ملحـق ١
وعــد بالـفـور
النص الرسمي لما يعرف باسم "وعـد بالفور" عبارة عن رسالة مؤرخة ٢ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩١٧ وجهها وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بالفور ، باسم الحكومة البريطانية إلى الناشط الصهيوني لورد والتر روتشيلد الذي كان أيضا عميد الجالية اليهودية في بريطانيا . علماً بأن مسودة الرسالة قام بإعدادها الإتحاد الفدرالي الصهيوني .
كان بالفور مثله مثل رئيس الوزراء لويد جورج ، أصولياً مسيحيا يعتقد بأن عودة اليهود إلى صهيون ، أي "أرض الميعاد" ، هي مؤشر لعودة المسيح المنتظر على الأرض . وقد حمله تفكيره بأنه باستطاعته أن يلعب دوراً نحو تحقيق هذا الهدف الآلهي على الشروع في حملة سياسية لتنفيذه . علماً بأن الأصوليين المسيحيين يعتقدون بأن عودة المسيح المنتظر تعني تنصير اليهود .
غير أن بالفور لم يكن يعلم بأن نزول المسيح للمرة الثانية على الأرض لا يعني شيئاً بالنسبة لليهود الذبن ما يزالوا ينتظرون ظهور المسيح للمرة الأولى . كما أن اليهود لا يتطلعون إلى تلك العودة التي ستفرض عليهم أن يتنصروا .
تـرجمـة رسـالـة لـورد بالـفـور
وزارة الخارجية
٢ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩١٧
عـزيـزي اللـورد روتشـيلـد ،
يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي الذي عرض على الوزارة وأقرته والذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية :
"تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين ، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف ، على أن يفهم بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى" .
وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الإتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح .
المخلص
آرثـر بالـفـور
لقد حولت تلك الرسالة البريئة المظهر برنامجاً لجمعية صهيونية يهودية أهلية لتأمين وطن قومي لليهود إلى سياسة رسمية تبنتها الحكومة البريطانية . أي أن تلك الحكومة أخذت على عاتقها استخدام سلطتها وجبروتها لتنفيذ هذا البرنامج . إلاّ أن التعهد الذي أخذته بريطانيا على عاتقها لم يتضمن تقديم قطعة من أراضي بريطانيا ، بل استحلال وطن أناس آخرين ، أي الأمة الفلسطينية التي تسكن تلك البلاد منذ آلاف السنين ، والتي تحولت بقدرة قادر حسب نص الرسالة من كونها تشكل الأغلبية الساحقة للمواطنين الأصليين إلى مجرد " طوائف غير يهودية مقيمة في فلسطين"!
لقراءة المزيد حول وعــد بالـفـور وغيره من الأمور المتصلة بهذا الموضوع ، الرجاء الإطلاع على الكتب التالية:
[ltr]- “A Peace to End All Peace” by David Fromkin, Henry Holt publishers, New York 1989
- “Paris 1919” by Margaret Macmillan, Random House publishers, New York 2000
- “Trial and Error: The Autobiography of Chaim Weizman”, Harper, New York 1949[/ltr]
ملحـق ٢
أمير البيان الأمير شكيب أرسلان
كان الأمير شكيب أرسلان (أبو غالب) (١٨٦٩ - ١٩٤٦) أحد أقرب الناس إلى أبي الحسن . ولا نبالغ إذا قلنا أن الأمير الذي كان يكبره سنّاً كان مثله الأعلى في الكثير من الأمور . فالأمير شكيب أرسلان وجيه لبناني بهي الطلعة من أمراء الطائفة الدرزية الذين لعبوا دوراًً هاماً في حياة سوريا ولبنان السياسية ولاتزال تلك الأسرة تلعب دوراً عن طريق حفيده لابنته مي أي وليد جنبلاط الذي يعتبر حالياً عميد طائفة الدروز في لبنان .
