| رحلة الوجع الفلسطيني | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رحلة الوجع الفلسطيني الأربعاء 03 يونيو 2015, 8:16 pm | |
| [rtl]رحلة إلى الوجع الفلسطيني أوجاع الخليل[/rtl]
شيء في فلسطين يقاوم الموت، لدرجة أشعر فيها أحيانا أنها أحسن حالا من الكثير من الدول العربية، على الرغم من مأساة الاحتلال القاسي الذي يكسر الآمال والأشواق الحية، التي كلما رآها تنبت في عيون الأطفال والزهر والنرجس والزيتون، ركض إلى طمسها، في محاولة قد تكون يائسة لإطفاء شعلة الحلم والحياة. مدينة الخليل لا تشبه بقية مدن الضفة. بطبيعتها الاستثنائية أولا. لا يمكن لمن يكتفي بالصورة الإعلامية الجاهزة أو المنمطة، حتى عندما تكون النية المتخفية من وراء ذلك طيبة. مدينة مطعونة في كبرياء جسدها. مسروقة وممزقة بعنف. شارع الشهداء الذي لم يكف عن تبرير اسمه في كل لحظة، يمتد طويلا بدكاكين مغلقة كانت عز الفعل التجاري قبل التسعينيات، وقبل أن يوقف امتداده معبر جامد، هو عبارة عن كتلة إسمنتية كل شيء فيها ينضح بالخوف الغبي لإنسان يخاف حتى من الزلال التي تعبر فوق رأسه أو من أمامه. يضاعف سمك الإسمنت المسلح هذا الخوف، لدرجة أن يتحول إلى قبر قديم. الفلسطيني يعرف جيدا أنه تحت أسوأ آلة استعمارية إذا جازت التراتبية في الاحتلال، لكن كيف يعيش القوي عسكريا داخل هذا البونكر؟ حالة الخوف تظهر جليا أنه يسكن داخل رعب ينتظر من خلاله ما لا ينتظره. عندما تجاوزت المعبر برفقة الدكتورة رزان إبراهيم، ابنة مدينة طولكرم، وسامح خضر، مدير متحف درويش، مع دليلنا الصديق الإعلامي الجميل رائد شريف، ووقفنا قليلا نتأمل الأماكن التي نهبها المحتلون بقوة النار، ويشرح تفاصيل الاحتلال اليومية، وهو ابن المدينة، ركض نحونا عسكري إسرائيلي مثقلا بأسلحة وواقيات تقربه أكثر من أبطال ألعاب الغيمبوي من إنسان. أصبعه على الزناد. نظر إلينا بتوجس، كأنه يخاف من الهواء الذي كان يتنفسه ومن النحلات التي كانت تنام في عمق الزهور المتوحشة، على حواف الطريق، ومن الذبذبات الصوتية للأطفال والكبار التي تأتي من البيوت الواطئة في شكل تراتيل جنائزية، بعد أن سرق المحتل غيمها وسماءها وشمسها فقط ليبين، في كل لحظة لمن لا يدري، أنه هنا بآلته وغطرسته. بكل مواصفات المحتل الذي لا يملك إلا لغة الخوف ولباس العسكر الذي لا يقي من الخوف ولا يدفئ من المفاجأة التي تولدها المظالم. أشتهي أن أقرأ في العيون. كنت أتساءل وأنا أنظر إلى وجه العسكري الطفولي الذي لم ينبت بعد شعر على وجهه: أية حياة يعيشها؟ هل يدرك ذلك وهو القادم من بعيد، من بولونيا أو روسيا، برفقة أهله؟ هل سيقاوم هذا الخوف قبل أن يتحول بسرعة إلى ذئب بمجرد، أن يذوق الدم ويصاب بلذته، أم سيفكر كما الكثيرين في المغادرة؟ تحت إلحاحه، انسحبنا. الخليل ليست مدينة ميتة، لكنها مجروحة في العمق وموجوعة. كان علينا أن نلف قرابة الكيلومتر لنصل إلى الحي القديم الملتصق بالبيوت التي تحولت إلى بيوت للمستوطنين بعد أن طرد الكثير من سكانها الأصليين. مع أن انحدارا بسيطا من وراء المعبر يلقي بنا في عمق المدينة، لكنه مغلق. أدخلنا رائد إلى بيت خليلي قديم. في الشارع روائح تشبه روائح الفقر والبحث عن سبل العيش والموت المتخفي في كل مكان. دخلنا البيت. استقبلنا صاحبه وضيفنا على قهوة. وجدنا يابانيين مستعربين يتحدثون مع العائلة، ويسألونها عن شطط العيش. كان صاحب البيت يتحدث بطلاقة، بينما زوجته الثانية تنظر في وجوهنا كمن خبأ الخوف والموت في كفه استعدادا لرميه من السطح، لأن النافذة مغلقة وملحومة بالحديد. زوجته الأولى فقدت عقلها بسبب أحد المستوطنين الذي قذف من الأعلى بحجرة جاءتها على رأسها فأفقدتها وعيها قبل أن تدخلها في غيبوبة استمرت طويلا، أفقدتها مع الزمن عقلها. قال الرجل وهو يرسم حزنا تخترقه من حين لآخر لمعات كانت تتشكل في عينيه: هذه زوجتي الثانية. بنت المخيمات. لا تعرف الخوف. لم يعد لنا ما نخسره اليوم. في مرة من المرات هاجمنا المستوطنون وظلوا يدقون على الباب. تساءلت ماذا أفعل. صممت أن أحمي أبنائي وأن أقاوم. نزعت قنينة الغاز وحملتها بين ذراعي وأشعلت النار على رأس أنبوبها وخرجت. كانوا جماعة من المستوطنين. بمجرد أن رأوا القنينة مشتعلة، تراجعوا وهم في حالة جزع ورعب، يطأون بعضهم بعضا، ثم هربوا. لا يريدون أن يموتوا. سرقوا حياتنا ليستمروا. نحن أيضا نحب الحياة، لكننا نكره الذل. هذه حياتنا اليومية. رافقنا أخوه نحو سطح البيت. بدا تحت نظرنا العسكري الإسرائيلي صغيرا وضئيلا. مرة أخرى يرفع يده ويصرخ بأن لا نظل هناك. سحبنا صاحب البيت: ما تعرف شو يا اللي برؤوسهم. العائلة تعيش على ما تخيطه الزوجة من ألبسة وشالات فلسطينية. ماكنة خياطة قديمة عبرت أزمنة كثيرة وأيدي كثيرة، قبل أن تصل إلى هذا المكان. ماذا لو تحدثت هذه الماكنة؟ في فلسطين كل شيء يتكلم ولم يخسر لسانه. صاحب البيت يخرج، ليس بعيدا عن مسكنه ليبيع ما تخيطه زوجته خوفا من أن يأتي المستوطنون في غيابه. في فلسطين، الحياة معلقة على كلمة أو حركة أو نظرة أو حتى على غيمة صعدت إلى سطح البيت لتنظر إليها وتشعر بأن قوة الحياة ما تزال هنا. غادرنا المكان. شيء ما في الخليل لا يموت، ولا يفقد ألقه، ولا يصيبه الصدأ. شيء ما يتخفى عميقا في عيون الناس اسمه إرادة الحياة. مشينا في الحي القديم الذي تغطي بعض أسطحه شبابيك متآكلة، وقطع البلاستيك القديمة، لأن المسافة بين الفلسطيني وبين الذي يتربص به ليست بعيدة. عرفت أنهم يغطون سماء الخليل، لأن جزءا منها سرقه المستوطنون الذين كلما وجدوا الفرصة سانحة، رموا عليهم الفضلات والبول والأوساخ وكل ما لا يمكن تخيله. لكي تستمر الحياة وضعوا الشبابيك لتغطية الحي، قبلوا بأن يتخلوا عن سماء أصبحت سجينة مثلهم. وتشعر أن الهواء نفسه لو تمكن المحتل من وضعه في علب أو امتصاصه، ما تردد ثانية واحدة. لأول مرة أدركت أنا الذي يميل نحو السلام والحوار، بأن المسافات كبيرة والهوة تتسع في كل ثانية، وأن العداوة لم تعد عداوة، ولكن أكثر من ذلك. كيف يكبر الأطفال الذي يملأون الحي القديم في ظل القسوة والظلم؟ عندما تسأل أحدهم، تكتشف فجأة أن الخط بينه وبين المستوطن بلغ درجة عليا من الكراهية والحقد بحيث من الصعب تصور غير الاصطدام، والفجوة لم تضق ولكنها تتسع كل يوم أكثر. لم يتحول الجندي الإسرائيلي إلى شيء أليف في المشهد العام. بل يذكر الفلسطيني، والزائر أيضا، والمولود الذي يفتح عينيه في ظل الأسلاك والموانع والحواجز الإسمنتية الثقيلة، أن الاحتلال ما يزال هنا وليس مستعدا للخروج إلا بقوة مضاهية له. عند نهاية الدرب المؤدي إلى الحرم الإبراهيمي، الذي تمنيت زيارته، المنطق نفسه. يوجد هناك أيضا معبر آخر، ليس أقل عفنا من معبر قلندية الذي اختزل كل الأحقاد البشرية ولخصها في معبر ضيق يتحول فيه الإنسان إلى أقل من حيوان من وراء الشبابيك الحديدية القاهرة التي يصغر أمامها كل شيء إلا الحقد الذي يشتعل في كل ثانية. عبرنا بدون إشكال تحت عيون الحرس الإسرائيلي. ظننت أن الأمر انتهى هنا، لكن فوجئت بمعبر عسكري أكثر رقابة. ينظر الحرس في عمق العيون. سألني العسكري. مسلم. قلت نعم. ثم كأنه يعتذر: المسلمون يشترطون ذلك. لا يمر من هنا إلا المسلم. كدت أصرخ: وأنت ماذا تفعل في هذا المكان؟ سيدنا إبراهيم الخليل لم يكن يرتدي خوذة، ولم يكن يحمل سلاحا، ولا يسأل الناس العابرين نحو قلبه عن هوياتهم. قال سامح: هؤلاء كتاب في ضيافة متحف درويش. مررنا بدون حتى أظهار الهويات. القبور تسرق أيضا. جزء من مقام سيدنا إبراهيم الذي ينام وحيدا في الأنفاق، ولا يمكن لأحد أن ينزل نحو مقامه إلا من ثقب صغير يظهر شموعا تحترق في صمت داخل عتمة معممة. سرق قبر سيدنا يوسف وجزء مهم من المقام وأصبح تحت السلطة الإسرائيلية في عمق الأراضي الفلسطينية. ماذا لو ظل هذا المقام مفتوحا على كل الأديان؟ يسجد قوة سلطان تسامحها؟ ألم يكن سيدنا إبراهيم كذلك في الكتب المقدسة والمرويات القديمة؟ كم يبدو ذلك بعيدا ومحزنا أيضا. كيف لحق التمزق سيدنا إبراهيم وزوجاته وأبناءه، وكأنه الاستعارة الجارحة التي تختزل فلسطين ما قبل النكبة وما بعدها. على الرغم من هذه الظلمة، ما يزال الفلسطيني يعيد صياغة الحياة، داخل الألم والأمل الصغير وحتى الشهادة، عندما يفرض عليه الانتفاء الكلي والتنكر لحقه الأدنى: الحياة. واسيني الأعرج |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: رحلة الوجع الفلسطيني الأربعاء 03 يونيو 2015, 8:19 pm | |
| رحلة الوجع الفلسطيني (2): الجمعة الحزينة في بيت لحم
أخيرا وصلنا إلى بيت لحم Bethleem التي يأتي هواؤها مندى بالحنين والمسافات الضئيلة التي تفصلها عن القدس، بسبب خصوصيتها الدينية وارتفاعها عن سطح البحر بـ775 مترا. بيت الخبز كما سماها القدماء، والخير والتسامح والجرح الفلسطيني. عندما جلسنا في المقهى المقابل لكنيسة المهد وشربنا قهوة بطعم المدينة ونداها المسائي، أدركت كم أن غطرسة الاحتلال لم تقتل الإيمان بأن شيئا في التاريخ يظل حيا ومستمرا، ويشتغل في الخفاء قبل أن يتجلى بقوة في شكل مقاومة جزئية أو عامة. مشكلة الظالم أنه لا يؤمن إلا بالقوة، التي كلما كــــبر ظلمها، ارتدّت عليه بنفس الدرجة من العنف أو أكثر. ماذا بقي اليوم من الذين دمـــروا هذه المدينة لدرجة المحو غير صمت الحجارة والخطوط المرتسمة هنا وهناك تقول هذا التاريخ. ذهب الجميع وبقيت بيت لحم التي تشكل اليوم مركز المحافظة الحيوي. تقع في الضفة الغربية، يقارب عدد سكانها الـ50,000 مع مخيمات اللاجئين بأحزمة الفقر والتهجير. وهي بلا منازع أحد أهم المراكز الثقافية والسياحة في تنوعها الديني والحياتي. كان صديقي الروائي الفلسطيني عاطف أبو سيف سعيدا باكتشاف المدينة مثلنا جميعا، لكنه كان قلقا جدا. بدأ يفقد أمله في الحصول على الموافقة التي وعد بها ولم تبق أمامه إلا ليلة واحدة. ظل ينتظر الموافقة على الخروج للسفر إلى أبوظبي لحضور إعلان الفائزين بالبوكر، فهو واحد من الستة الذين ابتسم لهم حظ البوكر. كان حزينا. فرصته الأقرب ليثبت للعالم أن الحياة توجد أيضا في فلسطين وأن هذه الأرض قادرة على الإبداع والتمايز على الرغم من محنة الاحتلال. كان معلقا على خبر مثل روايته: حياة معلقة. الدكتورة رزان ظلت تحمل في قلبها وكل حواسها فرصة اكتشاف أهلها لأول مرة في طولكرم، ومسقط رأس والدها والكثير من أقاربها، تتساءل كطفلة عن أدق التفاصيل التي تنتظرها وتخاف أن لا تتحمل المفاجأة. سامح مدير متحف درويش الذي سخر نفسه بسيارته الخاصة، كليا لهذه الزيارة التي يرى فيها الكثير من الناحية الرمزية، لم يدخر أي جهد لكي تصبح هذه الرحلة علامة في الذاكرة. للمساءات طعم خاص في بيت لحم، بها بخور يأتي من بعيد، به طعم زمن بعيد مضى ولم ينسحب، يفتح النفس على التاريخ وعلى الرغبة في اكتشاف بعض سحرها وأسرارها. جوهرة بيت لحم معلمها الديني. كنيسة المهد التي تختصر هي أيضا كما الخليل، زمنا دينيا وإنسانيا وجرحا مقاوما ينفتح على مختلف المشاهد الحياتية اليومية. شيء ما في هذه المدن الفلسطينية يعلن عن نفسه من تجليات شوارعها وصوامعها وكنائسها. شيء اسمه الإصرار على الحياة والانتساب لهذه الأرض لدرجة التماهي فيها ومعها. لبيت لحم أهمية عظيمة عند كل الأديان التي تتآلف فيها بقوة، لكونها مسقط رأس سيدنا المسيح. تاريخها هو تاريخ الشعب الفلسطيني ومأساته. تاريخ العزة والانكسارات أيضا. بنيت المدينة، وفقا للمأثورات التاريخية الكثيرة التي أنجزت عن بيت لحم، على يد الكنعانيين في الألف الثانية قبل الميلاد، ولم تستقر على اسم واحد بحسب الحقب المتتابعة والأقوام التي سكنتها. ورد اسمها في مصادر قدماء السريان والآراميين. لم تنج بيت لحم من الغزو الأشوري والبابلي والفارسي والإغريقي والروماني والبيزنطي، فأحرقت ودمرت العديد من المرات، ولكنها في كل مرة تقوم من رمادها كطائر الفينيق. أعاد الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول بناءها. وفتحها العرب المسلمون على يد عمر بن الخطاب عام 637، بعد أن ضمن السلامة للمزارات الدينية في المدينة، ومنع اقتحامها. وفي عام 1099 استولى عليها الصليبيون الذين حصنوها، واستبدلوا فيها الأرثوذكسية اليونانية برجال الدين اللاتين قبل أن يعيدها صلاح الدين الأيوبي لأصحابها الأصليين وتصبح مدينة لكل الأديان. ومع مجيء المماليك في عام 1250، هُدمت جدران المدينة وأعيد بناؤها في وقت لاحق خلال حكم الإمبراطورية العثمانية. في عام 1917 انتزعت بريطانيا السيطرة على المدينة من العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى وكان من المفترض أن يتم تضمينها في المنطقة الدولية في إطار خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين عام 1947. وأُلحقت بالأردن بعد نكبة فلسطين عام 1948. وقد احتلتها إسرائيل في عام 1967 بحرب الأيام الستة. ومنذ عام 1995، ووفقا لاتفاقية أوسلو، نُقلت السلطات المدنية والأمنية في المدينة إلى يد السلطة الوطنية الفلسطينية. معالمها الدينية أكدت لي مرة أخرى أن الوطن فوق الأديان. عند المسيحي والمسلم على حد سواء، تظل فلسطين هي الأم الحاضنة، على الرغم من الممارسات الإسرائيلية لتفجير هذه الوحدة والدفع بالمسيحيين إلى الهجرة كما حدث في الكثير من المدن العربية، واللعب على التهديدات الإسلاموية. للأسف هذه السياسة أفرغت الكنيسة الشرقية من جزئها الأهم في العراق وسوريا، وقد مُسّت فلسطين ولو بشكل جزئي. وهذا ما يفسر تحول المسلمين إلى أغلبية في المدينة بعد أن كانوا أقلية، لكن بيت لحم لم تفقد هويتها المسيحية الأساسية. فهي مسقط رأس سيدنا المسيح. تعتبر كنيسة المهد أهم معالمها. ميلاد سيدنا المسيح فيها جعل منها مزارا عالميا على الرغم من تشديدات الاحتلال وسياسة المنع المتتالية. وتجمع أغلب المصنفات التاريخية أن قسطنطين الأكبر، الإمبراطور الروماني الأول الذي أعتنق المسيحية، هو من بناها في سنة 323، فوق مغارة يعتقد أنها الإسطبل الذي ولد فيه سيدنا