الإعاقة الخفية: جهل الأهل والمدرسة .. واضطرابات النمو المعرفي! (2)
الدكتور موفق العيثان استشاري علم النفس العيادي
صعوبات التعلم
يختلف غير المختصين والمختصون أحيانا في فهم وتناول مفهوم صعوبات التعلم، فالبعض يلجأ للتصغير من حجم ودقة الاسم والتشخيص أو بعده الأكاديمي والنفسي على الطفل والأسرة بل وعلى المجتمع، لكن الأبحاث الرصينة والدقيقة في الغرب أنتجت القناعة بموضوعات صعوبات التعلم، وهذا دعا المشرع الأمريكي مثلا لأن يتحمل المجتمع الأمريكي والدولة التبعات المالية لتقديم الخدمات الأكاديمية ( التعليمية) للطفل بصورة فردية ( خطة الحاجات التربوية الفردية)، فضلا عن تقديم ومراجعة منهجية علمية شاملة للمنهج (تعليم المدرسين والآباء والنفسيين، وتغيير أساليب الامتحانات لتجاري حاجة الطفل).
كل هذا نابع من النظرة المسؤولة للأطفال وحاجاتهم، لكنها وهنا بيت القصيد الثاني- تمثل ظاهرة، إذ يعتبر البعض أن حوالي 40% من الأطفال يعانون من نوع أو آخر من صعوبات التعلم. إن المشرع الغربي والباحثين في مجال صعوبات التعلم يتناولون الحاجة الفردية للطفل ليحسنوا من نوعية الحياة، ويقوموا بخدمة الفرد والأسرة والمجتمع.
في عيادتي من فترة لأخرى تمر علي حالات مؤلمة جدا لمعاناة الأطفال والأهل، بعد عشرات الفحوصات والأدوية لم يتحسن الطفل ولا تعرف الأسرة ولا المدرسة ما القصة، ولماذا هذا الطفل الذكي لا يتحسن مع وجود الجهد الجبار أحيانا. السبب بسيط للأسف.. لم يتم التشخيص الصحيح والفحص الدقيق للقدرات الذهنية والنفسية للتحقق من صعوبات التعلم. غالبا ما أجد إحباطا عند الأهل لكثرة الجهد بلا فائدة، وارتياحا عندما يعرفون أن الحالة معروفة التشخيص والأسباب بعد أن أقوم بإجراء الاختبارات النفسية العصبية على الطفل.
الأسئلة الكبرى!
حاولت في المقالة الأولى في هذه السلسلة أن أطرح حالة الطفل سلمان أولا كعينة حقيقية من بيئتنا في السعودية (وعربية) تمثل آلافا من الأطفال الذين أهملناهم لتقصير وجهل الإدارة التربوية والوزارة والبيت والمدرسة، وكذلك حاولت أن أطرح عدة أسئلة للإجابة عليها في عدة مقالات للقراء الكرام.
إن مفهوم صعوبات التعلم مفهوم علمي وعيادي وأكاديمي واقعي وليس مفهوما مجردا، وينال اهتمام الباحثين من تخصصات عديدة بلا شك. من أهم النقاط التي يجب أن يطرحها المسمى، هي أن القدرات الذهنية غير متناسقة لدى الطفل، بينما نجد الطفل متميزا بدرجة عالية في الرياضيات مثلا أو الذاكرة، وقد نجده لا يستطيع قراءة كلمات أو جمل مناسبة لعمره أو مرحلته التعليمية. إن صعوبات التعلم لا تعني مظلة تخفيفية لمصطلح الإعاقة الذهنية ( التخلف العقلي سابقا..إلخ)، بل نعني بها فعلا صعوبة محددة لموضوع في التعلم، سنتطرق لأنواع منها. من الممكن أن يعاني الطفل الذكي أو العادي الذكاء من نوع واحد أو أكثر من صعوبات التعلم.