حاول الأمير شكيب أرسلان في زمانه أن يجمع العرب بصفة عامة والمسلمين بصفة خاصة رغبة في توحيد كلمتهم لمقاومة الإستعمار الأجنبي الذي أنهك بلادهم و شعوبهم . حيث اعتبر الأمير شكيب الإسلام كعامل سياسي واجتماعي للتوحيد بين تلك الشعوب دون أن يُقحم نفسه في النواحي الدينية .
ولولا أنه يتحدر من أسرة على مستوى معقول من الثراء والوجاهة والعزوة لدى الدولة العثمانية لصعب عليه لعب الدور الوطني الذي تبنّاه لنفسه . فكان قائمقاماً للشوف في لبنان عام ١٩١٨ ، ثم نائباً لحوران (في سوريا) في البرلمان العثماني ، كما لعب دوراً سياسيا رئيسياً خلال السنوات التي نفته فيها فرنسا إلى سويسرا ، عبراتصالاته القوية مع قادة تركيا الحديثة عند نهاية الدولة العثمانية ، أي أنور باشا ، وطلعت باشا ، وجمال باشا ، ومصطفى كمال أتاتورك . كما كانت له علاقات قوية مع كبار المسؤولين في ألمانيا ما بين الحربين ، وكذلك مع الحركات الوطنية في كل من المغرب والمشرق العربي . أنجب الأمير شكيب ولدا اسمه غالب وابنتان ، نظيمة و مي (والدة وليد جنبلاط) من زوجته سليمة الخص التي كانت من أصل شركسي .
للوقوف على تفاصيل الدور الذي لعبه الأمير شكيب يُشار على القارئ بالإطلاع على الكتب التالية ، إلى جانب الكتاب الذي ألًفه أبو الحسن أي "ذكرى الأمير شكيب أرسلان":
- "أمير البيان شكيب أرسلان" ، تأليف الشيخ أحمد الشرباصي ، القاهرة ١٩٦٣
[ltr]- “New episodes in Moroccan nationalism under colonial role: reconsideration of Shakib Arslan’s centrality in light of unpublished materials”, by Dr. Umar Ryad, The Journal of North African Studies, Vol. 16, No. 1, March 2011, 117–142.[/ltr]
[ltr]- “Islam against the West: Shakib Arslan and the Campaign for Islamic Nationalism”
By William L. Cleveland, University of Texas Press, Austin, Texas 1985.[/ltr]
(من دواعي الأسف أن بداية عنوان هذا الكتاب غير موفقة ، كما أنها تفقده قيمته . فلا الإسلام ضد الغرب ولا الأمير شكيب كان ضد الغرب هو الآخر، فضلاً عن أن محتوى الكتاب لا يعكس فحوى تلك العبارة . ومن الجائز أن عبارة [ltr]“Islam against the West”[/ltr] قد اختيرت لتسويق الكتاب في أمريكا الشمالية .)
ملحـق ٣
أحمد حلمي باشا
لعب أحمد حلمي عبد الباقي باشا (١٨٨٢ - ١٩٦٣) دوراًً سياسياً واقتصادياًً وإنسانياً لا مثيل لهما في مسيرة قضية فلسطين ، وقام بأدوار وطنية بارزة للحفاظ على عروبتها والدفاع عنها منذ بداية القرن الماضي . علماً بأن نضاله في سبيل القضايا الوطنية بدأ منذ أيام الدولة العثمانية عندما شارك في الدفاع عن سوريا الكبرى والعراق من الإحتلال العسكري البريطاني .
فقد قاد فرقة من المتطوعين الذين قاتلوا إلى جانب القوات العثمانية وهزموا الجنرال تشارلز تاونشند البريطاني في موقعة كوت الإمارة عام ١٩١٥ في العراق خلال الحرب العالمية الأولى . وبعد أن تولى الأمير فيصل بن الحسين الحكم في سوريا عُـيّنَ مديراً عاماً لوزارة المالية إلى أن احتل الفرنسيون دمشق فتوجه إلى عمان حيث اختاره الشريف حسين بن علي (شريف مكة) ناظراً لخط سكة حديد الحجاز .