المسيح. فهي تُعتبر من ضمن أقدم الكنائس الموجودة في العالم إن لم تكن أقدمها. شيء من الرهبة ينتابنا ونحن نعبر الأنفاق التحتية ونقف على مرمى البصر واليد، عند مكان الميلاد. قبل أن نتوغل في السرداب الذي قضى فيه جيروم ثلاثين عاما من حياته يترجم الكتاب المقدس إلى اللاتينية. تتوزع الكنيسة مختلف الطوائف المشكلة للديانة المسيحية في تعدديتها، إذ تقام طقوس عيد الميلاد في بيت لحم على ثلاثة تواريخ مختلفة: تحتفل الطوائف الكاثوليكية والبروتستانتية بتاريخ 25 ديسمبر، وأما الكنيسة اليونانية والسريانية والمسيحيون الأقباط فيحتفلون بتاريخ 6 يناير، والمسيحيون الأرمن الأرثوذكس يقيمون احتفالاتهم في 19 يناير. مما جعل نشاطها السياحي كبيرا بالخصوص في فترات الميلاد ورأس السنة. يوجد فيها أكثر من 300 ورشة للحرف اليدوية الخاصة بالعمل على الخشب والنحاس والرخام. يعود أغلب هذه المعلومات للدليل الفلسطيني الذي رافقنا في دهاليز كنيسة المهد وساحاتها. شرطي يحب مدينته وأرضه. بمجرد أن نتخطى بوابة الكنيسة التي اختصر بابها الخارجي وأصبحت حانية بعد أن تم تقليص ارتفاعها، ينزع الدليل قبعة الشرطي ويصبح مؤرخا دقيقا في التفاصيل. عندما حاولنا أن ندفع له مقابل شروحاته وجهوده، ضحك وهو يقول: أنتم لستم سواحا وأنا لست دليلا. أحبكم أن تتعرفوا على هذه الأرض الكبيرة، وأن تعرّفوا بها. أصواتكم هي وسيلتنا لكي يسمعنا الآخرون. انتهى اليوم ولم ينته. عندما غادرنا المكان، كان كل شيء هادئا كما في البطاقات البريدية. حركة الناس فيها نوع من الثقة التي تتجلى من خلال الوجوه. حتى ساعة متأخرة تظل المحلات التجارية مفتوحة تبيع هدايا للعابرين على المدينة. اشتريت وجها فضيا لسيدة الأحزان مريم. تأملته طويلا. في وجهها شيء يشبه أعماقنا الجريحة. حركة الناس نحو كنيسة المهد تعطي الانطباع كأن كل شيء هادئ كما المدن المقدسة العالمية، حيث نرى المصلين كبارا وصغارا يتجهون نحو المكان من خلال احتفالات دينية سادتها عادة الأطفال الذين يأتون للزيارة أو للتعميد. بمجرد أن يتوغل المرء في عمق كنيسة القيامة، يلحظ آثار الأيادي الآثمة، والعلامات التي مست الكنيسة، من خلال الكسورات على الحجارة، أو الرصاص الذي مس الحيطان في الأزمنة المتعاقبة. العلامات واضحة ولم تمَّح، بما في ذلك رصاص الاحتلال. في المساء وأنا أتابع نشرة الأخبار سمعت خبرا عن شباب في بيت لحم، كانوا يحضرون لشيء، تمت مداهمتهم، أدركت لحظتها أن بيت لحم ليست بطاقة بريدية جميلة، هي أكثر من ذلك. طوفان يتكون في الخفاء. في اللحظة نفسها رن تليفون عاطف. كان صامتا ومنهكا ويائسا. غدا احتفالية البوكر وهو لم يحصل على الترخيص. تمتم. نعم. مكتب السيد الرئيس أبو مازن. ثم فجأة قفز في مكانه. صرخ مثل طفل: أوووووف. أخيرا وصلت الموافقة. أصبح الآن بإمكان عاطف أن يستعيد لحظات بيت لحم وكنيسة المهد بشكل أجمل وأبهى. |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: رحلة الوجع الفلسطيني الأربعاء 03 يونيو 2015, 8:20 pm | |
| رحلة الوجع الفلسطيني (3): طولكرم… مدينة تبدع أملا
هذه المرة، كانت الرحلة في الأراضي الفلسطينية لحظة فرح في مسارها العام، على الرغم من جرح المستوطنات التي تخترق الأراضي لدرجة أن أصبح جليا أن مآل الفكرة الصهيونية صار واضحا، على الأمد المتوسط أو البعيد، بتحويل المدن الفلسطينية إلى كانتونات معزولة عن بعضها بعضا، بحيث يصبح من المستحيل التفكير بعدها في دولة بعد سرقة كل مقوماتها، وكأن النهب الاستيطاني القانوني بين قوسين، الذي أعقب أوسلو، لم يكن كافيا. نرى اليوم بين المدينة والمدينة، والهضبة والأخرى وبين الوادي والوادي، مستوطنات تظهر كنباتات الفطر، ستتحول في وقت قريب، إلى معابر إجبارية محرمة على الفلسطيني داخل أرضه، وإلى أداة قهرية لتمزيق أوصال الضفة الغربية أو ما تبقى منها. في الوقت الذي ستتقاطع المستوطنات فيما بينها مشكلة كيانات كبيرة وقوية قادرة على الضغط على الحكومة الإسرائيلية والكنيست، للمزيد من التمدد في ظل زمن التطرف الذي أصبح يحكم العالم. وكأن المسألة مسألة وقت لا أكثر. لم يبق أمام الفلسطيني إلا الإصرار على صناعة الأمل الصعب والمكوث على أرضه. ما لاحظته من أمل في حياة تصنع في السر من خلال العمل الدائم في ظل ظروف شديدة القسوة تبين أن هذا الأخير حفظ جيدا درس 48، في ظل عالم يعيش عقدة ذنب صنعها في أربعينيات القرن الماضي، ولا علاقة للعربي بها. محافظة طولكرم منحتني يقينا أذهلني في أن الموت ليس قدرا والاستسلام ليس مآلا. لا خيار لتخطي حاضر قاس إلا بالعمل الجاد والتفكير في المستقبل بعيون مفتوحة على كل التوترات المحيطة. سمة ارتسمت بقوة في محافظة طولكرم بمختلف بلدياتها المحيطة بها، على الرغم من حائط العار الذي اقتطع الكثير من الأراضي الفلسطينية ومزق القرى والمدن المحيطة على شاكلة باقة الشرقية وباقة الغربية، حيث يمتد حائط الفصل العنصري مثل ثعبان بحثا عن مساحات أخرى لابتلاعها. ليدرك الزائر كم أن آلة الاحتلال قاسية وإجرامية أيضا، لا تفكير لها إلا بمنطق القوة والنهب والإذلال. ويصنع الظالم قبره. فهي لا تفكر لا في الإنسان، ولا في الطبيعة، ولا في منطق التقسيم والنهب إذا كان لذلك منطق، باحترام ما وقعت عليه على الأقل. أربعة رؤساء بلديات وأربع إرادات متكاملة وأحلام تصل أحيانا درجة الجنون. عندما توقفت سيارتنا القادمة من رام الله عند مصنع الحجاز، في بلدة عنبتا، برفقة الغالية أسمهان التي تركت كل شيء، وسخرت كل جهدها لمرافقتنا، كان في استقبالنا مديره السيد مناف حجاز، اندهشت أولا من الطبيعة الحية والغنية والجميلة، التي لا شيء يقلقها إلا العلامات المنتصبة هنا وهناك لاحتلال شديد القسوة، واندهشت ثانيا أن قوة هذه الأرض المجروحة التي تنشأ فيها الإرادة مثلما تكبر النباتات المقاومة على الرغم من شح المياه. عندما توغلنا في عمقه بعد القهوة العربية، لم أتوقع أن أجد مصنعا حقيقيا بتلك القيمة والمواصفات العالمية الدقيقة وتوظيف لطاقة عمالية نسائية معتبرة. في فلسطين، الإرادة ليست لغة ولكنها فعل حقيقي. تصنع المعجزة على الرغم من كل الموانع والتخوفات من عدو يتربص بكل حلم. يبدو لي أن الفلسطيني، يحتاج إلى نسيان فكرة أنه تحت آلة ظالمة، ليستمر في العيش والحلم. مواصلة العمل والإنتاج والتفكير في المستقبل، هي في حد ذاتها جرأة وشجاعة وانخراط في الحياة. غير ذلك، معناه انتصار آلة الموت. التفكير بشكل دائري لا يفضي إلا إلى مزيد من اليأس؟ هذا لا يعني مطلقا أنه تخلى عن قضيته الأساسية التي لا مستقبل كبير يقوم من دونها. مضايقات السوق والاحتلال لا يمنعان مطلقا صاحب المصنع من العمل والتخطيط الدائم. حتى الإجابة عن سؤال الصعوبات، قال: المستقبل لفلسطين ولقدراتنا الإبداعية الخلاقة. في بلدية عنبتا، استقبلنا رئيس البلدية المهندس ثابت عمر، كان جميلا ورائعا في حبه لضيوفه، الاستضافة بكأس شاي مع المرامية، كان لها طعم الاكتشاف. بانشغال وطني كبير، شرح لنا وضعية بلديته والصعوبات ووضعية الساكنة في المنطقة، والجهود التنسيقية التي يقوم بها مع أصدقائه في المحافظة. ربما كان أهمها هو محاربة اليأس والدفع إلى المبادرة وتشجيعها، لأن المعاناة المالية التي تعاني منها البلدية والسلطة نفسها، مفجعة، لا تمنح أي أفق، وهو ما يشجع الناس للذهاب نحو مشاريع صغيرة مفيدة يعملون على تطويرها. تتكفل بلدية عنبتا بالمشروعات الكبيرة والبنية التحتية، كالطرقات ومجاري المياه والمرافق الصحية، والكهرباء. الباقي ينشأ على إرادة المواطن، على الرغم من المعاناة اليومية. كل اليأس الذي قرأته في البلدان العربية الكثيرة التي زرتها التي تعيش زمن الموت المبرمج، لم أره في عيني الفلسطيني. في عز القسوة والصعوبات والاستحالات أحيانا، يجد الفلسطيني اللغة التي تضعه في أفق آخر، الرغبة القصوى في التخلص من ظلم الاحتلال وبناء وطن يقول حاضره، وجريء في التعامل مع ماضيه. واصلنا طريقنا نحو طولكرم، بعد أن انتقلت إلى سيارة أسمهان التي رأيت الكثير من الأشياء الجميلة بعينيها وحيويتها وتفاؤلها الدائم. كانت تريد أن تريني قسوة التمزقات في الأراضي الفلسطينية ولكن أيضا ما خلق الله وإرادة الناس. دخلنا طولكرم المدينة التي تشبه المدن العربية بجمالها وخطوط حزنها أيضا. كان الفطور العربي الذي يذكر بالمطبخ الفلسطيني الذي يتم نهبه من طرف الاحتلال، مثله مثل بقية المعالم الحضارية: أقراص من الجبنة البلدي، والزعتر الأخضر، في مطعم جميل ومغر بالبقاء طويلا، علي بابا. مثله مثل مطعم تنورين الذي كان مكان غذائنا. السمة العالية هي طيبة الناس ورغبتهم في الحكي وتقاسم الفرح أكثر من الألم. الألم نعيشه كما قال أحدهم، نحتاج فقط إلى بعض السعادة والإحساس بأننا لسنا وحيدين في عالم من التسلط والظلم. بعدها انتهى بنا المقام، إلى بلدية طولكرم، حيث كان في استقبالنا رئيس بلدية طولكرم، الأستاذ إياد الجلاد بنباهته وذكائه ودقة ملاحظاته، وعدد من أعضاء المجلس البلدي الذين كانت قلوبهم مفعمة بالنور والحب. وكان تكريمهم بقوة حبهم وقلوبهم الحية. في قاعة الغرفة التجارية كان اللقاء مدهشا مع القراء والمثقفين. فلسطين تعيدني دوما إلى سؤال النور: من قال إن العرب لا يقرأون؟ في السنة الماضية، في مدينة نابلس كانت الكثافة نفسها والقوة نفسها. أرى في ذلك ليس فقط فرحا جميلا، ومشتركا رائعا، ولكن أيضا أملا قادما، إذ لا قوة تقهر من يقرأ ويحلم. الوقت كان قاهرا ولكنني عدت وفي قلبي كوكبة من الأحبة والأصدقاء يشكلون اليوم جزءا مهما من حاضري وذاكرتي. استقبلتنا بعدها بلدة عتيل الجميلة التي ذكرتني بالكثير من المرتفعات الأوروبية. مزرعة الفراولة أكدت لي مرة أخرى أن لغة التحدي والحياة تصنعها الأيادي الحية، ولا شيء مستحيلا. رئيس بلدية عتيل الذي استقبلنا كان شارحا لكل ما يحدث من منجزات ومعجزات في هذه المناطق. استضافنا في حديقة النخيل حيث الدبكة الفلسطينية التي تشي بالفرح ولغة الحياة المنتصرة دوما على القبور التي غرسوها فينا. الفرح ليس مناهضا للمقاومة. ما زلت أحتفظ بكوفية الطفل الجميل الذي دبكت معه ومع الفرقة، سرقوا طفولته مبكرا لكنه يستعيدها بالفرح المتخفي في عينيه. لم أر إلا حبا وحماسا وفرحا لا يحد بهذه الزيارة. يجب أن تنتهي فكرة الاتهام بالتطبيع البغيض، التي على الرغم من نبلها في جوهرها، إلا أنها، للأسف، ترفع في كل لحظة، كسيف ديموقليس في وجه كل من يحاول أن يقاسم إخوته مرارة الوضع. ما الذي يقود كاتب وناقدة، نحو أرض هي تاريخ كبرنا عليه، سوى الإحساس المشترك بأننا نستطيع أن نفعل الحد الأدنى؟ أن نكون على الأقل قريبين في المأساة. أجمل ما حدث على مرتفعات عتيل، هي لحظة اكتشاف الدكتورة رزان إبراهيم، ابنة طولكرم، الرجل المسن الذي حكى لها عن تفاصيل تاريخ عائلتها. ظل يروي التفصيل الدقيق عن كل أهلها الذين غيب الموت والمنافي معظمهم. بدت لي في لحظة من اللحظات، طفلة صغيرة لم ترتو من الحكايات التي تتوالد في رأس الرجل فجأة ترسخ شيء فيها بالعودة. العودة إلى تربة كانت مجرد حلم أو تخييل. بالخصوص عندما زارت بيتهم القديم الذي غادره الجميع، لكن الإحساس بالمكان وأصدائه، يوقظ الحواس، بالخصوص حاسة الحياة والتاريخ. تاريخ الذين يقفون كشجر الزيتون في مواجهة عواصف الخوف والموت والإفناء التي ينتهجها الاحتلال. في المنحدرات، مررنا على رئيس بلدية باقة، الأستاذ عبدالرحيم جانم الذي قادنا برفقة رؤساء البلديات التي زرناها، نحو جدار الفصل العنصري، الذي يفصل باقة الشرقية عن باقة الغربية، قبل أن نعود إلى مدينة طولكرم ومنها إلى قرية فرعون حيث انتصر كرم إسمهان على كل تعب اليوم، لاستلام زعتر المنطقة الخاص والمميز. قبل أن نصعد رأس تلة في ضاحية أكتابا، في بيت أسمهان الجميل بحديقته التي سرقتُ منها شتلات عديدة من نبتة المرامية الساحرة. من بين كل الوجوه التي سكنتني، وجه مبهر بنوره وطفولته، وجه حبيبتي لينة التي تبنت ذاكرتي المتعبة، ورافقتني، وفي كل مرة تذكرني بحقيبتي التي أنساها هنا وهناك، وأنا في غمرة اكتشاف قلب فلسطين الحي. وعدت لينة بالعودة إلى فلسطين، ووعدتني بتسليمي غرفتها للإقامة المقبلة فيها. هذا هو القلب الفلسطيني الحي الذي يشرق المستقبل منه. يقين واحد لن ينكسر. فلسطين أكثر من وجدان. أكثر من لغة. أمل كبير، يقاوم اليأس المستشري عربيا. |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: رحلة الوجع الفلسطيني الأربعاء 03 يونيو 2015, 8:21 pm | |
| رحلة الوجع الفلسطيني (4): القدس، طريق الآلام
القدس. كلمة تكفي وحدها لتهز كياننا العميق. أحلامنا المشوشة. المثل الغربي يقول: voir Venise et mourir رؤية البندقية، والموت بعدها . في طفولتي، من كثرة ما سمعت عن القدس، استعرت المثل وعوضت المدينة: رؤية القدس والموت بعدها. لا أدري كيف صنعت لهذه المدينة الخرافية طرقات وشوارع كما اشتهيتها، وتخيلت حتى قبابها وكنائسها وناسها وممراتها. يوم كتبت روايتي عنها: أشباح القدس، لم أكن خارج هذا المتخيل الذي ظللت أحفظه، وأخاف عليه من الاندثار. المدينة فوق كونها ثقافة بكاملها وعمرانا قائما فينا، في دواخلنا، فهي ملتقى الأنبياء، وسحر الأديان، والرموز التي صاحبت الإنسان في فرحه وخوفه، والحروب الدينية أيضا، قبل العبور نحو التسامح الثقافي والديني والإنساني. لم أكن أعلم أن الأقدار الجميلة أحيانا، ستمنحني فرصة أن أقف للمرة الثانية في باحات مسجديها مثل بوذي يبحث عن لحظة سلام، وأن أغمض عيني أمام كنيسة القيامة وألمس جراحات سيدنا المسيح، لأدرك فقط كم أن الإنسان صغير أمام جبروت الماضي الذي لا يستفيد منه إلا قليلا. دخلت القدس للمرة الثانية وأنا ممتلئ بذاكرة مضت عليها سنتان، خزنتهما في قلبي وعيني مثل الذي يحفظ سرا ثمينا. بدأت العبور هذه المرة، من بابها الواسع، باب دمشق العتيق، برفقة الصديق والحبيب الغالي الفنان الشعبي الكبير والمسرحي، محبوب الأطفال والكبار، حسام أبو عيشة. هو من جعلني ذات صيف، قبل سنتين، في يوم واحد، ليس فقط أحب فقط القدس، لكن أتعرف على تفاصيلها وأهم دروبها وكنائسها ومساجدها العتيقة. أن أكتشف السحر الذي يتخفى في عيون المقدسيين حتى في لحظات آلامهم. عبرنا نحو مدينة لا تتعب حتى من أعدائها الذين لم يجلبوا وراءهم إلا الأحقاد والحروب. بعد تدحرج جميل في أحيائها العتيقة وملاحظة الوجوه التي تعبر، أو تلك التي تحس بأن لها أحقية في المكان أكثر من غيرها. كنا نصور شريطا لصالح «الجزيرة» الوثائقية، برفقة الدكتورة رزان التي كانت مكلفة من القناة بطرح أسئلة الكتابة عليّ، وكيف انجرت رواية كاملة عن مدينة لم أرها إلا في الكتب والوثائق. فوجئت بجنديين إسرائيليين مدججين ينزلان تحت الكاميرا ويتخفيان، لا أدري خوفا ممن؟ هي الحركة نفسها التي قام بها مجموعة من اليهود المرتدين لألبستهم التقليدية السوداء وقبعاتهم. مع أننا كنا نصور في الشارع ونتحدث عن كتاب «سوناتا لأشباح القدس» ولم نكن نحمل سلاحا. في النهاية لم يكونوا إلا جزءا من الديكور العام للمدينة بكل ما تحمله من غضب، ومن أسئلة قلقة في مدينة تم تقسيمها وتقطيع أوصالها في كل المراحل المتعاقبة. كم كانت ستكون عادلة وجميلة، لو ظلت القدس كما خلقت، مدينة الله بمختلف أديانه، ومساحة للتسامح. لكن لا يمكن أن نطلب من الذي سُلب حقه وسُرقت أرضه أن يكون متسامحا لدرجة التلاشي والموت؟ الكثير من الوجوه الفلسطينية التي رأيتها تقف أمام الكاميرا وتمضي، بعد أن ترفع أصبعي النصر، أو تسأل عمن نكون، أو تحتفي بنا عندما تعرف أننا عرب وضيوف، نزور فلسطين لأننا نحبها ولأننا نريد أن نقتسم معها آلامها، والحديث عنها وعن معاناتها وفضح الظالمين. أحدهم اقترب مني وهو يردد بيقين: «قل للعرب الذين نسونا، إننا ما تبقى لهم من كرامة. تركوا فلسطين تواجه قدرا حارقا هم خلقوه، وها هم بدورهم ينتهون تحت ضربات نفس القدر. ربما كنّا اليوم أفضل حال منهم». شعرت بالكلمات تخرج من قلبه ومن حشرجة صوته المبحوح. كان الرجل، من شدة مصاعب الدنيا، قد تحول إلى جسد جف من كل شيء إلا من روح حية، لم يعد لها ما تخسره إذا اشتعلت. أتساءل أحيانا: من قال إن الفلسطيني مات؟ انتهيت من تسجيلات الجزيرة وحياة القدس الضيقة، وانسحبت نحو مقهى أبو موسى، وهو أحد أصدقاء الفنان أبو عيشة الذي ينشب فيه المارة في كل لحظة، لأنه رمزهم الشعبي الذي يتكلم عن حرائقهم في مسرحه، وبلغتهم. عبرت سوق القطانين بكل طولها، ممتلئة بالعابرين كانت، كما في كل القصبات العربية. لاحظت أن الكثير من الروايات التي تباع هناك مقرصنة. سألت البائع عن ذلك. ضحك: «ومن يستطيع أن يشتري الأصلي. ثم أن الكتاب المقرصن يصل والأصلي يبقى في مكانه. من حق الفقير أيضا أن يقرأ. في نظام العبودية هل يسأل السجين عن نوع القيد الذي يمزق يديه؟ وهل يسأل الجائع عن نوعية الأكل المقدم له؟» كم تتشابه الأشياء وكم تختلف. الذي أشعل رغبتي بزيارته القدس أول مرة، ما وجدته في كتب التاريخ وأنا أكتب عن رماد القدس في 48. نفس الألوان وجدتها. نفس العطور التي اجتاحتني، حتى الروائح نفسها لمدينة قمت بتصنيعها من تفاصيل التاريخ. حتى الهندسة التي قرأتها والصور القديمة التي رأيتها في الجامعة الأمريكية، قبل سنوات، لم تختلف عن المدينة اليوم، سوى أن الأسقف العالية في الواقع، كانت حانية في روايتي. أعالي سوق القطانين التي كنت أظنها مسودة من الرطوبة والأدخنة، اكتشفت أنها أجمل بكثير مما تصورت. نفس المسالك. الباب الذي يفضي إلى المسجد الأقصى المبارك، يحمل نفس اسم السوق: باب القطانين. كان المرافقون، أبو عيشة، والدكتورة رزان وسامح، ينتظرون في مقهى أبو موسى، ويبحثون عن السبل التي تسمح لصحفي «الجزيرة» بالعبور بأجهزة التصوير. الدوريات الإسرائيلية تتحكم في مداخل ومخارج القدس الغربية، تستبيحها بفعل القوة وخارج القانون الدولي، ولا أحد يعبر باب المغاربة باتجاه القدس الشرقية أو حائط المبكى (البراق). أشعر بحزن أحيانا. لقد تنازل الفلسطيني عن حق كبير مقابل القليل من السلام، وهل كان يملك غير ذلك؟ حتى الحق القليل الذي أعطي له، ليس له في النهاية. القدس الغربية تخضع لسياسة الموت التدريجي. كل سنة تفقد مساحة وبيوتا وأنفاقا كثيرة، وفي كل سنة تحوط أيضا بمستوطنات الضغينة، وتضيق بحائط العار الذي أصبح مسلمة بعد التواطؤ الدولي الذي رفضه في البداية بشدة، قبل أن يستسلم لسلطان القوة. حتى المدينة القديمة اخترقت من الداخل وسرقت بعض معالمها، وتاريخها. شيء في القدس لا يشبه المدن الفلسطينية الأخرى. لكل طريق أو درب، هدير وصدى خفي. لكل بناية لغة، في العمران، التاريخ، التفاصيل اليومية وكتاب الأحزان. في السنة الماضية عبرت نحو القدس عن طريق معبر قلندية ورأيت عن قرب كيف يسرق من الإنسان ما تبقى من إنسانيته وحبه للآخر. كيف رمى الفلسطيني الخوف وراءه، فيشتم ويحتج بكل ما يملك من طاقة، ولا استغرب إذا كان معبر قلندية البائس هو معبر أيضا نحو الشهادة، قسوة الظلم لا تترك مسلكا آخر أمام الفلسطيني. هذه السنة كان اجتهاد العزيز سامح، مدير متحف درويش المرافق لنا، أقل صعوبة. فقد أقلّنا سفير دولة أوروبية محب لفلسطين، في سيارته الدبلوماسية التي مرت كما يمر الهواء، بلا توقف ولا تفتيش. خفف علينا ذلك وهن المعابر التي كنت أفكر في أذاها وقسوتها بالنسبة للفلسطيني وبالنسبة للزائر أيضا الذي يختار هذا المسلك المضني. أشياء كثيرة تتغير في ذهنية الإنسان المؤمن عميقا بالسلام، وهو يعبر مسالك المدينة. في كل خطوة يخطوها باتجاه القدس أو المدن الممنوعة عليه، يحتاج الفلسطيني إلى سلسلة من الإجراءات التعجيزية، وإلى حيل عديدة، ليشم تربة أو يرى أهلا. من باب القطانين عبرت نحو الأقصى. كان مدهشا في صمته وجبروته. كأن وجوده وحده يثبت بأن بلادا بكاملها ما تزال قائمة على كاهله. جلست قليلا وتأملت وجوه الناس. لا شيء يثبت أنها تخفي وراءها عواصف بلا حدود. شممت عطرا كان خليطا من الياسمين والميرامية الطرية. سرت بعدها برفقة الأصدقاء، سالكين طريق الآلام بعد أن صعدنا عبر عقبة المفتي باتجاه سوق خان الزيت، قبل أن نحط الرحال هناك في السوق لآخذ لحبيبتي علياء سلسلة ذهبية باسمها وبعطر القدس، ربما تكون فلسطين في زمانها قد تغيرت كثيرا. واشتريت خاتما لذاكرة القلب وأعراس الروح الخفية. الغريب هو أني اليوم، كلما مررت على مدينة عربية واشتريت شيئا تذكاريا منها، انتابني الإحساس الغريب كأنها المرة الأخيرة التي أراها فيها. بعدها سلكنا باب العامود باتجاه مخرج المدينة، عن طريق بابها الرئيسي، باب دمشق. ويستقر بنا المقام في دار إسعاف النشاشيبي، بيت عربي قديم أصيل من البيوتات الكبيرة. رُمم بطوابقه وحديقته الجميلة ووضع تحت تصرف النشاطات الثقافية بسبب الأمكنة الثقافية التي تعاني القدس نقصا كبيرا منها. مكتبتها الغنية حولها روادها من الشباب إلى مساحة للقراءة والسجالية. عندما دخلت إلى قاعة المحاضرات رأيت من هناك جبل الزيتون أو بعضه. أدركت لحظتها أن في فلسطين شيئا أكبر من أيادي الموت. شيئا خالدا.
