معين الطاهر
كاتب وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، ساهم في تأسيس الكتيبة الطلابية منتصف السبعينات، قائد للقوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة في حرب 1978 منطقة بنت جبيل مارون الراس، وفي النبطية الشقيف 1982.
عن خطبة عباس.. كفى
معين الطاهر
25 فبراير 2018
لو قُدّر للزمن أن يعود 25 عامًا إلى الوراء، إلى عام 1993، غداة توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، ولو وقف الرئيس محمود عباس يومها على منصة الخطابة في مجلس الأمن الدولي، لما قال غير الكلام نفسه وبالجمل ذاتها، وربما بالنبرات ذاتها التي تحدّث بها في خطبته أمام المجلس مساء الثلاثاء الماضي.
خلال ربع قرن، لم يبقَ العالم على حاله، تغيّر كثيرًا، لكنّ الرئيس عباس لم يتغيّر، ولم يدرك أنَّ العالم حوله تغيّر. بل يبدو أنّه، وهو يصوغ خطته الجديدة القديمة للسلام، ما زال يعتقد أنَّ الزمن لم يدُر، وأنَّ الأيام لم تتقدّم، وأنّه يجلس اليوم في أحد الفنادق النرويجية ليضع اللمسات الأخيرة على اتفاق أوسلو.
يدعو الرئيس محمود عباس إلى "تشكيل آلية دولية متعدّدة الأطراف لحل قضايا الوضع الدائم بحسب اتفاق أوسلو"، وهي كما وردت في خطبته، "القدس، والحدود، والأمن، والمستوطنات، واللاجئون، والمياه، والأسرى". وخلال فترة المفاوضات التي تلت "أوسلو"، والتي تنتهي قبل حلول عام 1999، كان من المفترض أن "تتوقف جميع الأطراف عن اتخاذ الأعمال الأحادية التي تؤثر في مفاوضات الحل النهائي". النص ذاته تمامًا استعاره كتبة خطبة الرئيس ونسخوه بالكلمات ذاتها وألصقوه على الورقة التي تلا منها خطبته الحالية.
لكن ما الذي تغيّر في قضايا الوضع النهائي، وهل من المعقول أنّ الرئيس وحاشيته، خلال
"على الفلسطينيين أخذ زمام المبادرة، وإعادة التمسّك بقضيتهم، وعدم التنازل عن ثوابتهم" حلهم وترحالهم، لا يلحظون المتغيّرات الكبيرة على الأرض؟ وبالعودة إلى نص الرئيس، هل ما زالت القدس عام 1993 هي القدس اليوم؟ هل تمكّن الرئيس من زيارتها مرة واحدة والصلاة في أقصاها؟ وهل ما زالت من قضايا الوضع الدائم؟ وما الذي يجري في داخلها؟ أمّا الاستيطان، فهل يكفي أن نذكر أنّه في ظل الاتفاق على عدم اتخاذ إجراءات أحادية زاد عدد المستوطنين من سبعين ألفًا إلى ثمانمئة ألف مستوطن؟ وبالنسبة للأمن، فقد أنهى الجنرال الأميركي دايتون المفاوضات بشأنه عندما ربط أجهزة الأمن الفلسطينية بمثيلتها الإسرائيلية، وفق ما عُرف باتفاقات التنسيق الأمني التي أصدر المجلس المركزي قراره بوقفه، من دون أن تمتثل السلطة التنفيذية لذلك. وهكذا هو حال قضايا اللاجئين والمياه والأسرى الذين تضاعف عددهم بالآلاف.
بعد ربع قرن من الفشل التام، نعود إلى المربع ذاته والاقتراحات ذاتها التي لم تقوَ السلطة الفلسطينية أو المجتمع الدولي على حمايتها يومًا واحدًا. الأنكى، والغريب والبعيد عن ألف باء المفاوضات، أنَّ السلطة، وعبر خطاب الرئيس، تقيّد نفسها بشروط وتعهدات أمام المجتمع الدولي، تلتزم فيها ألّا تتقدّم بطلب عضوية لـ 22 منظمة دولية في فترة المفاوضات. أي تعهد بعدم الانضمام إلى هذه المنظمات إلى أجل غير مسمى، بما يُعد التزامًا نهائيًا مجانيا بذلك، لم يطلبه منها أحد.