وقد شارك حلمي باشا في تأسيس البنك العربي في فلسطين عام ١٩٣١ ثم البنك الزراعي ، وبعدها صندوق الأمة ، فبنك الأمة العربية عام ١٩٤١ . وكان الهدف الرئيسي من المشاريع الثلاث الأخيرة توفير القروض للفلاحين الفلسطينيين لإنقاذ الأراضي العربية التي تسعى الوكالة اليهودية الإستيلاء عليها بالتعاون مع حكومة فلسطين البريطانية .
وقد نفته سلطات الإنتداب البريطانية سـنة ١٩٣٧ إلى جزر سيشل في المحيط الهندي مع رفاقه في اللجنة العربية العليا الدكتور حسين فخري الخالدي ويعقوب الغصين وفؤاد سابا ورشيد الحاج ابراهيم٤٤ وذلك بهدف تجميد القيادات الفلسطينية إثر ثورة فلسطين الكبرى ١٩٣٧ - ١٩٣٩ . وقد عيّنه الملك عبد الله الأول خلال عام ١٩٤٨ حاكماًً عسكرياً لمدينة القدس باعتباره وقتها الزعيم الفلسطيني الوحيد الموجود في المدينة والقائم فعلياً على تنظيم الدفاع عنها . فقد كان مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني الزعيم الفعلى للشعب الفلسطيني في ذلك الوقت هارباً من بطش بريطانيا خارج فلسطين .
عندما قررت جامعة الدول العربية إنشاء حكومة عموم فلسطين ٤٥ في غزة في ٢٣سبتمبر (أيلول) ١٩٤٨ واختارت أحمد حلمي باشا كأول رئيس لها بادر الملك عبد الله الأول بعزل أحمد حلمي باشا من منصب الحاكم العسكري للقدس . فقد كان الملك شديد المعارضة لتلك الحكومة التي اعتبر أنها خُُلقت من قبل الجامعة العربية ومنافسيه من المسؤولين العرب كي يحولوا دونه ووضع يده على القدس التي كان يسعى الحصول عليها . كما أنه كان مقتنعاً بأن هؤلاء الزعماء كانوا يحاولون منعه من ضم بعض مناطق فلسطين إلى مملكته عن طريق المحادثات السرية التي كان يقوم بها مع قادة الحركة الصهيونية . وكانت فلسطين قد سقط معظمها عندئذ بيد اليهود . أما ما تبقي منها وهو ما أصبح يعرف فيما بعد بالضفة الغربية فقد وضع الملك عبد الله الأول يده عليه ثم ضمه إلى الأردن .
فلما نجح اليهود في السيطرة على معظم فلسطين وبعد أن استسلمت باقي الحكومات العربية التي أرسلت جيوشها لتدافع عنها تحت ستار اتفاقيات الهدنة الدائمة ، وجد الباشا نفسه على رأس حكومة بدون وطن ، فاستقر في القاهرة كمدير لبنك الأمة العربية الذي كان قد أنشأه كما ذُكرآنفاً إلى أن أممت الحكومة المصرية جميع البنوك الأجنبية عام ١٩٦١ . فغادر القاهرة واستقر في بيروت . وكان قد بلغ التاسعة والسبعون . وقد أدركه الأجل عام ١٩٦٣ وهو في لبنان ونُقل جثمانه بالطائرة إلى القدس حيث ووري الثرى في الحرم القدسي مثله مثل قائد المجاهدين عبد القادر الحسيني كما ذكر في هذا الموقع.
ورغم مشاغله العديدة كان حلمي باشا شاعراً بليغاً . هذا وكان له ابن واحد من زوجته الثانية اسمه محمد (تزوج محمد سُعاد ابنة وطني فلسطيني آخر هو وجيه حيفا رشيد الحاج ابراهيم) . كما كان لحلمي باشا ثلاث بنات من زوجته الأولى هن وصفية (زوجة السياسي الليبي منصور قدارة) وسنية (زوجة عبد الحميد شومان ، صاحب البنك العربي في فلسطين) ونائلة (زوجة عبد المجيد شومان ، أي ابن عبد الحميد شومان) . هذا وقد ارتبطت عائلة حلمي باشا وأحفاده بأسرة أبو الحسن وأبنائه بصداقة حميمة .