واسيني الأعرج |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: رحلة الوجع الفلسطيني الأربعاء 10 يونيو 2015, 7:52 am | |
| رحلة الوجع الفلسطيني (5): القدس، مدينة لا تشبه إلا نفسها
للقدس وجه آخر يواجهنا عندما ندخلها من أحد أبوابها. عطورها، عطر الشوارع، الدروب، الألبسة، الوجوه، المحلات، الحلويات، كعك القدس الشهير، الدروب والأبواب، المساجد والكنائس. في القدس أيضا عطر القدامة والتاريخ البعيد، وملامح حاضر يشتد قسوة على مدينة السلام التي تقاوم يوميا من أجل وجودها، مقاومة الظلم والموت اليومي والانهيار والتدهور والحفر التحتي الذي يفرض على المدينة، لتدمير الأقصى الذي عبر التاريخ البشري وكأنه يراد له اليوم، بقرار الاحتلال، أن ينتهي كعلامة ليس فقط دينية ولكن أيضا رمزية لكل فلسطين التي يتم نهبها اليوم، مثلما يحدث في العالم العربي حيث اندثار الكثير من الصور الرمزية الحية لكي تتحول إلى شيء مسطح لا يحيل إلا إلى سلسلة من الحجارة. لهذا تجد القدس نفسها اليوم مجبرة على المحافظة على وجودها بالوقوف ضد عمليات المحو المستمر. فهي تواجه أمرين كبيرين: كيف تحافظ على وجودها ككيان حي، وكيف تبدع في كل ثانية وسائطها الدفاعية لتستمر في الحياة. ترفض الموت المسلط عليها من طرف المالكين للقوة اليوم. وكأن الحفر الدائم من تحت، بحثا عن هيكل سليمان، يبين أنها مدينة مقاومة لا للأديان، لأنها كلها نشأت فيها أو تمددت من خلالها ومنحت البشرية حياة جديدة وأسئلة تتعلق بالتواصل، ولكن للموت المبرمج الذي يسحب من المسلمين حقا تاريخيا وإنسانيا، إذ أن الصهيونية منذ 48 و67 وهي تحاول خلق كل الأسباب التي تمنحها حق تدمير التاريخ الوجودي لمدينة القدس، وافتراض قدس أخرى قريبة من تاريخها وانشغالاتها الأيديولوجية الصهيونية. مدينة تسرق يوميا، وتضم أراضيها وبعض أجزائها، إلى القدس الكبيرة التي تنشأ في الخفاء. مثل باب المغاربة الذي أنشأ في عمقه، سيدي أبي مدين الغوث، مقامه الصغير، سرق منذ 67، ومحيت كل العلامات التي تحيل إلى هذا التاريخ. يشدني في هذه المدينة أيضا التاريخ ولغتها السرية التي تقول كل شيء لمن أراد أن يتوغل عميقا فيها بما في ذلك الخيانات الانجليزية والعربية التي لم تعد اليوم تخفى على أحد، التي سلمت المدينة بموجبها لعصابات الشتيرن والهاغانا العسكريتين، التي هيأها الإنكليز لخوض حرب استعمارية وجودية ضد العرب، لدرجة ارتكاب أبشع الجرائم. أكبر من هذا كله، القدس مدينة تقاوم بطريقتها حالة التجفيف الثقافي المسلط عليها من الاحتلال، وهذا ما يفرض على كل عاشق لهذه المدينة أن يكون قريبا من لغتها وحاجاتها الثقافية والإنسانية. مرور أي مثقف عربي أو أجنبي عبر المدينة، في ظل الحجر الغريب باسم التطبيع، يمنح المقدسيين ثقة أكثر بأنهم ليسوا وحيدين في هذا العالم المتماوج. رأيت هذه الأحاسيس تترسم في شكل علامات من نور في عيون من التقيت بهم يومها، في ذلك المساء الربيعي الدافئ، برفقة الناقدة الدكتورة رزان إبراهيم وسامح والفنان المقدسي المميز حسام أبو عيشة، سواء في الأماكن الشعبية أو في الفضاءات الثقافية. عندما دخلنا إلى دار إسعاف النشاشيبي كان كل شيء في حالة غليان جميل من الحضور. شممت في المكان الساحر، عطر العراقة والاستمرار. دار كبيرة في شكل البيوت العربية التي استقت كل الحداثة الأوروبية بدون أن تخسر ولو ذرة واحدة من عطرها الثقافي المميز. بيت يحيل إلى عائلة منحت لفلسطين عبر التاريخ حبا ودفئا وثقافة وقافلة من شهداء الأرض والعلم. حديقة البيت تتسع للشجر والطيور والزوار وعشاق المدينة والثقافة، وقاعة محاضرات مفتوحة على المدينة تستقبل هواء جبل الزيتون ملء رئتيها، يملأها شباب منشغل بالقراءة والتفكير في حياة أجمل، ويرفض الاحتلال وثقافة التجفيف التي تفرض عليها وكأنها قدر لا يمكن تلافيه. كان البرنامج أن نبدأ بمحاضرة الدكتورة رزان إبراهيم المميزة عن روايتي السيرية: سيرة المنتهى، عشتها كما اشتهتني، في طبعتها الفلسطينية التي تكرمت بإنجازها دار الأهلية، ثم نمر إلى التوقيعات لكني فوجئت بالرغبة الجامحة للحضور بالتوقيع أولا، والتفكير بعدها في الباقي، فلم نمانع أنا والدكتورة رزان. ما زلت أكرر بلا توقف وبقناعة داخلية مترسخة: من قال إن العربي لا يقرأ، مخطئ، مهما كانت التفصيلات والحيثيات المختلفة. كان من الصعب علي أن أكتم سعادة اجتاحتني، ما يزال في عالمنا العربي المجروح وفي فلسطين تحديدا، ما يمنحنا أملا صغيرا وربما بؤرة ضوء نلتصق بها ولو تحولنا إلى فراشات تلتصق بالنار قبل أن تتحول إلى رماد. حقيقة، إن ما فاجأني بقوة، هو ذلك الجمهور الفذ والحي من القارئات والقراء. لا الحروب المتعاقبة والتي أنهكت الناس، ولا المآسي اليومية تمنع القارئ من أن يعيش لحظة إنسانية لا تفنى، من خلال فعل القراءة. القراءة ما تزال موجودة، بل تشكل نافذة للفلسطيني الذي تصطدم الكثير من أحلامه بآلة الاحتلال الإجرامية، وجدار العار والفصل العنصري الذي لم يسرق الكثير من عناصر الحياة ولكنه لم يمنع الفلسطينيين من الحلم والهرب خارج الأسوار الباردة. كانت نقاشات ما بعد المحاضرة والتي انصبت أساسا على النص ومراميه وثقافته وإنسانيته، مغرية للاستمرار في الأمسية حتى منتصف الليل لولا الوقت المحدد. كانت هناك رغبة عالية للفهم والإنصات أيضا. النقاش كان قويا وجميلا، لكن الوقت المتاح كان محدودا وقصيرا مهما طال. وقعت يومها العشرات من نسخ السيرة لكن شيئا أثارني هو أن بعض النسخ كانت مزورة، أغمضت عيني، نسيت نصائح ناشري، ووقعتها وأنا أنظر لحماس التي تحمل النص وهي لا تفكر إلا في فعل القراءة. في نهاية الأمسية، جاءني شبان كثيرون وطلبوا مني منحهم فرصة أطول لمواصلة المناقشة لأن الكثير من الأسئلة ظلت معلقة في قلوبهم. تأملتهم جيدا. رأيت تلك الرغبة المقدسة للتواصل، ترتسم في عيونهم بقوة وإصرار. كنت متعبا وأمامي عشاء مع الصديق أبو عيشة وزوجته الكريمة وأصدقاء آخرين. اتفقت مع الشباب أن نلتقي في رام الله، في النزل الذي كنت أقيم فيه، وأنا أظن في أعماقي، أن البعد سيجعلهم يستثقلون مواصلة المحاورة خارج مدينة القدس. ومشيت مع الأصدقاء المرافقين لي في الزيارة برفقة الفنان أبو عيشة نحو مطعم الزهراء، في شارع الزهراء، مقابل مؤسسة يبوس الثقافية، ليس بعيدا عن المعهد الوطني للموسيقى. وكان عشاء فلسطينيا معشقا بنسائم مدينة لن تموت أبدا. كنت منهكا عندما عدت إلى رام الله، متأكدا من أن الشباب المقدسيين يكونون قد ضربوا صفحا عن لقاء يجبرهم على التنقل ليلا نحو رام الله. وعندما هممت بالصعود نحو غرفتي رأيت الشباب المقدسيين وهم ينتظرون، عيونهم مليئة بالدهشة والفرح، مسلحين بالحب وبابتسامات لن تموت أبدا، ارتسمت أبدا في القلب والروح. استمر النقاش معهم حتى آخر الليل، كانت موضوعاته حية وحاضرة إلى أبعد الجدود: القراءة، القدس ومقاومتها بالسبل الثقافية الحية، التنظيمات الثقافية والفكرية، فعل الكتابة وقوته الحية، التحرر والنضال من سلطان ثقافة الاحتلال التيئيسية بالوسائط التي يتقنونها جيدا: الكتابة والفعل الثقافي الحي. كم كان قلبي يخفق ويندهش من تفاؤلهم الجميل والمؤسس على شيء كانوا يشعرون به بعمق، الأمر الذي جعلني أحيانا أعيد النظر في يأسي المبطن منذ سنوات، وأتذكر المقولة الكبيرة: حتى إذا لم يكن التفاؤل موجودا، علينا بابتداعه وخلقه. لم أشعر بالتعب إلا عندما تمددت على سريري أخيرا، وبدأت أستعيد تفاصيل يوم لم يكن كبقية الأيام الأخرى، في مدينة لا تشبه إلا نفسها. واسيني الاعرج |
