في العاشر من شهر تشرين أول (أكتوبر) عام 1926 (وليس 1930 كما هو شائع)، ولد الشاعر والقائد اليساري الفلسطيني معين بسيسو في مدينة غزة، ليرحل عن عالمنا في الرابع والعشرين من كانون ثاني (يناير) عام 1984 بعد أن توقف قلبه الثائر عن الخفقان في العاصمة البريطانية، لندن.
بسيسو الذي يُعدّ أحد أركان شعر النكبة الفلسطينية. اتخذ من شعره سلاحاً ضد الاحتلال الصهيوني، ومصباحاً يضيء للمناضلين درب الكفاح المسلح، هو الذي كتب قصائده بالدم والرصاص لا بالقلم، وكانت كلماته مقاتلة، وشعاره "بالدم نكتب لفلسطين".
كانت باكورة شعره قصيدة "الفلاح الفلسطيني" التي نشرتها مجلة "الحرية" اليافاوية سنة 1946. ومنذ نهايات النصف الأول من القرن العشرين أصبحت أبياته الشعرية هتافاً للمتظاهرين والغاضبين في الشوارع العربية:
انخرط شاعرنا في العمل الوطني مبكراً، وفي عام 1948 التحق بالجامعة الأمريكية في القاهرة، ليتخرج منها عام 1952، من قسم الآداب. وكان أن نشر ديوانه الأول "المعركة" في 27 كانون ثاني (يناير) 1952.
وقد بدأ حياته العملية مدرسًا في العراق ورحل منه عام 1953 في عهد نوري السعيد.
ويعتبر صاحب "فلسطين في القلب" من أبرز الشخصيات الوطنية الغزيّة التي ساهمت في تأسيس الحزب الشيوعي في القطاع، وقد لعب دوراً بارزاً في المجالات الأدبية والثقافية والسياسية في الحزب والقطاع، وقاد مظاهرات غزة ضد مشاريع التوطين في سيناء. ونتيجة لمواقفه الحزبية والوطنية سجن في الواحات الخارجية بمصر، بين فترتين: الأولى ما بين 1955 و 1957، والثانية ما بين 1959 و 1963.
ولقد عاش صاحب "الأشجار تموت واقفة" فترة من حياته في مصر، واتصل بالحركة الثقافية اليسارية المصرية، ويتولى لاحقاً تحرير صفحة "فكر وفن" بجريدة "الأهرام"، ثم تخلى عن كل ما حققه على الساحة الثقافية المصرية بانتقاله إلى موسكو ثم إلى دمشق عام 1967، وهناك عمل في جريدة "الثورة" السورية ما بين 1967 و 1969.
وفي العام 1971 توجه معين بسيسو إلى بيروت ليلتحق بالثورة الفلسطينية، وفي بداية الثمانينيات ساهم بتأسيس حزب الشعب الفلسطيني، الذي يعد امتداداً للحزب الشيوعي الفلسطيني، ويتولى فيه موقعاً قيادياً. وكان حتى يوم وفاته عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، كما كان مسؤولاً للشؤون الثقافية في الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين.
ومنذ خروج قوى المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982 استقر مع عائلته في تونس.
"دفاتر" شيوعي أشعل غزة ..
في حديث له عن مرحلة الطفولة والبدايات يقول صاحب "مارد من السنابل" في إحدى الحوارات الصحفية معه: "من غزة أحمل ذكرى غجرية رضعت طفولتي من نهديها ترياق الرحيل. ومن يومها وأنا ابن النار، وعلى رأسي عصبة تحمل أسماء المحطات ومواعيد الرحيل، في القاهرة تخرجت من الجامعة الأمريكية قسم الآداب، وفي القاهرة تم طبع أول ديوان لي واسمه "المعركة" هذا الديوان صدر في اليوم التالي لحريق القاهرة عام 1952. وبعد ذلك بدأ البوليس الملكي بالتفتيش عن صاحب الديوان، فاختفيت في بيوت الأصدقاء الرسام حسن التلمساني، والمحامي الكاتب لطفي الخولي والكاتب عبد الرحمن الخميسي، وبعد قيام ثورة 23 تمّوز (يوليو) عدت إلى غزة وعملت فيها مدرساً حيث بدأت ملاحقة البوليس المصري لي ثانية فسافرت إلى العراق وهناك أذكر أن أحد الطلاب طلب مني أن يقرأ رواية "الأم" لمكسيم جوركي، ولكن هذا الطالب الذي يطحن سعف النخيل الأخضر ويعجنه ويصنع منه أقراصاً يجففها تحت الشمس ويأكلها مات، ولم يقرأ الرواية.