ملحـق ٤
وديــع فـلسطيـن
مع أن اسمه قد يوحي بأنه فلسطيني ، الأمر الذي يجعله يفتخر بهذا الإسم . وإنما هو مصري صميم من صعيد مصر . فأسرته تنتمي إلى مدينة نـقـادة ٤٦ بمحافظة قـنا ، وإن كان هو قد ولد في مركز أخميم بمحافظة سوهاج .
يحمل وديع فلسطين درجة بكالوريوس من قسم الصحافة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ، حيث تخرج عام ١٩٤٢ . ومارس الصحافة السياسية والإقتصادية والأدبية منذ ذلك التاريخ أي على مدى ٦٧ عاما . وتألق نجمه في صحيفتي "المقتطف" و "المقطم" بين عامي ١٩٤٥ و ١٩٥٢ حيث رأس القسم الخارجي وعمل في جميع الأقسام الأخرى ، وأسند إليه كتابة المقالات الإفتتاحية اليومية التي كانت تنقلها الصحف الأجنبية والعربية ، كما اختير عضوا في مجلس إدارة وتحرير هذه الدار إلى أن أغلقت كما أغلقت الكثير من الصحف في مصر في تلك الفترة .
ألف وديع فلسطين وترجم ما قد يجاوزعدده أربعين كتابا في الأدب والإقتصاد والسياسة وعلوم الصحافة التي قام بتدريسها في الجامعة الأمريكية بالقاهرة على مدى عشر سنوات بين عامي ١٩٤٨ و ١٩٥٧ . ولعل أهم كتبه الأدبية الكتاب الصادر عام ٢٠٠٣ والمعنون "وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره ، وهو في جزئين ، يسجل فيهما علاقاته بنحو مئة من الأعلام في مصر والبلاد العربية والمهاجر وديارات المستشرقين . وقد ذُكر بأنه أول من تنبأ بأن نجيب محفوظ سوف يصبح ذا شهرة عالمية . وبالفعل فقد حاز على جائزة نوبل للأدب عام ١٩٨٨ .
شارك في إخراج عدد من الموسوعات منها "الموسوعة العربية الميسرة" ، و"موسوعة الإقباط" باللغة الإنجليزية الصادرة في ثمان أجزاء عن جامعة يوتاه في الولايات المتحدة الأمريكية ، و"موسوعة أعلام مصر والعالم" ، و"موسوعة من تراث القبط" .
وإلى جانب مئات المقالات التي كتبها والتي نشرت في مختلف أنحاء العالم العربي ، شغل وديع فلسطين منصب مدير مكتب شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) في القاهرة ، كما أشرف على نشر مجلة "قافلة الزيت" التي كانت تصدرها الشركة إلى جانب مجلة "أرامكو وورلد ماجازين" الشهيرة والمتخصصة في البلدان العربية والإسلامية وحضاراتها ، والتي تعتبر مثيلة لمجلة "ناشيونال جيوجرافيك" ذات الشهرة العالمية .
هذا وقد كتب عنه وعن انتاجه الفكري العديد من الكتاب في مصر وغيرها من البلدان مثل اللمحة التي نشرت على صفحة كاملة من جريدة الأهرام عام ١٩٩٦ بقلم السيدة صافيناز كاظم ، حيث ذكرت أن "هوايته الفكرية هي البحث عن تعبيرات علمية أغفلتها القواميس المتخصصة" . كما وصفت استخدامه للغة العربية بأنه "أنيق لدرجة أنه يجعل محبي تلك اللغة يشهقون من شدة إعجابهم" . وأن "اسلوبه الأنيق الظريف يصل إلى أعماق الشخصية التي يتحدث عنها مزيلا الحواجز بين المؤلف والمؤلف عنه" .