|
| |
ibrahemshanti مشرف
عدد المساهمات : 19 تاريخ التسجيل : 16/06/2014
| موضوع: رد: رحلة الوجع الفلسطيني الأربعاء 17 يونيو 2015, 11:28 pm | |
| رحلة الوجع الفلسطيني (6): العودة إلى رام الله (1) واسيني الأعرج JUNE 16, 2015
رام الله كانت هي محطة العود الدائم، بعد كل خروج في الأراضي الفلسطينية، الخليل، بيت لحم، طول كرم، القدس. تمنحك هذه المدينة بعض الإحساس، ولو لوهلة خفيفة، بأن الدنيا ما تزال ببعض الخير، وأن ما كنا نؤمن به ما يزال حيا. مدينة نظيفة وحية وغارقة في شأنها اليومي. تشرق وتغيب فيها الشمس بشكل شبه طبيعي، لدرجة أن ينتفي الاحتلال لولا المستوطنات والحواجز المحيطة بالمدينة، التي تعيدك إلى طبيعة الاحتلال. رام الله زرتها أول مرة في حزيران/ يونيو 2013. كانت يومها الرحلة فيها الكثير من الدهشة الطفولية والأسئلة الغريبة والحيرة أيضا. تساءلت مثل طفل مقدم على شيء يشبه المعصية، كيف سيكون موقفي عند جسر الحسين، وبالخصوص الجهة الثانية، جسر أللنبي، وأنا أواجه العسكري الإسرائيلي الذي لم أره في حياتي عن قرب، إلا على قنوات الشاشات العالمية والعربية، وهو يطلق النار على الفلسطيني أو على الجمعيات العالمية المناهضة للاحتلال التي تزور فلسطين تضامنا، أو وهو يحمي الجرافات التي تهدم المساكن الفلسطينية أو وهو يقوص بالرصاص الحي طفلا لا يملك إلا الحجارة. وهو يدمر كل إمكانية للتواصل والبحث عن سلام افتراضي أو حقيقي، حتى في ظل اتفاقيات أوسلو التي لم يبق منها الكثير. كان عليّ أن أتحمل هذه القسوة، بعد أن رفضت يومها السفر عن طريق مطار بن غوريون، في تل أبيب. استغرب وقتها من ساهم في دعوتي، هذا الخيار، لأن الرحلة عن طريق الجسر ستكون حتما قاسية، وفيها الكثير من المنغصات، أقلها الانتظار الطويل مهما كانت درجة التنسيق بين الفلسطينيين وسلطات الاحتلال لتسهيل هذه الزيارة. ذكرته بأن الرحلة ثقافية وهي باتجاه فلسطين والضفة الغربية حيث دولة فلسطين، كيفما كانت هذه الدولة ورأيي فيها. وأنا سأزور فلسطين بدعوة من متحف درويش، لكنها أيضا رحلة وجودية، ولا أعرف إذا كان سيكتب لي بعدها زيارة فلسطين مرة أخرى. سأضغط على قلبي وكل حواسي، وأصبر على الظلم، مقابل العبور نحو تربة صنعت ذاكرتي وطفولتي. سأغمض عيني عن كل شيء مقابل أن أقبل حجارة القدس وأشم تربتها، وأحضن شوارعها ودروبها القديمة، وأمسح على وجوه العابرين المتشققة والمقاومة، وأتنفس رائحة خبزها وتاريخها. لم يفهمني جيدا محاوري يومها، ولم يفهمني لاحقا، لماذا اخترت العبور نحو القدس عن طريق معبر قلندية، مع أن هناك مداخل أريح. يومها أدركت بيقين المحب للسلام والخير لكل الشعوب، كم أن السلام يذبح في كل ثانية عند تلك المعابر، وكم أن الفلسطيني الذي عليه أن يتخطى حائط جهنم للذهاب نحو أرضه أو أهله ربى ردة فعل لا يفهمها إلا من رأى مشاهد الإذلال وقسوة اليومي. يحب الحياة بكل قواه، ولكن في الوقت نفسه أصبحت ما فارقة معه في ظل محنة الاحتلال والظلم. عندما يُهان في المعبر، يصرخ، يمزق الحجارة والحديد، ويشتم ولا يحسب لأية ردة فعل قد تودي بحياته. الكثير من الحوادث وقعت في ذلك المعبر الفولاذي الذي عندما سلكته، شممت فيه رائحة الأبارتيد، بالضبط كما كانت في أفريقيا الجنوبية. من وراء البوابة الحديدية الدوارة شعرت بأن شرطية الحيوان كانت أفضل بقليل. له على الأقل حق الصراخ والنط، بينما تحصرك البوابة قبل أن تقذف بك في فراغ يشبه الحشر، ترى فيه كل المظالم. كان من الصعب علي أن لا أتساءل: هل هذه ممارسات سلام؟ أم دفع نحو تطرف يبقى في النهاية هو المسلك العدمي الوحيد؟ أتذكر أني وزوجتي الشاعرة الدكتورة زينب الأعوج، يومها عندما دخلنا إلى رام الله لم نصدق أننا في فلسطين إلا عندما وقفنا نترحم على درويش في حديقة البروة في المتحف، وعلى قبر ياسر عرفات أو ونحن نجلس في ضيافة الرئيس محمود عباس في الرئاسة. أصبت بعدها بدهشة الفرح الكبير، جعلتني أكتم شيئا في داخلي يشبه البكاء أو العويل، عندما وقفت أمام الأصدقاء والقراء الشابات والشباب، الذين لم يعرفوني إلا من خلال رواياتي. فأنا هنا في النهاية للقاء بهم. كان المدرج الصيفي لمتحف درويش غاصا بالجمهور، أعاد لي ولغيري، الثقة بأن الأدب لا سياج ينهكه ولا حيطان تمنعه من العبور. لدرجة أن قالت الصحافة الفلسطينية يومها: منذ عشرين عاما لم يشاهد هذا الكم والنوعية من المثقفين جلهم جاؤوا ليستمعوا لمحاضرة ثقافية أو توقيع كتاب، أو ما قاله الروائي الكبير الغالي يحيى يخلف في تغريدته بجريدة «الحياة الجديدة» ليوم الأحد 23 حزيران/يونيو 2013: حدث ثقافي إذ اكتظ المسرح الصيفي في حديقة البروة، حديقة محمود درويش الثقافي، بجمهور شاب من طلاب الجامعات، في يوم، بل ساعات يتجمهر فيها الشباب في الساحات والميادين استعدادا للاحتفال باليوم الأخير من برنامج آراب آيدل تضامنا وتشجيعا للتصويت لمرشح فلسطين محمد عساف. هذا دلني على أنه في فلسطين شيء لن يموت أبدا اسمه الاستمرار في عز الموت والإفناء المبرمج.