إعلم يا ولدي... أن الغريب ليس من تغرب عن وطنه، طلباً للعلم أو سعياً للرزق، إنما الغريب هو ذلك الإنسان «الشقي»، الذي ينطق وصفه بالمحنة بعد المحنة، الإنسان الذي يجد ذاته بعيداً عن الجماهير العامة، والذي يشعر بالاقتلاع في هذا العالم، لا جذور تربطه به، إذ أنه لا يقوى على الاستيطان في وطنه، ويظل غريباً عنه وحتى وهو بين أهله والآخرين... لا يتعايش معهم، بل يظل غريباً عنهم، لا يتقولب داخل قوالب آرائهم الشائعة، ولا يتمذهب بمذاهبهم الجارية – بمعنى أنه بعيد عن الشائع والجاري والجماهيري.
فأين أنت عن غريب طالت غربته في وطنه، وقل حظه من حبيبه وسكنه!. وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان؟ هذا الغريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه.
إعلم يا ولدي؛ أن الحياة الدنيا، لعب ولهو، وزينة وتفاخر، وإنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأن خير ما في الدنيا، هو التقرب إلى الله زلفى وإلى طاعته ورضوانه، أن تذكره في قيامك وقعودك، وأن تستغفره وتسبحه بكرة وأصيلاً، وأن تصلي على رسوله والعمل بسنته، مصدقاً لقوله سبحانه: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا)سورة النساء آية: (69-70).
يا ولدي... إن الإنسان في الحياة الدنيا لا يحيا بالعقل وحده، له أن يفكر كما يشاء، ويعيش كما يفكر دون معصية الخالق... إن أجمل ما في حياة الإنسان، السفر والترحال والتجوال إلى الأماكن الجميلة في العالم، ولكن هذه السياحة –لحسن الحظ – قصيرة. أما السياحة الفكرية الروحية، فتلك سياحة طويلة، أولها عالم الأزل وآخرها عالم الخلود. قديماً قال أحد المتصوفة:
«إن السفر سمي سفراً، لأنه يسفر عن أخلاق الرجال» أي أن البعد عن الناس وسيلة للتعرف على الذات وكشفها، ذلك أن ماهية الإنسان وجوهره، إنما تكمن في حقيقة نفسه، والحقيقة في نظر الإسلام الحق روحية، ووجودها يتحقق في نشاطها الدنيوي... إن الإنسان المادي أو الوضعي، لا تكون له حقيقة ما، حتى تكشف عن أصلها المتأصل فيما هو روحاني.
إن من حقائق هذا الكون الذي نعيش فيه، أنه لم يخلق عبثاً، أو أنه يمشي على غير هدى، كما أنه لا يسير وفق هوى أحد من الخلق، فإن أهواءهم – مع عماها وضلالها – متضاربة متنافرة لقوله تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) سورة المؤمنون: آية (71).إن هذا الكون مربوط بقوانين مطردة، وسنن ثابتة، لا تتبدل ولا تتحول، فهناك رسالة وهنا على الأرض مكان هذه الرسالة، ولقد قُدِّر على الإنسان، أن يشارك في أعماق رغبات الكون الذي يحيط به، وأن يكيف مصير نفسه، ومصير الكون كذلك، تارة بتهيئة نفسه لقوى السكون، وتارة أخرى ببذل ما في وسعه، لتسخير القوى لأغراضه ومراميه، وبما يرضي الله ورسوله. إن منتهى غاية الذات، ليس أن ترى شيئاً، بل أن تصبح شيئاً، والجهد الذي تبذله الذات، لكي تكون شيئاً، هو الذي يكشف لها فرصتها الأخيرة، لشحذ موضوعيتها وتحصيل ذاتية أكثر عمقاً.
يا ولدي... إن الدليل على حقيقة الذات الإنسانية، ليس في قول الفيلسوف الفرنسي ديكارت: أنا أفكر إذاً أنا موجود، بل ولا في قول الفيلسوف الألماني كانط أنا أقدر، بل في قول الإمام الغزالي، قبل ديكارت وكانط بعصور، أنا أريد إذاً أنا موجود... وعليه؛ ينبغي لك أن تقدر موقفك، وأن تعيد بناء نفسك، وبناء حياتك الإجتماعية، على ضوء المبادئ الإلهية النهائية، وأن تستنبط من أهداف دينك، التي لم تنكشف بعد، إلا تكشفاً جزئياً، تلك الديمقراطية الروحية، التي هي منتهى غاية الإسلام ومقصده.