انتخب وديع فلسطين عضوا في مجمعي اللغة العربية في كل من سوريا (١٩٨٦) والأردن (١٩٨٨) الشهيرين ، ومن المستغرب أنه لم يدعى لدخول مجمع اللغة العربية في بلده ! وهو أحد الأدباء المصريين القلائل الذين لهم شهرتهم في أنحاء العالم العربي وليس فقط ضمن حدود مصر . وكما كان أبو الحسن صاحب رؤيا شاملة للعالم المحيط به ، فوديع فلسطين صاحب نظرة شمولية أدبية هو الآخر ، فلم يقع فريسة للنظرة المحلية الضيقة . وفي الوقت الذي أصبح الناس يحبسون أنفسهم خلف هويات دينية ، كان وديع فلسطين فكريا بعيدا كل البعد عن ذلك مثله مثل معظم من يتعامل معهم . كان عصره عصر مفكري العرب من رجال ونساء من الذين حرروا أنفسهم من قيود الضيق الفكري والنظرة المحلية الضيقة التي تكتم الأنفاس .
كان وديع فلسطين وأبو الحسن صديقان حميمان ، وتبادلا مراسلات أخوية وأدبية لسنوات طوال إلى أن توفي أبا الحسن . وما فتأت كتاباته تذكر صديقه أبا الحسن و "دار الشورى" . ومثله مثل صديقه وغيرهما من المفكرين، فقد حبس وعومل بكيفية مخجلة . وقد مرثلاث أجيال من المصريين الذين لم يسمعوا به ، ولكنهم اكتشفوه اليوم كما اكتشفته صافيناز كاظم .
عند كتابة هذه السطور عام ٢٠١٠ ، لا يزال وديع فلسطين الذي تعدى الثمانون، لا يزال يكتب وينشر ويترجم ويراسل ويحضر المؤتمرات الأدبية في مصر وفي الخارج . والآن وقد "اكتشف من جديد" ، فقد عادت مقالاته الأدبية ومراجعاته تظهر في المطبوعات المصرية .
ملحـق ٥
عـلي أحـمد باكـثيـر
كان الكاتب والمؤلف المسرحي علي أحمد باكثير من ألمع كتاب مصـر خلال الأربعينات والخمسينات، وهو أصلا حضرمي من أندونيسيا حيث كانت تقطن جالية كبيرة من التجار الحضارم الذين وفدوا على تلك البلاد من جنوب اليمـن ، ويعود لهم الفضل في نشر الإسلام بين أهلها . ومن بين ما ألفه من مسرحيات شهيرة مسرحيتي "مضحـك الخـليفـة" التي تم عرضها على مسرح دار الأوبـرا الملكـية بالقاهرة عام ١٩٥٤ ومسرحية "مسـمار جـحـا" التي عرضت هي الأخرى في دار الأوبـرا عام ١٩٥٥ . وكانت علاقة أبا الحسن به علاقة عائلية ، حيث كانت قرينة باكثيـر وابنه بالتبني فـوزي يتبادلان الزيارة مع أسرة أبا الحسن .
هـناك قـصة مشـوقـة تجمع بيـن باكثير وأبا الحسن خلال هـرب الأخير من السجن وتخفـيه بين عام ١٩٤٠ وعـام ١٩٤١ في مختلف أنحاء القـطر المصـري . تعود صداقة أبا الحسن مع باكثير إلى عام ١٩٣٣ حين وفـد الأخير إلى مصـر قادماً من أندونيسيا عن طريق الحجـاز وحضرموت وطنه الأصلي بقصد طلب العلـم . فالتحق بالجامعة المصـرية حيث أحرز على ليسانس كلية الآداب ، ثم التحق بمعهد التربية العالي فحاز شهادته . ولما أكمل دراسته وأراد العودة إلى أندونيسيا مسقط رأسه وقعت الحرب العالمية الثانية وانقطعت الطريق إلى الشرق الأقصى .