وضع سعفة من النخيل وسط الكتاب ومات. بعد سنة وقد بدأ البوليس العراقي يلاحظ نشاطي، هربتني من مطار بغداد إحدى المضيفات حيث عدت إلى غزة في أوائل سنة 1954 حيث عملت مدرساً وناظر مدرسة، وكنت قد اعتقلت في غزة إثر تظاهرات اشتعل بها القطاع ضد مشاريع إسكان وتوطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء. كانت المرة الأولى التي أدخل فيها إلى الزنزانة وأجلد فيها بالكرباج… حبال الكرباج المجدولة من أسلاك التليفون أحسست أنها قد رسمت على ظهري إلى الأبد خارطة الوطن".
بسيسو ثاثراً بروح شاعر ..
أغنى صاحب "مأساة جيفارا" المكتبة الفلسطينية والعربية بأعماله الشعرية والنثرية وكتاباته المسرحية، كما كتب عدة مسلسلات درامية إذاعية في دمشق، وهذا جانب غير معروف عن الشاعر الراحل، ومن تلك المسلسلات التي كتبها خصيصاً لإذاعة دمشق في سبعينات القرن الماضي، أذكر مسلسل "الزير سالم"، وهو من 29 حلقة، كانت من إخراج والدي الإعلامي والفنان الفلسطيني الراحل داوود يعقوب (1939-1986).
ويسجل لصاحب "القصيدة" مشاركته الفاعلة بقلمه في مواجهة الحصار الصهيوني لبيروت، إذ أصدر مع كتيبة من المثقفين والمبدعين العرب جريدة "المعركة"، التي كانت تصدر في بيروت طوال فترة الحصار الصهيوني.
ويُعد كتابه "دفاتر فلسطينية" الذي طبع أكثر من مرة، من الكتب التي يمكن أن تدرج تحت جنس السيرة الذاتية للشاعر، وعنه يقول الناقد الأكاديمي الفلسطيني د. عادل الأسطة: "على الرغم من أن أكثر صفحاته تأتي على تجربة معين في السجون، إلا أنه أيضاً يكتب عن حياته طالباً في مصر، ومعلماً في قطاع غزة وفي العراق، كما يكتب عن طفولته وأمه وأبيه وأهله ورفاقه في الحزب الشيوعي".
يضيف د. الأسطة: "أرى أن دفاتر فلسطينية كتاب مهم، لا لأنه يكتب عن تجربة شيوعي فلسطيني وحسب، وإنما لأسلوبه أيضاً، ففيه تنوع في الأسلوب، ربما لم يتحقق كثيراً في نصوصنا النثرية. يسرد معين تارة بضمير الأنا، وطوراً بضمير نحن، وأحياناً بضمير: الأنا/ أنت، ونحن/ أنتم، ويجرد من نفسه شخصاً يخاطبه.
وينوع في صيغ الأفعال. وهو - أي الكتاب - مهم، لأنه كتاب نثري أنجزه شاعر، وربما احتاجت كتب النثر التي يكتبها شعراء إلى دراسة، ذلك لأنها نثر لا يخلو من الشعر..".
قضى معين بسيسو عمره بين المنافي والسجون مناضلاً قابضاً على جمرة الكلمة الرصاصة، وكان السفر سمةً صبغت حياته على امتداد ستة وثلاثين عاماً، من غزة إلى القاهرة وبغداد وموسكو وغيرها من مدن العالم، واستقراره في بيروت عام 1970، وتركه إياها مرغماً في 1982، ليعيش بقية حياته في تونس العاصمة ويرحل في أحد فنادق لندن.
وقد كان لغزّة التي ولد وترعرع فيها نصيب الأسد من شعره، إذ ذكرها في قصائد كثيرة نذكر منها: "ارفعوا الأيدي عن أرض القناة" و"إلى عيني غزة في منتصف ليل الاحتلال الإسرائيلي" و"شهرزاد وفارس الأمل" و"المدينة المحاصرة".
ترجم الكثير من شعره ونثره إلى اللغات الانجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية واليابانية والفيتنامية والفارسية والروسية، ولغات الجمهوريات السوفيتية السابقة: أذربيجان، أوزباكستان.
