خصوصية الأسرة الفلسطينية:
إن العائلة العربية متشابهة من الناحية التقليدية، وتختلف مع مثيلاتها في العالم إلى درجة أنه من الصعب التمييز بينها في العالم العربي بوضوح بشكل عام، إلا أن العائلة النووية الفلسطينية تختلف في بعض الأنماط التي لا تعود إلى تأثيرات ثقافية أساسية بينها وبين الشعوب العربية، خصوصاً مع شعوب الدول العربية المتجاورة، إذ أن تقسيم العالم العربي إلى دول ووحدات سياسية مختلفة جاء اعتباطاً إلى حد كبير، ولم يتبع حدوداً ثقافية أو جغرافية طبيعية ذات معنى، وإذا وجدت بعض الفروقات فهي وليدة ظروف طارئة مرّت على الدول العربية في العقود الأخيرة منذ وضعت حدودها السياسية، إذ وقع الفلسطينيون منذ أوائل القرن العشرين تحت ظروف الاحتلال، ولم يشاركهم فيها أي شعب عربي آخر؛ ظروف الاحتلال البريطاني والصهيوني، ثم ظروف الهجرة والتشتت سنة 1948م وسنة 1967م، والعيش تحت الاحتلال الصهيوني منذ عام 1967م، ثم الأحداث المتوالية للانتفاضة الأولى والثانية، وحرب الخليج، واتفاقية السلام، وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية.
لقد اقتلع القسم الأكبر من المجتمع الفلسطيني وشتت، واضطر الكثيرون من أبناء الشعب الفلسطيني إلى مواجهة هذا العالم القاسي البشع كأفراد، وفي أحسن الحالات كعائلات. ومنذ عام 1967م وقع ما تبقى من الشعب الفلسطيني على أرض وطنه تحت وطأة الاحتلال، ولم يكن هناك أي جسم مركزي أو تنظيمات فعالة على المستوى المحلي تقف كسياج بين الإنسان الفلسطيني الفرد والاحتلال، سوى العائلة. فالعائلة هي المستوى الذي تفاعل مع هذه الظروف كلها والذي حافظ على بقاء الإنسان كجسد وكهوية، فلا بد أن هذه التجارب قد تركت آثارها على هذه المؤسسة. وهذه الآثار هي ما سنحاول أن نتحسسه في هذا الجزء من بحثنا، ونسعى إلى التعرف على تلك الأحداث والتطورات التي أثّرت على تركيبة العائلة العربية الفلسطينية، ووظائفها وطبيعة العلاقات داخلها وبينها. وحتى بالنسبة لهذا الهدف فإننا لا نستطيع أن نعطي جميع فئات وتجمعات الشعب الفلسطيني حقها، وإنما سنتحدث بشكل رئيس عن ذلك الجزء من الشعب الفلسطيني المتواجد على أرض وطنه في الضفة الغربية وقطاع غزة، مع إشارات عابرة إلى بعض التجمعات الفلسطينية في الشتات بين الحين والآخر "شريف كناعنة، حملة التوعية المجتمعية ص 86". علماً بأن عدد السكان المتواجدين في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة قد بلغ 2,811,878 نسمة منهم 1,810,309 في محافظات الضفة الغربية و1,001,569 في قطاع غزة "حسب التعداد العام للسكان 97 الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني".
كان المجتمع الفلسطيني يتألف في بداية القرن الحالي من ثلاث فئات: (أ) سكان المدن، (ب) سكان القرى، (ت) البدو، وبعد نكبة 48 انضمت فئة جديدة هي سكان المجتمعات.