بقي باكثير في مصـر واشتغل في التعليم وتأليف القصص التاريخية والأدبية الناجحة . فكل مسابقة تعلنها وزارة المعارف أو إحدى الهيئات الثقافية لتأليف رواية أو قصة ، كان باكثير يدخلها فيفوز بالجائزة مع طبع مؤلفه . وقد بلغ من نبوغه المثالي أن وزارة الشؤون الإجتماعية طلبت سنة ١٩٤٧ سـت روايات في مواضيع معينة وأقامت مسابقة لذلك مصحوبة بمكافئة باهظة ، فتلقـت الوزارة خمسمائة رواية . ولما فحصت اللجنة المختصة ذلك الجبل من الروايات اختارت ستاً منها . ولما فتحت غلافات الأسماء ظهر أن باكثير قد فاز بروايتين من الست روايات . وهو فوز باهر لا مثيل له . فداعبته إحدى الصحف طالبة من الحكومة منعه من دخول المسابقات ...
باكثير يساعد هارب من السجن
بعد مرور سنة على إعلان الحرب العالمية الثانية ، أوعزت السلطات البريطانية في مصـر إلى السلطات المصـرية بالقبض على أبا الحسن وحبسه كما جـرى ذكره في النبذة الذاتية بسبب ما كان يكتبه وينشره من مقالات ضد الإستعـمار البريطاني في مصـر والمشرق والإستعـمار الفرنسي في شمال أفريقيا وبلاد الشام والإستعـمار الهولندي في أندونيسيا والإستعـمار الإيطالي في ليبيا . علما بأن بريطانيا لم تحتج على كتابات أبا الحسن ضد عدوتها إيطاليا التي كانت تحتل ليبيا نظرا لتحالفها مع ألمانيا النازية .
لما هرب أبو الحسن من مستشفى السجن تنكر بزي شيخ ريفي وجعل يتنقل باستمرار في مختلف أنحاء القطر المصـري . من بين البلاد التي مكث فيها متخفيا أكثر من غيرها هي مدينة المنصورة ذات الشهرة التاريخية . وذات مساء وبينما كان أبا الحسن يسير في إحدى الحارات فوجىء بالأستاذ علي أحمد باكثير يمر من أمامه ، فمشي خلفه وأخذ يتتبعه على بعد قليل ثم حاذاه ووضع يده على كتفه وسلم عليه . فالتفت إليه الأستاذ باكثير بسرعة ، ولكنه بمجرد أن سمع صوته عرفه حالاً وأقبل يعانقه ويسأله عن حاله ثم واصلا السير بينما قص عليه أبو الحسن قصته . وانتهى بهما المسير إلى دار الأستاذ باكثير حيث عرّف أبو الحسن عن حاله وعن كونه قد تعين مدرساً للغة الإنجليزية بمدرسة الرشاد الثانوية بعد أن انقطعت أسباب الإتصال بينه وبين أهله في أندونيسيا ، كما أخبره بأنه يسكن المنصورة منذ شهور وأن هذه الدار داره ، ولكنه ليس وحده فيها ، لأنه تزوج ، وأن إحدى قريبات زوجته تسكن معهما .
وفي الصباح شرع باكثير يطوف المدينة بحثاً عن دار تتوفر فيها شروط الهارب من أعوان الاستعمار البريطاني لتصلح سكنى لأبا الحسن لريثما تنفرج الأحوال . وقد عثر الأستاذ باكثير على شقة صغيرة تتوفر فيها تلك الشروط في حي "ميت حدر" في زقاق ضيق . وقد كتب عقد الإيجار بالاسم المستعار الذي كان يستخدمه أبو الحسن ولكن بكفالة وتعريف الأستاذ باكثير . ولولا سكنى الأخير في المنصورة ووظيفته لما استطاع أبو الحسن أن يجد مأوى .
|
[ltr]باكثير ومحمد علي الطاهر في المنصورة عام ١٩٤٢ أمام كوبري طلخا[/ltr] |
وفي تلك الأثناء وقعت حادثة سقوط طائرة اللواء عزيز باشا المصـري في قليوب شمال القاهرة وكان البحث عنه يجري بكل همة . فقد كان عزيز باشا معارضا للإحتلال البريطاني في مصر وكانت السلطات البريطانية تعتبره متعاطفا مع النازيين وتشتبه في كونه كان يحاول الوصول إلى خطوط الجيش الألماني التي كانت معسكرة على حدود مصر في الصحراء الغربية . وكان مبلغ الخمسمائة جنيه التي أعلنت عنها الحكومة مكافأة لمن يرشد إلى الباشا وزميليه الطيار عبد المنعم عبد الرؤوف ومساعده الطيار حسين ذو الفقار صبري كفيلة بتحويل الكثيرين إلى صيادين لأن مثل ذلك المبلغ في تلك الأيام كان يعد ثروة عظيمة .