الأسباب؟
إن أسباب اضطرابات النمو ( المعرفية) مرتبطة بمشكلات وبنمو الجهاز العصبي (المخ)، وربما لأسباب وراثية غير معروفة. إن الآراء العلمية الحديثة تشير إلى وجود بعض الظروف البيئية المساعدة لظهور صعوبات التعلم . إضافة للوراثة. ليس هناك اتفاق أو قناعة لحد الآن من أن صعوبات التعلم يمكن أن تسببها البيئة ( حتى مشكلات قبل وأثناء وبعد الولادة مثلا ) فقط ، مقابل النمو بأسباب وراثية مع علة مرضية محددة. في عملي العيادي غالبا ما أجد أن الأسرة تعاني من حالات مشابهة إلا أن الفكرة لم تكن موجودة عند الأهل قبل الآن تماما ، حتى بدأت آخذ تاريخ الحالة بتفصيل.
إن نمو الجهاز العصبي غير المتكامل أو المتناسق هو السبب في أن يعاني الطفل من مشكلات صعوبات التعلم- ولا نسميه مرضا. إن هذا الاضطراب هو اضطراب معرفي نفسي ويتسم بالفردية- عند اختلاف الأفراد بدرجة وصعوبة وشدة المشكلة... حتى لو أنهم يعانون من نفس صعوبات التعلم ( القراءة أو الكتابة مثلا)، فلا يجب أن نتوقع أن كل الأطفال يتشابهون بالأداء المعرفي أبدا، لا في البيت ولا في المدرسة (حالة فردية). إن معرفتنا بالأداء المعرفي وضعفه (ضمن الشروط العلمية والعيادية) هي التي تشير إلى وجود الاضطراب، حتى مع نجاح الطفل في المدرسة أو الحياة الاجتماعية مثلا- كما سيتضح فيما يلي.
من أهم النقاط العيادية التي أهتم بها أثناء قياسي للطفل وفحصي للقدرات هي عدم تناسق القدرات وعدم توقعي للأداء المنخفض في قدرة ما ( أو أكثر).
إن حصول سلمان (كما ذكر في المقالة الماضية) على درجات عالية في اختبارات الذكاء، لا يعطي توقعا بضعف في القراءة- إذن نتيجة غير متوقعة، وأكثر من هذا فإن أسلوب تحليل القدرات المتنوعة يجعلنا نكتشف عدم التناسق بين القدرات (عند نفس الطفل أو الفرد) عند من يعاني من صعوبات التعلم، وهذا يفسر لنا الفشل الأكاديمي مرات. أو الفشل في النشاط الاجتماعي والمهني من ناحية أخرى.
من الأخطاء الشائعة عند بعض الممارسين أنهم يقيسون الذكاء بمعزل عن القدرات، وهذا لا يفسر التناقض، بل يبقي على غموض صعوبات التعلم عند الأهل- بلغة أخرى اختبارات الذكاء لا تكشف بالضرورة على صعوبات التعلم- لأنها تقارن بين الأطفال. الصحيح أن نقارن الطفل مع نفسه – بين قدراته المتنوعة. بهذه الطريقة- إذا وجد التناقض بين مستوى القدرات (ذكاء عال وقدرة حسابية ضعيفة جدا مثلا) فإن هذا يشير إلى وجود صعوبات تعلم مختلفة عن اضطرابات نفسية عصبية أخرى (إعاقة ذهنية مثلا). بلغة أخرى فإن الأطفال الذين يعانون من صعوبات تعلم يظهرون غالبا قدرة عالية في جانب معرفي. بينما يظهرون قدرة منخفضة جدا في جانب معرفي آخر. إن الطفل العادي لديه قدرات متقاربة في أغلب القدرات الذهنية، بينما الطفل الذي يعاني من إعاقة ذهنية تنخفض لديه القدرات الذهنية في أغلبها، بينما صعوبات التعلم تكون خاصة بقدرة ذهنية معينة أو أكثر أحيانا.
إن هذه الصورة العيادية لنتائج الفحوصات النفسية العصبية neuropsychological assessment عندما يقوم بها أخصائي مؤهل تساعد في معرفة الواقع المعرفي للطفل، ومن ثم تحديد مسار التأهيل النفسي العصبي الخاص بالطفل حسب حاجته وصعوبات. إن اللغة الصحيحة الواجب اتباعها هنا هي أن نشير إلى نقاط القوة والضعف عند الطفل من أجل مساعدته أكاديميا ونفسيا .