سكان القرى: كانت أغلبية السكان تعيش في القرى وتمارس الزراعة من أجل كسب القوت. وكانت العلاقات الاجتماعية تتميز بالتقارب والتكافل داخل العشيرة، وكانت التقاليد تسيطر عل أسلوب الحياة. وكانت المرأة في هذا المجتمع تخرج إلى الحقل، وتنفذ الدور التقليدي للمرأة في الزراعة، مثل: إزالة الحشائش الضارة والحصاد، بالإضافة إلى مسؤوليتها المنزلية في الطهي والخبز وحفظ الأطعمة وغسل الملابس وجلب المياه والحطب.الخ. ولم يكن للمرأة أي دور في مقايضة ومبادلة إنتاجها، كما أن زواجها كان يرتب دائماً من جانب العائلة، وكان يتوقع من المرأة أن تنجب أكبر عدد ممكن من الأطفال، وخصوصاً الأطفال الذكور، لكي تضمن قوة الأسرة وسيطرتها على ممتلكاتها. وبرغم هذا الوضع القانوني والاجتماعي الضعيف، فإن المرأة في القرى لم تكن مقيدة في منزلها من ناحية العادات والتقاليد. كما كانت تتمتع بحرية نسبية في الحركة في الحقول وفي إطار العشيرة. ولم تكن هناك مؤسسات تعليمية متاحة للمرأة في الريف، ولم يكن يسمح لها على الإطلاق بالمشاركة في الحياة العامة. وكانت المشاركة العامة الوحيدة المتاحة لنساء القرى لا تتوفر إلا عندما تكون هناك اضطرابات سياسية ونزاع مسلح، عندما كانت المرأة تنقل الغذاء والذخيرة للمقاتلين الرجال.
سكان البدو: كانت هناك نسبة ضئيلة من الفلسطينيين البدو الذين يتمركزون بصورة أساسية في المنطقة الجنوبية، ويتنقلون بين بئر السبع وغزة، كما كان هناك عدد أقل من القبائل في وادي الأردن. وكانت حياة البدو تتميز بروابط قبلية قوية. هناك وجهات نظر متضاربة بشأن وضع المرأة البدوية، إذ يعتبر البعض أنها كانت قوية داخل قبيلتها وتتمكن من الحركة دون أية قيود، بينما يعتبرها البعض الآخر معرضة لقيود قبلية وتقليدية صارمة. وبرغم حرية الحركة النسبية للمرأة البدوية، فإن هذه الحرية لم تنشأ سوى عن الضرورة الاقتصادية لمتابعة قطعان الماشية وجلب المياه والحطب. كما لم تكن المرأة في المجتمعات البدوية تشتهر بأي إسهام ملحوظ في فترات الأزمة الوطنية "المؤتمر الفلسطيني للسكان وتنظيم الأسرة 1994م ص 142".
وكانت المرأة القروية والمرأة البدوية، تعيشان في مناطق منعزلة، ولم تستطيعان الوصول بسهولة إلى الخدمات الصحية أو التعليمية. ولم تفتح سلطات الانتداب المدارس أو المستشفيات لهذه المجتمعات، كما أنها لم تنشئ أية بنية تحتية تجعل الحياة أسهل في تلك المجتمعات. واستمرّت تلك المجتمعات المحلية القروية، والبدوية، في أسلوب حياتها الذي ينتمي إلى العصور الوسطى، ويؤثر بدرجة أساسية على حياة المرأة إضافة إلى اضطرار المرأة إلى تحمل مشاق حياة القرى والبداوة. وكان عدد كبير من النساء يموت عند الولادة، وكذلك عدد كبير من الأطفال يموت في مرحلة مبكرة؛ وذلك بسبب عدم توفر الخدمات الصحية الواجبة.
سكان المدن: كانت هناك نسبة صغيرة من إجمالي السكان الفلسطينيين تعيش في المدن، وكانت القاعدة الاقتصادية لهؤلاء السكان، تتمثل في الصناعات الخفيفة والتجارة، وتقديم الخدمات إلى القرى والقبائل المحيطة بالمدن. وكان سكان المدن في معظمهم من الناس الذين انتقلوا من الريف إلى الحضر لأسباب اقتصادية، ثم حافظوا على قيمهم التقليدية القديمة، وهكذا لم يكن هناك فارق كبير بين الموقف تجاه المرأة في المدينة، وبين المرأة في القرية. وكان الفارق الرئيسي يكمن في توفر المزيد من فرص الرفاهية في المراكز الحضرية، مما أدّى المرأة في الكثير من المسؤوليات المنزلية من خلال استخدام خدم المنازل.