تصور أبو الحسن ذلك وكيف أنه قد يظن بأنه هو عزيز المصـري فلم يتردد عن العمل السريع . فجمع كتبه وما عنده من ملابس وجعل الجميع في صرة وغادر الدار إلى حيث يسكن باكثير . فقص عليه القصة وأودعه الصرة ومفاتيح الدار، وأوصاه بأن لا يذهب إلى تلك الجهة ، لأنه إن حدث شيء فلابد من أن يصلوا إليه للسؤال عن أبا الحسن حسب اسمه المستعار ، لأنهم سيسألون صاحب الدار عنه فيقول لهم لا أدري سوى أنه استأجر المنزل مني بواسطة باكثير ، فيسألون باكثير فيقول لهم أن الأستاذ ذهب إلى القاهرة لإحضار أسرته دون أن يذكر وضع المفاتيح عنده . وقد سافر أبو الحسن بعد ذلك إلى دمياط ، فطنطا ، فالإسكندرية ، فبنها فالزقازيق . وفي اليوم الثالث رجع إلى المنصورة، حيث ترصد الأستاذ باكثير بعيداً عن داره إلى أن لقيه . فقال له الأخير أنه لم يقع شيء خلال غيابه وأن أحداً لم يسأل عنه .
باكثير في مهمة خطرة بالقاهرة
بقيـت أم الحسـن مقيمة في شقتها بشارع شبرا خلال هرب زوجها ولكن تحت الرقابة المستمرة والملاحقة ليـلاً ونهاراً من قبل المخبرين الذين كان رؤسائهم في البوليس والقلم المخصوص وإدارة الشؤون العربية يتعاونون مع الإنجليز ، رغم ذلك فقد كانت محور الإتصال بين زوجها في مخبئه والوطنيين وأصحاب الشهامة في مصـر والعالم العربي . وفي إحدى المرات طلب أبو الحسن من باكثير السفر إلى القاهرة وتوصيل رسالة إلى قرينته . فوافق باكثير وسافر إلى القاهرة ومعه الرسالة .
وقد رسم هو وأبا الحسن خطة تنفيذ تلك المهمة : متى وصل إلى العمارة التي تسكنها أم الحسن يصعد الدرج على رجليه إلى الطابق الخامس بدون أن يركب المصعد حتى لا يرافقه البواب . وأن لا يسأل البواب عن شقة أبا الحسن حتى لا يسمعه مخبر البوليس القابع عند باب العمارة فيشتبه به ، وإن سأله أحد عن الشقة التي يريدها يقول له أنه يقصد منزل جار أبو الحسن المهندس عباس جمجوم الذي كان هو وزوجته السيدة نفـيسة يعرفون كل شيئ عن أبا الحسن وهربه من السجن ، وأن يجعل وصوله للعمارة بشكل يوهم من يراه أنه معتاد صعودها وأنه عارف بمسالكها ، وبذلك يتفادى كل شبهة إلخ . ثم شرح له أبوالحسن ما سينتظره من شكوك عباس أفندي وتحفظه وأنه سينكر علاقته بأسرة أبا الحسن .