أثار الرئيس محمود عباس، في اجتماع المجلس المركزي، أخيرا، حكاية المنظمات الدولية الـ 22 التي امتنعت السلطة الفلسطينية عن طلب عضويتها، بعد أن تعهدت بذلك سابقا للولايات المتحدة الأميركية في مباحثات ثنائية، من دون أن يوضّح سببًا لهذا التعهد الذي هدف إلى تطمين القادة الصهاينة بعدم السعي إلى ملاحقتهم على جرائمهم. وأعلن أنّه لم يعد هناك عائق من الانضمام إلى هذه المنظمات، بعد أن اعترف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل. فما الذي تغيّر حتى يتنصل الرئيس من حديثه أمام المجلس المركزي، ويجدد هذا التعهد أمام مجلس الأمن الدولي؟ وما هي العلاقة بين الانضمام إلى هذه المنظمات وقضايا الوضع النهائي التي لم يلتزمها العدو أصلًا؟ وهل هي عربون مدفوع مقدما من أجل العودة إلى دائرة المفاوضات؟ أم هي بوليصة تأمين لعدم اتخاذ أي إجراءات من الصهاينة ضد رموز السلطة؟
استدار الرئيس محمود عباس استدارة كاملة بعد خطبته في المجلس المركزي. أحيلت توصيات المركزي إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي أحالتها بدورها إلى لجانٍ فنية لدراستها. وبكلمة واحدة، وُضعت في الأدراج، وجاءت بدلًا منها المبادرة الجديدة التي تعيدنا إلى نقطة البداية، والتي تقرّر العودة إلى ما جُرّب سابقًا؛ إلى أوسلو والمفاوضات والتنسيق الأمني، وتبتعد كل البعد عن الأجواء التي سادت بعد قرار ترامب، وحتى عن خطبتي الرئيس محمود عباس في المؤتمر الإسلامي والمجلس المركزي.
عدم الانضمام إلى المنظمات الدولية، ومنها محكمة الجنايات الدولية، أمر لا شأن له بمفاوضات الوضع النهائي. هو عجز وهروب من مواجهة
في الموقف من سياسات السلطة الفلسطينية
أثارت مقالتي في صحيفة العربي الجديد "عن خطبة عباس... كفى" (25/ 2/ 2018) تعليقات مختلفة من زملاء وأصدقاء، تضمنت تساؤلات عدة عن جدوى انتقاد مواقف الرئيس محمود عباس والسلطة الوطنية الفلسطينية، في وقت أعرب فيه الرئيس عن معارضته قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ورفضه صفقة القرن التي وصفها في خطبته أمام المجلس المركزي بأنّها صفعة القرن، ومراجعة الاعتراف بالولايات المتحدة الأميركية راعيا وحيدا لعملية السلام، والمطالبة بإشراك جهات أخرى، وإيجاد مرجعية دولية عبر مؤتمر دولي للسلام، كما قال في خطابه في 20 فبراير/ شباط الماضي أمام مجلس الأمن الدولي. وهي أسئلة مشروعة بحق، ولها منطقها، وتحتاج إجابة واضحة عليها، وإن كان صاحب هذه السطور تناول ذلك في مقالات سابقة عدة، مع ضرورة التمييز بين مقالة في صحيفة، مهمتها التركيز على نقطة رئيسة واحدة، ودراسة أو بحث في مجلة محكّمة يجمع فيها الباحث نقاط موضوعه كلها.