إن الكرة الأرضية التي نعيش فوقها، نقطة صغيرة، بين العوالم الكثيرة العظيمة، التي تُرى ولا ترى... نقطة في الفضاء اللامتناهي، الذي فيه الملايين من الكواكب، وألوف من السيارات ومئات الأقمار الشموس، نقطة صغيرة في هذا الفضاء القريب البعيد – هذا هو عالمنا- ومع ذلك ترى الإنسان فيها يدعي معرفة الغيب، فهو كاذب على الله وعلى الحقيقة وعلى الناس، وفيها يرتكب البشر كبائر الذنوب والموبقات السبع، التي تهتلك الأمم قبل الأفراد، وتردي أصحابها في الدنيا قبل الآخرة.
في هذه الكرة الأرضية، ترى فيها من يشمخ ويتكبر، يتفاخر بالجاه والسلطان ويتعالى، يرفع قامته فوق أعناق العمالقة، ظناً منه أنه يرى أكثر ما ترى أعينهم، فلا تكن من هؤلاء المتكبرين، المختالين، لقوله سبحانه: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا نَّاللَّه َلَايُحِب ُّكُلَّ مُخْتَال ٍفَخُورٍ) سورة لقمان: آية 18.فلا الغرور ولا التكبر، ولا الشهرة الزائفة والجاه والسلطان، ينبغي أن تكون أمنيتك الجوهرية في الحياة، إنما الأَوْلى لك أن تعيش دون أن تبغض أحداً، وأن تحب دون أن تغار من أحد، وأرتفع دون أن تترفع على أحد، وأرتق دون أن تدوس من هم دونك، أو تحسد من هم فوقك، عليك أن تكون كأحد الكواكب السماوية، لا كسهم من الأسهم النارية.
يا ولدي؛ لا تنس أن النصيحة سهلة والمشكلُ قبولها، ولكن؛ هناك نصيحة لا بد لك من قبولها والعمل فيها، وهي أن تسعى في حياتك نحو الإنسان الكامل «المتصف بأخلاق الله»، فتصبح بهذه الأخلاق فرداً بغير مثيل، فرداً بعيداً عن «التوحد بالذات الإلهية والحلول بها أو وحدة الوجود». إنما هو القرب أو الأنس منه، وليس القرب هو الذوبان أو الامتزاج فيه؛ لأن الإنسان الكامل «يمثل الخالق في نفسه دون ضلال» «والإنسان الكامل لا يضلُّ في الكائنات، بل تَضِل هي فيه. أي تسخر له فيتصرف فيها...».
إن تخلي الإنسان عن ذاته وأنيته إنما يعني الفناء والموت المتصل، وكلما أمكن الإنسان العامل المجاهد التخلق بأخلاق الله في توكيد ذاته، كان أقدر على مقاومة كل ألوان الفناء أو الفساد... وهذا هو ما توضحه لنا جلياً، وعلى أكمل صورة ونموذج، سيرة النبي محمد صل الله عليه وسلم: المثل الأعلى للإنسان الكامل والصوفي الحق. «فإذا كان موسى عليه السلام، لما تجلى له قبس من نور الحق، أدركه الصعق، فلطف الله به وشمله برحمته، فأفاق من صعقته، وقام يُسبِّح الله الكبير المتعال. فإن نبينا محمداً صلوات الله عليه، لما رأى جوهر الحق تبسم. أو كما يقول القرآن الكريم «ما زاغ البصر وما طغى» هذا معناه أن ليس هدف الإنسان الكامل المتصف بأخلاق الله وأخلاق رسوله الذي كان خلقه القرآن -ليس هدف هذا الإنسان بلوغ درجة الفناء في الذات العظمى، بل هدفه الإبقاء على ذاته المتناهية، وعمله الدائب على إذكاء شعلتها.
وخير الكلام يا ولدي... فمن اتبع هدى الله الذي شرعه، وسلك الصراط المستقيم الذي حددَّه، فلا خوف عليه من وسوسة الشيطان وإغوائه، ومن أعرض عن ذكر الله، وحاد عن سبيله، فسيكون عَيشَهُ ضنكاً، وسيكون من الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً... هذا ما قصدنا من رسالة الهداية لكل غريبٍ عن وطنه، وما أملنا منها إلا إبتغاء وجه الله العظيم.