وبسبب التقارب الفعلي بين المساكن في المدن، كانت النساء يتعرضن لمزيد من الظهور، مما أدّى إلى احتمالات الزواج بين العشائر المتباعدة، ولم يكن هناك تفضيل لهذه الممارسة، لأنها تؤدي في النهاية إلى بعثرة الممتلكات. ونظراً لعدم وجود ضرورة اقتصادية لعمل المرأة، وعدم وجود تقليد لذلك، كانت المرأة في المدينة تتعرض للانعزال، باستثناء فتيات الأسر المتفتحة، وجاء هذا الانعزال بالإضافة إلى التقاليد الاجتماعية الصارمة للغاية "المؤتمر الفلسطيني للسكان وتنظيم الأسرة 1994م ص 142". لم يكن هناك تشجيع لتعليم المرأة، وكان هناك عدد صغير من المؤسسات لتعليم الإناث. وكانت الكنائس المسيحية المختلفة، هي التي تدير معظم المؤسسات الضرورية للتنمية البدنية والعقلية للمرأة في مجال الصحة أو التعليم. ولم تكن سلطات الانتداب تهتم سوى بتقديم الخدمات التي تيسر السيطرة على السكان بصورة أفضل، ومنها افتتاح مراكز تدريب مهني لتخريج الموظفين، وبناء الطرق لتسهيل تحرك الوحدات العسكرية التابعة لتلك السلطات.
وقد جاءت أي مشاركة منظمة من جانب المرأة في الحياة الاجتماعية والسياسية، خلال تلك الفترة من جانب النساء في المدن، ومن جانب الأقلية الصغيرة من النساء المتفتحات. وكانت الجمعية الخيرية في عكا، التي تألّفت في 1903م، من بين أولى الجمعيات الخيرية التي أسّستها النساء خلال تلك الفترة، كما تمّ تأسيس جمعية أخرى في يافا في 1910م، وجمعية ثالثة في رام الله في 1924م. وكان النشاط النسائي الأساسي يتمثل في تأسيس الاتحاد النسائي العربي في 1928م. وكان هذا الاتحاد يعمل على تعبئة النساء في كل أنحاء فلسطين من أجل القضية الوطنية. وركّز الاتحاد أنشطته على الأزمة الوطنية فشارك في مسيرات الاحتجاج والحملات السياسية، وحملات الدعاية ضد الهجرة اليهودية المتزايدة، التي أدّت إلى إنشاء دولة إسرائيل في مرحلة لاحقة "المؤتمر الفلسطيني للسكان 1994م ص 143".
وباختصار، لم تكن المرأة تنشط خلال فترة الانتداب إلا من خلال المنظمات الخاصة بها، كما أنها لم تشارك في الأطر السياسية المختلفة في تلك الفترة. وإضافة إلى ذلك كانت المنظمات النسائية حديثة العهد والحركات السياسية الرئيسة في ذلك الوقت، لا تركز نشاطها إلا على الأزمة السياسية، كما أنه لم يكن لها برنامج اجتماعي، وبذلك لم تؤد إلى أي تطور أساسي أو مهم في وضع المرأة داخل المجتمع الفلسطيني.
سكان المخيمات بعد نكبة 1948:
تشتت أغلبية السكان الفلسطينيين في أربع دول عربية مجاورة، هي الأردن، وسوريا، ولبنان، ومصر نتيجة للحرب العربية الإسرائيلية في 1948م. ونتيجة لهذا التفرق، حدث تصدع للمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والأكاديمية...الخ المختلفة في المجتمع. واستغرق الأمر بعض الوقت حتى استطاع الناس إعادة تنظيم صفوفهم وحياتهم، في محاولة لاستعادة بعض الاتصالات الاجتماعية على الأقل، للمحافظة على القيم الثقافية، والتقاليد اللازمة، للإبقاء على مجتمعهم، برغم فقدان القاعدة الاقتصادية التي كانت تحافظ على تلك التقاليد.