المقابلة وتأدية الرسالة
قرع باكثير جرس باب شقة المهندس عباس جمجوم المحاذية لشقة أبو الحسن ، فخرج إليه وتبين له أن ملامحه لا تشكل خطرا ما فرافقه إلى الصالون وهو لا يدري عنه شيئاً . ولما جلس سأله عن الخدمة التي يريدها فأسمعه باكثير أولاً بعض عبارات خاصة وحكايات لا يعرفها إلا عباس وأبو الحسن . ولكن عباس بقي متحفظاً فأخرج باكثير رسالة بعنوان أم الحسن وطلب إليه تسليمها إليها بواسطة حرمه السيدة نفيسة . وأفهمه بأنه بخط أبوالحسن وأراه العنوان والخط . فاطمأن عباس وذهبت قرينته إلى شقة أبا الحسن وأخبرت قرينته بوجود رسول من قبل زوجها . فجاءت إلى دار عباس حيث عرفت باكثير فوراً وأخذت الرسالة . فكان سرورها عظيماً لأنها لم تكن تدري منذ شهرين أين زوجها . ومن الطريف أن السلطات البريطانية كانت تتصور أن أبا الحسن قد وصل خفية إلى لبنان أو فلسطين ، فأرسلت زبانيتها لتفتيش بعض البيوت وسؤال بعض الأشخاص عن أبا الحسن هناك بينما لم يكن قد غادر القطر المصـري !
حكاية إخفاء أوراق محمد علي الطاهر عند باكثيـر
كثرت الأوراق عند أبا الحسن وفيها كل ما دونه من مذكرات ، فخطر له أن يبعدها عنه ويودعها مكاناً أميناً . ولكن من يجسر على تحمل مسؤولية إخـفاء هذه "العـقـارب" على حد تعبيـره في الوقت الذي كانت ثمينة مثل روحه كما دون في كتابه "ظـلام السـجـن" . وأخيراً اهتدى إلى طريقة كان قد قرأ عنها في كتب القصص الأمريكـية ، وذلك أنه اشترى من أحد باعـة الصور الملونة صورة قرية أوروبية بإطارها وزجاجها ، ففك الزجاج من الإطار ومزق الصورة وجاء بصورة لبدوية حسناء قصها من جريدة مصوّرة ووضعها في الإطار بدلا من تلك ، ثم دس جميع الأوراق التي يريد حفظها بين ظهر الصورة وبين الكرتون الخلفي قبل الزجاج ، ثم أرجع كل شيء إلى أصله وعلّق الصورة على الحائط .
ولم يكن ذلك كافياً بالطبع ، لأن الشرطة إن اهتدت إلى أبا الحسن فإنها ستضبط بطبيعة الحال جميع ما في الغرفة ومن الجملة الصورة . وسوف تظل في خطر سواء تركها رجال الشرطة أم أخذوها . فصار كلما زاره باكثير يصعد النظر إليها ، ويتأملها عن قـرب ، وذات مرة استحسن باكثير الصورة فطلبها من أبو الحسن الذي لم يتردد للحظة فأهداه إياها . وهكذا أخذ باكثير الصورة إلى بيته وعلقها في غرفة مكتبه وهو لا يدري أنها تحتوي على الكنز المكنون.
ومضت الأيام وصار أبو الحسن يزور منزل باكثير أكثر مما كان وكل غرضه هو أن يطمئن على الصورة ، مثل جحـا لما كان يكثر من زيارة الدار التي باعها وترك فيها المسمار... وكان باكثير يحدثه في كل زيارة عن الصورة وجمالها وحسن وقعها في نفسه ونفوس زوّاره ، وأنهم يكثرون التأمل فيها مع أنها صورة مقطوعة من إحدى المجلات ولا قيمة فنية فيها . ولكن لسوء حظ الطاهر جعل الزوّار يفتنون بها . وأخيراً قال باكثير أنه يستأذنه في إهداء الصورة إلى صديق له ألح كثيراً في الاستحواذ عليها . وعند ذلك لم يجد أبو الحسن مفراً من مكاشفته بالحقيقة وأن الصورة تخفي الكنز المدفون .
فلما سمع باكثير بخبر ما في الصورة اندهش . ومن يومها صار يحرص عليها ولا يمكن أحداً منه إنزالها عـن عرشها . ولما كثر المعجبون فيها أخذها من مكانها وأخفاها في صندوق كتب وكفى الله باكثير فضول أصحاب الذوق الفني السليم الذين لم تظهر عبقريتهم في معرفة قيمة اللوحات الفنية إلا يوم أخفى محمد علي الطاهر أوراقه في إطار تلك الصورة .