وحاز على "جائزة اللوتس العالمية"، يوم كان نائباً لرئيس تحرير مجلة "اللوتس" التي يصدرها اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا. كما حاز على أعلى وسام فلسطيني (درع الثورة). ومنح اسمه وسام القدس للثقافة والفنون، من منظمة التحرير الفلسطينية، سنة 1990 في احتفالية كبرى في القاهرة رعاها ياسر عرفات.
وقد منع الكيان الصهيوني إثر وفاته جراء نوبة قلبية حادة في لندن يوم الرابع والعشرين من كانون ثاني (يناير) عام 1984، دفنه في مسقط رأسه بغزة فدفن في مقبرة "آل بسيسو" في القاهرة. وعن هذا يقول صديقه داوود يعقوب: "غريباً رحل معين كما عاش، ويوم حُمل جثمانه من لندن إلى القاهرة لعله يدفن في غزة، لم تسمح سلطات الاحتلال الصهيوني بدفن الجثمان في مسقط رأسه فحمل إلى مثواه الأخير في القاهرة".
مشروع توطين اللاجئين في سيناء «القديم الجديد».. وانتفاضة غزة 1955 المنسية (لا توطين ولا إسكان.. يا عملاء الأمريكان)
معين بسيسو: عقوبة الفلسطيني الدائمة كانت وما تزال النفي خارج أرضه أن يخرج الفلسطيني من جسدهالصوراني: الانتفاضة كانت بداية لتغيير السياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية.. بعد اتجاهها وقت الملك فاروق لتصفية قضية اللاجئين يظل دائماً الإغفال الواضح لانتفاضة غزة في مارس1955 من كتب التاريخ أو حتى عدم وجود إحياء بسيط لذكراها من كل عام يشكل علامة استفهام كبيرة لي ولكل من سمع بتلك الانتفاضة الباسلة وهذا النصر العظيم.
فعلي أثر اتفاقية رودس الموقعة بين الوفد المصري والوفد الإسرائيلي في ٢٤ يناير ١٩٤٩،صارت غزة تُعرف باسم المناطق الخاصعة لرقابة القوات المصرية في فلسطين أما تسميتها بقطاع غزة فبدأت رسمياً بعد تعيين عبدالله رفعت حاكماً إدارياً عليها عام ١٩٥٤ من اللواء محمد نجيب أول رئيس جمهورية مصري آنذاك، وقد تضاعف عدد سكان غزة بصورة كبيرة بعد نزوح أكثر من ٢٠٠ ألف لاجئ أثناء الحرب وبعدها مباشرة توزعوا علي مخيمات
وقد أورد تقرير لوكالة غوث اللاجئين عام١٩٥٠ أن: ٢٠٪من اللاجئين قادر على إعالة نفسه
و٣٠٪بحاجة للمعونة الجزئية
بينما ٥٠٪ يعد معدماً على الإطلاق وفي ذلك يكمن السبب الرئيسي للنهوض الثوري الدائم في غزة.
خلال هذه الفترة وفي تشرين من العام 1953 توصلت مباحثات بين الولايات المتحدة الأمريكية، الحكومة المصرية –التي كانت تتولي الإشراف على القطاع، ووكالة غوث للاجئين الفلسطينيين، إلى اتفاق محدد تقدم مصر بموجبه 50 ألف فدان من أراضي شمال غرب سيناء لتنقل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين وتوطنهم في تلك الأراضي.
عارض الشيوعيون في غزة هذا المشروع، منذ وصوله إلى علمهم حيث سيخدم مصالح دولة الاحتلال وبدأوا بحملات توعية لطلاب المدارس، والفلاحين، وداخل مخيمات اللاجئين حول أضرار هذا المشروع ومساوئه عليهم وعلى أبنائهم وأطفالهم، وحول حقهم في العودة لأراضيهم التي أخرجوا منها عنوة تحت وطأة الاستعمار الغاصب لها.