بداية، ينبغي التوضيح أنّ أي نقد أو احتجاج أو معارضة لمواقف السلطة الفلسطينية ورئيسها لا يتعلّق إطلاقًا بشخوصها، فبين رجالات السلطة الفلسطينية إخوة وأصدقاء ورفاق درب، والرئيس محمود عباس كان يومًا من مؤسسي حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وقائدًا مهمًا فيها عبر مسيرتها الطويلة. ولذا فإنّ أي نقد يوجّه، أو أي خلاف في الرأي، يمتد أولًا إلى السياسات المعمول بها والنهج المتبع فيها. وهو أيضًا، بطبيعة الحال، لا يعفي القائمين عليهما من مسؤوليتهم التاريخية عمّا يفعلونه أمام شعبهم وأمام الله، لما لسياساتهم هذه من تأثير عميق في قضيتنا. بل ويجعلهم عرضة للمساءلة، إن قصّروا أو انحرفوا، وللثناء إن قاموا بما يتوجب عليهم.
نعم، عارض الرئيس محمود عباس قرار ترامب، واعتبره إخراجا للقدس المحتلة من المفاوضات، وبداية لتنفيذ صفقة القرن التي رفض ما تسرّب إليه منها عبر رسميين عرب أو أميركان، لعلمه أنّها تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، وتفرض حلًا لا يستطيع الرئيس عباس أن يوافق عليه أو أن يمرّره. الرئيس عباس واضح تمامًا في موقفه، فهو ليس ضدّ المفاوضات ويسعى جاهدًا إلى العودة إليها، واعترض أخيرا على مرجعيتها الأميركية المنحازة (متى كانت غير ذلك؟)، فأراد أن يضيف إليها أطرافًا أخرى، مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين.
مشكلة الرئيس عباس هي في طبيعة الحل الذي تحاول الإدارة الأميركية وإسرائيل وبعض الأطراف العربية فرضه عليه، وهو حل قائم على اعتبار القضية الفلسطينية منتجا ثانويا يمكن التعاطي معه في ظل قيام حلف عربي إسرائيلي ضدّ إيران و"الإرهاب"، ويحافظ على بعض الأنظمة العربية ويضمن أمنها، أمّا الفلسطينيون فلا بواكي لهم، ولن يتاح لهم في هذا الحل سوى كانتونات متفرقة في مدنهم الكبرى، تعيش تحت وطأة الحصار الإسرائيلي، وترتبط ببعض النواحي مع الأردن، المطلوب زجّه في ذلك رغمًا عنه.
قطعًا، ومن دون تردد، لن يوافق الرئيس عباس على ذلك. لكن هل هذا يكفي؟ وما هي السياسة التي اتبعها عباس لمعارضة هذا الحل التصفوي؟ وهل هي سياسة ناجحة؟ وإلى ماذا ستؤدي؟ وكيف نفسّر التناقض في مواقفه وتصريحاته ما بين خطبته في المؤتمر الإسلامي والمجلس المركزي وخطبته في مجلس الأمن؟ يدرك الرئيس عباس صعوبة مواجهة قرار ترامب وصفقته، وارتباط ذلك بأنظمة عربية مؤثرة. لذا فإنّ خياره كان الالتفاف على هذا القرار، والاعتراض على جزئياتٍ واردة فيه، ومحاولة كسب الوقت، لعل شيئا ما يتغير، وإعاقته عبر طرح صيغ تمثيلية ومرجعيات أخرى، تشارك الولايات المتحدة إشرافها على أي مفاوضات محتملة، وعبر إعادة الحديث عن مؤتمر دولي ينظم هذه العملية، كان قد سبق اقتراحه بعد حرب عام 1973، وعقد جلسةٍ واحدةٍ في جنيف، ثمّ استمر وسيلةً لابتزاز تنازلات متكرّرة من منظمة التحرير، تحت شعار تأهيلها لعملية السلام. على أن يقترن ذلك بامتناع الأطراف عن تغيير الوقائع على الأرض، خلال فترة مفاوضات جديدة مقترحة.