وتمثل التغير الرئيس في الهيكل الاجتماعي الفلسطيني، خلال تلك الفترة، في نشوء فئة اجتماعية جديدة هي سكان مخيمات اللاجئين. وانفصل سكان القرى الفلسطينية، الذين لم تكن لديهم حرفة سوى زراعة الأرض لكسب قوتهم عن قراهم، وهربوا إلى اتجاهات مختلفة. وأعاد هؤلاء القرويون تنظيم صفوفهم وفقاً للعلاقات العشائرية، واستقروا في مخيمات مختلفة للاجئين تنتشر في كل الدول المحيطة بإسرائيل. وبسبب ضياع الأرض التي كانت تمثل المصدر التقليدي للثروة، اضطرّ الفلسطينيون إلى التحول إلى التعليم لتحسين فرص العمالة المتاحة لهم. وتمّ إدراج الأبناء والبنات في المداس، كما أنهى عدد متزايد من الطلبة المرحلة الثانوية، واتجهوا إلى دراسات أكاديمية عليا. وبالإضافة إلى ذلك كان الرجال في أحيان كثيرة يغادرون ديارهم سعياً إلى العمل في دول الخليج، ويخلفون النساء والأطفال وراءهم.
وكان لزاماً على المرأة أن تقوم بدور أكثر نشاطاً في اتخاذ القرارات بشأن الأمور المنزلية، كما اضطرّ عدد كبير آخر إلى البحث عن العمل لتحسين اقتصاديات الأسرة. وساهمت هذه العوامل كلها في التغير التدريجي لأدوار المرأة في المجتمع. ومع ذلك لم يصحب هذا التغير في دور المرأة أي تغير في الموقف الاجتماعي منها. وكانت المرأة لا تزال تعتبر أساساً منتجة للورثة الذكور، كما كانت السلطة النهائية في اتخاذ القرارات المتعلقة بمصير المرأة، لا تزال في يدي الأب أو الزوج. ولم يتغير وضع المرأة من الناحية القانونية. واستمرت قوانين الأحوال الشخصية نفسها التي كانت سائدة في العهد العثماني، مطبقة على المرأة في تلك الفترة أيضاً. وبرغم التحسن في توفير الخدمات الصحية والتعليمية من خلال وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، التي تولّت مسؤولية مخيمات اللاجئين، فإن حياة المرأة كانت مثقلة بفعل الظروف السيئة للحياة في المخيمات، والفقر المدقع، وتصدع الأسرة لأسباب اقتصادية.
وباختصار، برغم التحسن في الخدمات التعليمية والصحية، التي تلبي حاجات الإناث، وبرغم ظهور ومشاركة المرأة في الحياة العامة، فإن البرنامج العام لنشاط المرأة، كان لا يزال يتركز على القضية الوطنية على حساب تحسين وضع المرأة من خلال التغيرات في التشريع. ولم تأخذ الخطط الوطنية المختلفة في الاعتبار، الحاجات الاجتماعية المختلفة للسكان الفلسطينيين من ناحية مواقعها المختلفة، ولم تعمد إلى معالجة تلك الحاجات في مخيمات اللاجئين، أو المدن، أو القرى، وذلك لتضييق الهوة بين الهياكل الاجتماعية الفلسطينية المختلفة، وعلاوة على ذلك فلم تتضمن تلك الخطط الوطنية برنامجاً اجتماعياً تقدمياً، يؤدي إلى تحسين الوضع الاجتماعي والقانوني للمرأة بشكل عام. وكان المجتمع في معظمه لا يزال يعتبر الدور الرئيس للمرأة في الحياة، هو إنجاب الأطفال الذكور للأسرة. واستمرّت العادات والتقاليد في ذلك أيضاً، إلى موقف عانت منه المرأة في هذا الجيل مثلما عانت المرأة خلال فترة الانتداب، حيث تمت تعبئتها، ولم تصبح نشطة من الناحيتين السياسية والاجتماعية، إلا في فترة الأزمة الوطنية.
