحثون الذين حاولوا تحديد مقاصد الشيخ عبده من وراء بدئه بالعقائد، وبخاصةٍ أنّ رسالة التوحيد، تبدو أكثر تحررًا من حاشيته على العقائد العضدية وشروحها. فقال البعض إنه يبدو أميل للاعتزال في بعض المباحث (مثل الحُسْن والقبح وهل هما عقليان أم شرعيان)، وقال أستاذنا الشيخ سعاد جلال في الستينيات إن الأصالة ضئيلةٌ في رسالة التوحيد، وفي حاشية العقائد العضدية. وحاول أستاذنا الآخر الشيخ سليمان دنيا (في كتابه عن محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين) التدليل على أنّ الإمام أراد الخروج من إسار اللاهوت (علم الكلام) إلى الفلسفة بتأثيرٍ من شيخه جمال الدين. ويبدو لي أنّ إشكالية الشيخ عبده كانت جديدةً تمامًا، وأشبه بما دعا إليه شبلي النعماني المفكر الهندي فيما بعد.
أراد الشيخ عبده الخروج على التقليدية السنية ليس باتجاه الاعتزال أو الفلسفة؛ بل باتجاه ما عُرف فيما بعد بعلم الكلام الجديد. وطبيعي أن لا يمتلك الحرية نفسها في حاشيةٍ على نصٍ مدرسيٍ سابق (مثل العقائد العضدية). لكنه في الحالات كلّها (مثل تعليقاته على آيات الكون والطبيعة في تفسير المنار) ما كان يدعو لإنتاج منظومةٍ عقديةٍ بديلة؛ بل الخروج من المنظومة القديمة باتجاه نظامٍ أخلاقي أو نظام يستند إلى الأخلاق باعتبارها قيمًا مطلقةً أصلُها الإطلاقيةُ الإلهية؛ بحيث تكونُ الخطوةُ الثانية اعتبار القرآن والإسلام نهجًا للحياة، يبعثُ معناه الأخلاقي الكبير الروح في التشريع الإسلامي أو الفقه الإسلامي.
ولا مهرب من التعرف هنا على الخلفيات الدينية والثقافية التي كانت تحفلُ بها البيئات في مصر وأقطار الدولة العثمانية، حتى قبل ذهاب الشيخ إلى باريس ولندن. كان السلطان عبد الحميد مهتمًا بالتجديد الديني والسياسي على طريقته. وعندما كان عبده في بيروت، كانت أكثر الكتب العَقَدية انتشارًا الرسالة الحميدية، ثم الحصون الحميدية للشيخ حسين الجسر، وهي تمزج الأشعرية بالتصوف والروحانيات القديمة المستمدَّة من الغزالي. وهكذا جاءت رسالة التوحيد ردًا على "تجديد التقليد" الذي حاوله علماءُ الدولة. وعاد الشيخ عبده فدرّس رسالة التوحيد بمصر في التسعينيات؛ لكنه عندما رأى أنها لن تتحول إلى نصٍ مدرسيٍ بالأزهر، كتب حاشيته على الدواني والعقائد العضدية، وقال فيها الأشياء نفسَها؛ لكنْ بلغة المتكلمين ومصطلحاتهم.
ولا يعني ذلك أنّ عبده نجا من "التقليد" أو إشكاليته مطلقًا. فهو يلجأُ كثيرًا للتأويلات، ووجوه التشكلات الكلامية؛ لكنه يفعلُ ذلك ليس احتيالاً أو خوفًا من العامّة؛ بل لوضع المنظومة كلّها في سياقاتٍ جديدةٍ تخدمُ عمليات تجاوُزِها بالاتجاه الذي يريده (كما هو شأن كلّ المجتهدين المسلمين الكلاسيكيين في تغييراتهم)، دون أن يستعمل في ذلك النقد الجذري العنيف الذي استخدمه آخرون مثل رفيق العظم أو السلفيين (مثل جمال الدين القاسمي) فيما بعد، أو التحديثيين السذّج (مثل الشيخ طنطاوي جوهري). والملاحَظ أنه بخلاف شيخه جمال الدين شديد التأثر بالعلوم التي كانت متداوَلةً أيامه، وعلى رأسـها التطورية الداروينية، كما آلت إليه على يـد هكسلي وسـبنســر.
جمال الديـن بدأ نشاطه الكتابي المعروف بالرد على الدهرييـن (التيار الإلحادي في الداروينية الاجتماعية). بينما أخذ محمد عبده عن الداروينيين فكرة السُنَن، وطبّقها على السُنَن الإلهية الواردة في القرآن. ذكر محمد عبده ومُعاصروه وتلامذته نوعين من السنن: السنن الطبيعية (في النظام الكوني)، والسنن الاجتماعية (تطور الأُمم والمجتمعات والدول). وأنا أرى أنّ هذه هي الفكرة الرئيسة الأولى في تفسير المنار. أما الفكرةُ الثانية في التفسير عنده، فهي فكرةُ المصالح والمقاصد. وقد استخدمها في قراءة الأحكام الشرعية، كما استخدمها في تسويغ الاجتهاد. أمّا مسألة السُنَن فقد قرأ من خلالها عوامـل النهوض والانحطاط، باعتبار أنه لا عجائبَ ولا معجزات بعد خاتم الأنبياء. ثم إنّ النصَّ القرآنيَّ لا يترك مجالاً لغير القول بالارتباط بين الأسباب والمسبّبات في العوالم الحضارية والأُممية والاجتماعية. فللنهوض سُنَنُهُ التي اتبعها المسلمون الأوائل، والغربيون المعاصرون، فأفضت إلى هذا الظهور الحضاري الكبير في الحالتين. وللانحطاط عللُهُ وأسبابُهُ التي لا تتخلَّّفُ نتائجُها إذا استتبّتْ أسبابُها.
وفي حين كان محمد عبده (حتى إبّان صحبته لجمال الدين) مقتنعًا تمامًا بهذه الفكرة، كان جمال الدين (ربما لاختلاف الأَولويات لديه) يرى أنّ تحرر المسلمين من الاستعمار بالعمل السياسي الوحدوي يؤدي إلى التقدم، وفي حين كان عبده يرى (ما أوضحه مالك بن نبي بعد أكثر من نصف قرنٍ على ذلك) أنّ الاستعمار نتيجةٌ وليس سببًا، وأنه لو لم تكن هناك أسبابٌ ذاتيةٌ لدى المسلمين لما نجح الاستعمارُ في الاستيلاء على ديارهم. ولذلك يُروى أنّ جمال الدين، كان يقولُ له عندما يرى تشاؤمه ويأسه: إنما أنت مثبِّط! وبَيْن فكرة السُنَن الحاكمة، ومقاصد الشريعة، يقعُ مشروع محمد عبده للإصلاح الديني بالتمام والكمال.