ونشط الحزب في جمع آلاف التواقيع علي عريضة تعلن رفض الموقعين لأي مشروع يستهدف إسقاط القضية الفلسطينية وتوطين اللاجئين في غير وطنهم وكانت العريضة أول تحد للإدارة العسكرية المصرية في قطاع غزة وجرت مطاردة الشيوعيين رافقتها حملة واسعة النطاق لإجبار الموقعين علي سحب توقيعاتهم إلا أن جهود الإدارة المصرية ذهبت هباء ·
بعد ذلك تمكن الحزب الشيوعي من الحصول علي تقرير مشروع سيناء الذي كتبه خبراء الوكالة، ورغم اعتراف المهندسين في الوكالة باستحالة الحياة في سيناء لقلة المياه، ونظراً للتكاليف الباهظة لاستصلاح الصحراء، ورغم ما كتبه الأطباء حول الأمراض التي ستداهم اللاجئين وتهدد حياتهم وخصوصاً الأطفال حيث لا تستطيع عيونهم ولا رئاتهم تحمل الهواء المثقل بالغبار؛ إلا أن التقرير حمل موافقة الخبراء علي المضي في تنفيذ المشروع واقترحوا البدء بعشرين ألف لاجئ، ومن ثم إرسال الدفعات الأخرى.
بدأ الحزب يطبع التقرير، وينسخ المنشورات ويوزعها على الأهالي في غزة والمخيمات، وخُصصت حصة التاريخ في المدارس إلى حصة لفضح مشروع سيناء.
وفي ليلة الـ 28 من فبراير1955 حدثت غارة إسرائيلية علي محطة السكة الحديد في غزة، قتلت سبعة عشر جنديا فاجأتهم وهم نيام والتي كانت تستهدف الضغط على الجماهير الفلسطينية بقبول مشروع التوطين لتشعل فتيل الانتفاضة ويضم صباح الأول من مارس مئات الألوف من رفح حتي بيت حانون يهتفون:
(لا توطين ولا إسكان..يا عملاء الأمريكان)
استمرت تلك الانتفاضة الشعبية مدة السبعة أيام سقط خلالها شهيدين هما (حسني بلال) الذي أصابته رصاصة خلال إحدى التظاهرات، والآخر (يوسف أديب طه) وهو طالب في مدرسة مخيم النصيرات الإعدادية رفع العلم الفلسطيني على مقر الحاكم العسكري لغزة فأطلق أحد الجنود النار عليه، وبقيت قمصانهم الملطخة بالدماء رمزاً لتلك الانتفاضة الملحمية في غزة والمخيمات.
ومن ثم بعد انقضاء السبعة أيام بدأت المفاوضات بين قادة الانتفاضة والإدارة المصرية، وطالبوا بخمسة مطالب كان أهمها إلغاء مشروع التوطين في سيناء وهو المطلب الذي استجابت له الإدارة المصرية، وأعلنت تأجيل استجابتها لبقية المطالب.
وفي تعليقه على وقائع الانتفاضة قال غازي الصوراني (
لعب الشيوعيون دوراً بارزاً في قيادة الجماهير خلال الانتفاضة، وانتخب المتظاهرون "اللجنة الوطنية العليا". التي ضمت عناصر من الشيوعيين والإخوان المسلمين والمستقلين، ولم تهدأ الجماهير إلا بعد حضور جمال عبد الناصر سراً يوم 12/13/1955 إلى غزة حيث ألقى كلمة في مدرسة الزهراء أكد فيها أنه لن يسكت على العدوان الإسرائيلي، كما تم الإعلان عن سقوط مشروع التوطين وقبره إلى الأبد) وهي لقطات لم يذكرها معين بسيسو في مذكراته.وأشار الصوراني إلى أن الانتفاضة، كانت بداية لتغيير السياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية، والتي ظلت استمرارا لموقفها منذ سياسات الملك، فاروق، التي اتجهت لتصفية قضية، اللاجئين، فيما كانت حكومة 1952 مشدودة للقضايا المحلية المصرية بشكل عام،يقول الصوراني، (كانت انتفاضة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة عام 1955 ضد مشروع التوطين بمثابة إعادة الروح لشعبنا كله وإحياء جذوة الأمل والنضال فيه من جديد.كما كان عدوان الثامن والعشرين من فبراير 1955 نقطة تحول هامة في تاريخ العرب المعاصر، فعلى المستوى العربي، تيقظت القيادة المصرية إلى الأطماع الإسرائيلية وضرورة مواجهتها، وسجل جمال عبد الناصر موقفه من هذا الحادث بقوله "إن غارة فبراير كانت نقطة تحول، وأن هذا العدوان كان جرس إنذار، وأن مصر يجب أن تعتمد على قوتها الذاتية لا على مجلس الأمن وقراراته" وعلى أثر ذلك بدأ التحول الجديد في السياسة المصرية بالاتجاه إلى الاتحاد السوفيتي وعقد صفقة الأسلحة الشهيرة عام 1955).