وعندما انحسرت الأزمة، انحسرت معها مشاركة المرأة في كل نواحي الحياة العامة. لقد مزّقت حرب 1948م جسم المجتمع الفلسطيني وبعثرت أجزاءه في جميع أجزاء العالم وأصبحت الأكثرية الساحقة منه، المليون نسمة، لاجئين. وقد أدّى هذا إلى بداية تيارين متناقضين في العائلة الفلسطينية اللاجئة: من الجهة الأولى، أدّت الحرب إلى تمزيق المجتمع الفلسطيني على جميع المستويات ومنها مستوى العائلة، ومن جهة أخرى، فإن هذا التمزق في المجتمع وغياب أي نوع من البناء الاجتماعي فوق مستوى العائلة لمدة طويلة، أدّى إلى زيادة اعتماد الفرع على العائلة، وكانت قوة وتماسك العائلة والحمولة والعشيرة والقرية لمجتمع ما قبل 1948م هي التي أنقذت الشعب الفلسطيني، وحافظت على بقائه واستمراريتها في مرحلة ما بعد 1948م. ويمكن أن نقسم الشعب الفلسطيني الذي رُحّل سنة 1948م إلى قسمين، قسم بقي على أرض الوطن فيما أصبح يعرف بالضفة الغربية وقطاع غزة، وقسم ذهب إلى البلاد العربية المجاورة ومنها انتقل قسم فيما بعد إلى باقي أجزاء العالم. وقد أصبح هذا التقسيم ذا معنى أكبر بعد سنة 1967م حين وقعت الضفة الغربية وقطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي الذي ما زال مستمراً حتى اليوم، وتعرّض المهجرون كما تعرض باقي السكان في الضفة والقطاع إلى ممارسات الاحتلال التي سنتحدث عنها فيما بعد. ونجد أن العائلة الفلسطينية المهجرة لجأت/ من أجل البقاء، إلى استراتيجيات متشابهة إلى حد كبير بغض النظر عن مكان وجودها. فنحن نجد أن الحرب والتهجير قد قضت على القاعدة الإنتاجية الاقتصادية للعائلة الممتدة بحرمانها من أراضيها وممتلكاتها، وعدم إمكانية الحفاظ على تماسكها سواء في مخيمات اللاجئين أو بين العائلات التي انتقلت للعيش في المدن والقرى المجاورة للمخيمات، وإلى درجة تفوق تماسك العائلة الممتدة في باقي أجزاء المجتمع. وقد تمكنت من ذلك بعدة طرق بعضها مقصودة وواعية وبعضها جاءت نتيجة الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي واجهتها. وقد تأثّرت علاقات الزواج بين الفلسطينيين المهجّرين بمحاولات البقاء والحفاظ على تماسك الوحدات الاجتماعية.
قبل 1948م كانت العلاقات الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني بشكل عام فلاحية، فكانت الحاجة إلى تنظيم إنتاج الأرض ضمن العائلات الممتدة وبينها، وتضامن أفراد العائلة الممتدة والحفاظ على أموالها وممتلكاتها وعلى عمل العائلة وتنظيم وراثة الأرض هي المحدد الأول لعلاقات الزواج. ومع أن معظم هذه المحددات، والقاعدة الإنتاجية والمادية لوجود العائلة الممتدة ككل، قد اختفت مع الترحيل سنة 1948م إلا أننا نجد أن زواج الأقارب في المخيمات قد ازداد بدلاً من أن ينقص، ولكن الدوافع وراء ترتيبات الزواج المستند إلى القربى قد تغيرت.