تتكرر المقترحات نفسها التي ثبت فشلها في ظل اتفاق أوسلو، واستغلال إسرائيل السلام للقيام بتكريس احتلال بلا تكلفة، وتعميق الاستيطان، ومصادرة الأراضي والمياه، وزجّ آلاف في المعتقلات والسجون. بل ولأنّه لا يوجد للشعب الفلسطيني ما يغيّره من وقائع سوى الثورة والتمرد، فإنّ القيادة الفلسطينية تقدّم بادرة "حسن نية"، تُلزمها أمام المجتمع الدولي بأسره، من خلال تعهدها عدم الانضمام إلى 22 منظمة دولية، كانت سابقًا قد التزمت شفويًا للإدارة الأميركية بها، ثمّ اعتبر الرئيس عباس، في خطابه أمام المجلس المركزي، أنّه أصبح في حِل من ذلك، ليعود ويؤكد هذا الالتزام أمام العالم أجمع، الأمر الذي يعني عدم نيّته تصعيد المواجهة السياسية ضدّ إسرائيل أمام العالم.
وأمام تجميد قرارات المجلس المركزي، الخاصة بوقف التنسيق الأمني الذي أصبح يشكّل وصمة عار في جبين السلطة الفلسطينية، وتعثّر المصالحة الفلسطينية، والإصرار على التمسك بنهج أوسلو وخيار المفاوضات مع " الجار" الإسرائيلي، فذلك كله لا يمكن تفسيره سوى بأنّنا أمام معارضة مدجّنة لقرار ترامب، لن تسعى باتجاه السعي إلى قلب الطاولة على المشروع برمته، بل وأمام الاستياء الأميركي والإسرائيلي والبعض العربي من الطريقة التي جرت بها معارضة قرار ترامب بداية. فقد أشهرت القيادة الفلسطينية "حُسن" نيّتها، عبر التقدّم بمبادرتها أمام مجلس الأمن، وبتراجعها عمّا سبق وأعلنته عن عزمها الدخول في مواجهةٍ سياسيةٍ في منظمات الأمم المتحدة، وعبر تجميدها قرارات المجلس المركزي، واستمرار التنسيق الأمني. وبذلك يتضح مدى استعداد السلطة الفلسطينية للمضي في مواجهة هذا المشروع. والحقيقة أنّها اكتفت بمعارضته، ثمّ عادت لتدور في الدائرة ذاتها، من دون أن تخرج منها، بل وتقدّم تطميناتٍ إضافيةً لم تُطلب منها، للدلالة على عدم نيّتها اتخاذ خطوات تصعيدية، وأن الأمور تسير في الاتجاه السابق نفسه، ولا نية في الانقلاب عليه.
يعترض بعض الأصدقاء بأنّه ينبغي الوقوف مع الرئيس في هذه المرحلة وعدم انتقاده، وأنّ من شأن اعتزال الرئيس أو رحيله أن يأتي بمن يخدم مخططات الاحتلال. والإجابة واضحة تمامًا، ينبغي الوقوف مع كل من يرفض مبادرة ترامب، وتأييده بقدر ما يعتزم مواجهة هذا المشروع، من دون أن يخلّ هذا بحق أحد في انتقاد أساليب المواجهة الضعيفة واللفظية، والتي تميل إلى استمرار النهج الحالي أو تجميله. أمّا مسألة التحذير ممّا هو أسوأ فلا تخيف أحدًا، فالمرحلة المقبلة تفترض احتمالين لا ثالث لهما، تغيير النهج بأسره والشروع الجدّي في مقاومة الاحتلال، بما يشمل انتهاء الشكل الحالي للسلطة واستبداله بأشكال أكثر ثورية شعبنا قادر على ابتكارها، أو أن يُنصّب الاحتلال أحد المتعاونين معه، وعندها تصبح السلطة سلطة احتلال من دون مواربة، ويعجّل هذا من زواله وزوالها.
يتساءل بعضهم، هل كان في وسع السلطة الفلسطينية أن تواجه هذا المشروع؟ الإجابة: نعم كبيرة، إذا استندت إلى الشعب الفلسطيني والجماهير العربية أصحاب الولاية الكاملة على القضية الفلسطينية، والذين من دونهم لا أحد يستطيع أن يمرّر حلًا تصفويًا للقضية، لكنّ هذا يقتضي مواجهة شاملة مع الاحتلال الصهيوني أساسًا، وتغيير النهج السائد، نهج أوسلو، والركون إلى المقاومة بأشكالها كلها، والثقة بقدرات شعبنا. وهي إرادة التاريخ التي ستتحقق حتمًا.