لم أزل على قناعة تامة، أن جل إن لم يكن كل مشكلات مجتمعنا العربي المعاصر، تكمن في الشقاء العاطفي الذي يعاني منه شبابنا، الأمر الذي يعيق القوة الضاربة والتغييرية في المجتمع، عن إحداث التطور المطلوب، والنهوض من كبوتنا الحضارية الشاملة..
هذا الشقاء ناتج في الدرجة الأولى عن القيود العاتية التي وضعتها التقاليد البالية أمام الشباب والشابات فمنعتهم عن العيش بصورة طبيعية، وتكوين الأسر بيسر وسهولة، وتحضرني هنا حقيقة كبرى تقول إن أحدا في أمتنا وعبر تاريخها الغابر لم يكن مسموحا له أن ينام وحيدا، ولنتذكر قصة سعيد بن المسيب أحد كبار تابعي صحابة رسول الله صل الله عليه وسلم حين كره لأحد تلاميذه الفقراء أن ينام وحيدا ولو ليلة واحدة بعد أن ماتت زوجته فزوجه ابنته بدون مهر تقريبا علما بأنه رفض أن يزوجها لابن «أمير المؤمنين» وهذه قصة تروى..!
تنقل أمهات الكتب الإسلامية عن كثير بن عبد المطلب بن أبي وداعة قوله: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً فلما جئته قال: أين كنت؟ قال: توفيت زوجتي فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدنا دفنها؟ قال: ثم أردت أن أقوم فقال: هل استحدثت امرأة (أي تزوجت؟)، فقلت: يرحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة، فقال: أنا، فقلت: أو تفعل، قال: نعم، ثم حمد الله تعالى وصلى على النبي صل الله عليه وسلم وزوجني على درهمين أو ثلاثة قال: فقمت ولا أدري ما أصنع من الفرح فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر ممن آخذ وممن أستدين (ليتم عملية الزواج) فصليت المغرب وانصرفت إلى منزلي واسترحت وكنت وحدي صائماً فقدمت عشائي أفطر فكان خبزاً وزيتاً، فإذا بآت يقرع، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد، قال: فتفكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب فإنه لم يُر أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد فقمت فخرجت فإذا سعيد بن المسيب فظننت أنه بدا له (أي رأى رأيا آخر غير ما وعد من تزويج ابنته) فقلت: يا أبا محمد إلا أرسلت إلي فآتيك؟ قال: لأنت أحق أن يؤتى، قال: قلت: فما تأمر، قال: إنك كنت رجلاً عزباً فتزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذها بيدها فدفعها بالباب ورده فسقطت المرأة من الحياء فاستوثقت من الباب، ثم قدمت إلى القصعة التي فيها الزيت والخبز فوضعتها في ظل السراج لكي لا تراه ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران (أي نادى عليهم لإشهار الزواج!)، فجاءوني فقالوا: ما شأنك؟ قلت: ويحكم زوجني سعيد بن المسيب ابنته اليوم وقد جاء بها على غفلة، فقالوا: سعيد بن المسيب زوجك؟ قلت: نعم، وها هي في الدار!
هذه هي قصة سعيد بن المسيب الذي كره لتلميذه أن ينام وحيدا، فزوجه ابنته بعد أن ماتت زوجته، مع العلم أن كتب التاريخ تقول إن بنت سعيد بن المسيب خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد بن عبد الملك حين ولاه العهد فأبى سعيد أن يزوجه، فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف!
ولئن كان هذا شأن ابن المسيب مع تلميذه، فما بالنا نسد الأبواب في وجوه شبابنا ونتركهم يتقلبون على فراش الحرمان، تصعيبا وتعقيدا لسبل الزواج؟ كيف نطلب من الشباب أن يكونوا أعضاء أسوياء في المجتمع وهم يعانون مما كرهه سعيد بن المسيب لتلميذه؟