فبدلاً عن دوافع الملكية والسلطة والإنتاج ظهرت دوافع بقاء واستمرارية هوية المجتمعات الصغرى التي تشتت. وقد حاولت العائلات الفلسطينية المهجّرة أينما وجدت إيجاد وسائل للتعويض عما خسرته من أموال وممتلكات بطرق مختلفة، ومن أهم هذه الوسائل، التعليم. يقول سليم تماري مثلاً: "ولقد عزز فقدان الأرض والممتلكات نتيجة للحرب قيمة التعليم والهجرة كمصدرين للحراك الاجتماعي (شريف كناعنة/ التغير والاستمرارية، تأثير الاحتلال على المجتمع العربي الفلسطيني ص 88). وكانت وسيلة هذا الحراك هي العائلة الممتدة، التي استثمرت الكثير (قياساً بالدخل) في تعليم أفرادها الأكثر شباباً، وخصوصاً الأولاد الذكور. (تماري 1994م ص 22). أساليب التوافق التي نتجت عن التهجير وانعكاساتها على العائلة الفلسطينية ظهرت بوضوح في مخيمات اللاجئين في الدول العربية وبين الجاليات الفلسطينية في كل مكان، أما بين الفلسطينيين الذين بقوا على أرض فلسطين فقد انعكس تأثير التهجير بشدة ووضوح على قطاع غزة أكثر من غيرها، حيث تدفقت إليها أثناء حرب عام 1948م أعداد كبيرة من المهجرين آتين من المناطق الساحلية الواقعة جنوب يافا ومن منطقة بئر السبع حتى أصبحت الكثافة السكانية فيها خانقة. وقد بلغت نسبة اللاجئين في قطاع غزة حوالي ثلثي السكان، يعيش قسم كبير منهم في المدن، ويقول تماري (1994 ص 21): "ويظهر من تحليلنا للأسرة أن الأكثر حرماناً بين الفئات الاجتماعية هم فقراء المدن، في الضفة الغربية وغزة على حد سواء، والذين يشكلون قطاعاً مهماً من سكان المدن الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين".
كان لاحتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1967م، وما تلا تلك من سياسات وممارسات إسرائيلية تأثير كبير على العائلة الفلسطينية في هذه الأراضي. حاولت إسرائيل منذ اليوم الأول السيطرة سياسياً وقانونياً عل الضفة الغربية وغزة. وكانت إستراتيجيتها الأساسية في تنفيذ خططها هي جعل الأراضي الفلسطينية المحتلة تعتمد كلياً على اقتصاد إسرائيل. وقد توصلت إلى ذلك بعدة طرق منها مصادرة الأراضي، وتحطيم الصناعات المحلية، وضرب المنتجات الزراعية الفلسطينية، وفتح باب العمل في إسرائيل أمام الفلسطينيين. هذه الترتيبات حطمت القاعدة الإنتاجية للعائلة الممتدة، ولم تعطها حوافز بديلة للمحافظة على وحدتها وتماسكها مثل تلك الحوافز والآليات التي ظهرت بين العائلات المهجّرة في مخيمات اللاجئين لحرب 1948م.
وأدّى العمل الفردي المأجور إلى تفسّخ العائلة الممتدة إلى عائلات أولية صغيرة. وفي كثير من الحالات كان الأب في هذه الأسر غائباً معظم الوقت. فقد كان العامل الفلسطيني عادة يقضي أسبوعاً أو شهراً كاملاً في مكان العمل في المدن اليهودية، وفي أحسن الحالات كان العامل يترك البيت في الصباح الباكر ويعود متأخراً في المساء. وقد أدّى ذلك إلى تغير في أدوار جميع أفراد الأسرة وسلوكهم. فمع غياب الزوج أخذت الزوجة تقوم بالكثير من الأعمال والواجبات التي يقوم بها عادة الزوج ومن ضمنها الأعمال الزراعية عند العائلات التي بقيت لها بعض الأراضي. وأخذت الأم دور الأب في ضبط الأطفال وتأديبهم ومتابعة أدائهم المدرسي، وشراء حاجيات البيت، وبشكل عام أدّى ذلك إلى زيادة دور المرأة في المجتمع.
بدأت الانتفاضة الفلسطينية الشهيرة في نهاية 1987م. وكانت هذه الانتفاضة مبادرة شعبية تلقائية، قام بها المجتمع في الضفة الغربية وغزة، لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي المطول لتلك المناطق، وما ترتب عليه من مصاعب في الحياة اليومية. ويمكن تقسيم الانتفاضة إلى مرحلتين فيما يخص مشاركة المرأة. إذ كانت المرأة في المرحلة الأولى العمود الفقري للانتفاضة، فقد شاركت بنشاط في المظاهرات في الشوارع، وكذلك في التعبئة الاجتماعية والسياسية من خلال المشاركة الفاعلة في لجان الأحياء. وخلال هذه الفترة من النشاط السياسي المحموم سمح المجتمع للمرأة بالمشاركة في أنشطة الانتفاضة. وفقد عدد كبير من النساء حياتهن، كما تعرضن للإصابة نتيجة الضرب، أو طلقات الرصاص. وتعرض عدد كبير من النساء للإجهاض نتيجة لاستنشاق الغازات المسيلة للدموع، كما تم اعتقال عدد أكبر منهن ومحاكمتهن، وإصدار أحكام عليهن بالسجن لعدة سنوات. وخلال تلك الفترة، كانت المرأة الفلسطينية من كل قطاعات المجتمع تشعر بقيمتها، وبأن إسهاماتها ضرورية للحفاظ على الانتفاضة. وعندما كان الآباء والأبناء في السجن في الكثير من العائلات، اضطرت المرأة إلى تولي كل المسؤوليات المنزلية والعامة لأسرهن. واضطرت المرأة إلى الخروج للبحث عن الذكور من أعضاء العائلة في السجون العسكرية المختلفة، وإلى تعيين المحامين، ودفع الأجور الضريبية، وضمان تلبية حاجات أعضاء الأسرة سواء كانوا في السجون أو خارجها. وأدّت هذه المسؤوليات المفاجئة الجديدة إلى إعطاء المرأة شعوراً قوياً بقيمتها وأهميتها في الحفاظ على استمرارية المجتمع.
تقديرات السكان في الأراضي الفلسطينية:
قامت السلطة الوطنية الفلسطينية بإجراء تعدادها العام الأول عام 1997م، وشمل التعداد كلاً من الضفة الغربية وقطاع غزة. بما في ذلك الجزء من محافظة القدس الذي ضمته إسرائيل بعد احتلالها للضفة الغربية في عام 1967م، وقد بلغ عدد السكان في الأراضي الفلسطينية وفقاً لنتائج هذا التعداد الوطني 2,783,084 موزعين على النحو التالي 1,787,562 نسمة في الضفة الغربية و 995,522 في قطاع غزة، واستخدم عدد السكان لعام 1997م كسنة أساس لإجراء إسقاطات سكانية حتى عام 2025م. وتم استخدام الفرضيات الخاصة بالاتجاهات المستقبلية لكل عنصر من عناصر النمو السكاني (الخصوبة، الوفيات، الهجرة)، علماً بأن معدلات الخصوبة قد بلغت 5.6 عام 1997م في الضفة الغربية، و6.9 في قطاع غزة وأنها ستنخفض حتى النصف خلال الفترة الممتدة من عام 1997م إلى عام 2025م، وحول وفيات الأطفال الرضع التي تم تحويلها إلى توقعات البقاء على قيد الحياة بلغ توقع البقاء على قيد الحياة للذكور في قطاع غزة 69 سنة وللإناث 71.47، وفي الضفة الغربية بلغ توقع الحياة للذكور 69.4 سنة وللإناث 72.71 سنة، وتم الافتراض أيضاً بأن وفيات الرضع ستنخفض إلى النصف خلال الفترة نفسها.
إن للهجرة دور كبير في الإسقاطات السكانية في الأراضي الفلسطينية بسبب الظروف السياسية الحالية والمفروضة على الشعب الفلسطيني الذي تمر بها القضية الفلسطينية، ونتيجة لتعثر عملية السلام فقد تم افتراض عودة أعداد محدودة من النازحين واللاجئين (500,000) موزعين كما يلي: 5000 خلال عام 1997م، 10,000 خلال عام 1998م، 15,000 خلال عام 1999م، 20,000 خلال عام 2000م، وعودة 50,000 لأجيء ابتداءً من عام 2001م وحتى نهاية عام 2010م، ومن ثم ثبات صافي الهجرة (0) خلال ما تبقى من الفترة. وبناءً على هذه الافتراضات فإن عدد السكان المتوقع في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 2025م سيبلغ 7,401,797 منهم 4,408,941 في الضفة الغربية و2,992,856 في قطاع غزة. ومن المتوقع أن يتضاعف عدد السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الأربعة عشر سنة القادمة، وإذا ما نظرنا إلى اختلاف الاتجاهات المستقبلية لعناصر النمو السكاني ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن عدد السكان في قطاع غزة سيتضاعف خلال 12 سنة القادمة، وفي الضفة الغربية خلال 16 سنة.
د. عبد الله أحمد الحوراني