عندما بدأت الأمسية التي نشطها الأكاديمي القدير الدكتور إيهاب بسيسو، رأيت من بين الجمهور وجوها أعرفها لأصدقاء في القلب جمعتنا الشام أحيانا أو الجزائر أو بيروت أو المهاجر الأوروبية والأمريكية القاسية. وعلى الرغم من أن النشاط كان منقولا على المباشر إلا أن الجمهور بقي حتى الليل وانتظر انتهاء اللقاء والمناقشة وتوقيع الروايات التي كان للطبعة الفلسطينية لمملكة الفراشة التي قامت بها المكتبة الشعبية، وجهود الأحبة من عائلة خندقجي من الأب إلى العم إلى العزيزين نضال ويوسف، كان لها الحظ الأوفر. وعلى الرغم من سهرة عساف في برنامج أراب أيدل ليلتها إلا أن الجمهور أصرّ على البقاء، مع أن تخوف مدير المتحف سامح خضر، كان مبررا، لأن محمد عساف كان ليلتها أكثر من مغن فلسطيني، فقد شكل بسرعة حالة وطنية، جمّع الفلسطينيين كلهم من غزة إلى رام الله بلا ضوابط سياسية ولا مسبقات أيديولوجية. كنت سعيدا ليلتها ربما كانت تلك واحدة من أجمل سعادات العمر. أو كما قال يحيى يخلف في نفس تغريدته يومها: كم كانوا رائعين حين انتهت الأمسية في التاسعة موعد برنامج آراب أيدل دون أن ينسحب أي منهم. فقد اصطفوا في طابور طويل ليحصلوا على توقيع الكاتب… فوجئت بحضور شبابي قادم من جامعات القدس وبيت لحم وبيرزيت والخليل … كنت سعيدا بأن انطلاق مملكة الفراشة بدأ من هناك، من أرض القلب. كان عطر الكتاب هو أولى وسائل الحب وأيضا رهانا من رهانات المقاومة التي تصنع ذاكرة إنسانية لا تموت ولا تفنى أبدا. ما زلت على يقين بأننا عندما نحب، ينطفئ كل شيء من حولنا ولا يبقى إلا النور الذي يلفنا بقوة. تلك هي ذاكرة رام اللـــــه الأولى، في ذلك المســـاء الذي ختمناه في بيت الصديقين ياسر عبد ربه، والروائية ليانة بدر، نحتفي مثل الأطفال بفوز محمد عساف بجائزة محبوب العرب أو آراب أيدل. أصبح اليوم كل ذلك بعيدا في غمرة التحولات الحياتية والعربية المتسارعة، لكن تفاصيله في الذاكرة حية بقوة، بجمال الاكتشاف وقسوة اليومي الذي رأيته وعشته. أن تقرأ عن شعب شيء مهم، بل أهم من النسيان وكأن هذا الشعب غير موجود، أن تعيشه في يومياته ولو لفترة وجيزة فذلك شيء آخر. أن ترى العيون كيف ترف بخجل، أن ترى علامات اليأس وهي ترتسم على الوجوه، أن ترى ذات صباح الملامح وهي تشرق لفرح مهما كان صغيرا، أن تسمع لغة هي ليست كاللغات، يخترق كل ما وضعته الكتب بين أيدينا ويجعله صغيرا إلى أقصى الحدود، فذلك أيضا شيء آخر. تلك رام الله التي رأيت لأول مرة، أما رام الله التي رأيت ثانية، لم تتغير كثيرا سوى أني رأيتها أكثر حزنا من المرة الأولى على الرغم من جمهور قرائها الذي عبر المسافات والمصاعب ليكون حاضرا في الأمسية. لكن بعض الوجوه المعــــروفة التي رأيتها في المرة الأولى غابت هذه المرة. وتلك التي لم أرها كانت حاضرة بعنفــــوانها. لم أسأل عن الأسباب، لكني شعرت بخوف ما لم أتبين مصدره إلا عندما عــــدت إلى باريس، مكان إقامتي. تلك هي أولى عــــلامات رام الله الثانية التي رأيت.
واسيني الأعرج |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: رحلة الوجع الفلسطيني الأربعاء 24 يونيو 2015, 10:43 am | |
| الجملة التي قادتني إلى نابلس واسيني الأعرج JUNE 23, 2015
تلك رام الله التي رأيت لأول مرة، كان فيها الكثير من الفرح، لكن في اليوم الموالي سافرت نحو مدينة نابلس في 24 حزيران 2013، مدينة التاريخ والمقاومة. كل شيء بدأ بلقاء في باريس مع نضال خندقجي في 25 أيار 2012، تمت برمجته من فلسطين إذ كان صديقا لي على الفيسبوك قبل أن يصبح المشرف الرئيسي على صفحة فتحها خصيصا لأعمالي يرتادها اليوم قرابة 300 ألف صديق. عندما التقينا أول مرة وهو برفقة منظمة زيارته والوفد الفلسطيني إلى فرنسا، اكتشفت شابا فلسطينيا جميلا، متحمسا لأرضه وشعبه. وأمام الناس جميعا، في أحد مقاهي باريس، قام من مكانه ووضع الكوفية الفلسطينية على عنقي التي أشعرتني بدفء كبير، وهو يقول: قراؤك في فلسطين ينتظرونك، قرأوك بحب كبير. لكني لم أكن أعرف أن جملة خرجت بعفوية من فم شاب ألتقي به لأول مرة، ستقودني نحو مدينته ذات صيف. هو قال كلمته ومضى، لكنها وجدت صدى غريبا فيّ، أنا المضاد لتزكية غطرسة إسرائيل. وكأن الصدفة استمعت لقلبي إذ أول ما وصلتني دعوة متحف درويش، لم يكن سامح، مدير المتحف، في حاجة كبيرة لإقناعي. أجبته نعم سآتي، كيفما كانت نتائج هذه الزيارة. تلك الأرض قطعة من لحمي أيضا، أنا الذي عرف ما معنى أن تفقد أبا في حرب استعمارية ضروس خلفت وراءها قرابة المليوني شهيدا. أول ما خطوت أولى خطواتي في فلسطين، كانت زيارة نابلس جزءا من برنامجي الذهني. ربما أفسدت قليلا نظام الصديق مدير المتحف، لكنه كان كبيرا في استجابته، ورافقني هو والكاتبة العزيزة الغالية الروائية ليانة بدر، التي كانت دليلنا الصدوق، أنا وزوجتي الشاعرة الدكتورة زينب الأعوج، في رام الله، ورسمت لنا أيضا خارطة نابلس ثقافيا ومقاومة الاحتلال. دخلنا إلى نابلس صباح 24 حزيران 2013. كان الجو يومها ساخنا، لكنه لم يكن قاسيا، أو على الأقل، كان ذلك إحساسي. بعد زيارة المكتبة الشعبية والتعرف على طاقمها الإداري، بالخصوص نضال ويوسف والوالد صلاح أبو باسم، انتقلنا إلى زيارة الطائفة السامرية في جبل جرزيم الذي يحضن مدينة نابلس ويحميها من العواصف والرياح، وقد ذكر في التوراة. الزيارة كانت بالنسبة لي اكتشافا كبيرا. اكتشاف عالم الأقلية السامرية الفلسطينية، والفخورة بفلسطينيتها التاريخية وانتماءاتها الثقافية، واللقاء مع كاهنهم المثقف والعلامة الموسوعي حسني واصف السامري، صاحب كتاب «التيه الإسرائيلي في شبه جزيرة سيناء» الذي وصف فيه تاريخ تيه بني إسرائيل، وفق الرواية السامرية للتوراة، التي تضم كتب موسى الخمسة ولا تتعداها إلى الأسفار 24 كما هو الحال في التوراة اليهودية. زار بنا المتحف السامري، وشرح تاريخ السامريين، وأرانا توراتهم الخاص المحفوظ بإحكام. كان الغذاء بعدها في بيت عائلة خندقجي الكريمة، حيث تعرفت على المطبخ الفلسطيني الأصيل، الذي يسرق الاحتلال اليوم الكثير من خصوصياته، مثله مثل بقية القيم التاريخية والفولكلورية. التراث جزء حي من هوية الأمة، بل يصنع جزءا من ذاكرتها وحاضرها. طبعا الكنافة النابلسية كانت سيدة طاولة الأكل. يومها أبدعت أم باسم، في كل شيء حفظها الله وأبقاها. أعرف المطبخ الشامي جيدا، لكن لفلسطين أيضا خصوصيتها في الطعام وتنويعاتها. قرأت بعدها الرسالة التي بعثها لي الحبيب الغالي الأسير المحكوم عليه بالمؤبد، الشاعر والروائي باسم خندقجي. رسالة مليئة بالشجن، لكن أيضا مليئة بأمل الحياة وانتصار الخير على قوى الشر. وأنا أسير نحو المكتبة الشعبية للقاء بجمهور القراء، كانت وما تزال جمل باسم القوية بين عيني كأنها علامات من نور. المكتبة الشعبية هي التي تولت طبع «مملكة الفراشة» طبعة خاصة بفلسطين، جميع حقوقها خصصت لدعم الحركة الأدبية داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي. دهشتي إلى اليوم لا أستطيع توصيفها بدقة هي بين المكتشف لنفسه ولصورته عند الآخرين أيضا. كان الشباب الفلسطيني من القراء، كبيرا لدرجة أن المكتبة لم تستطع استيعاب إلا جزءا يسيرا منه، وفدوا من مدن فلسطينية كثيرة. جاءوا من أجل كتاب أعطوه معنى، هو «مملكة الفراشة» التي ولدت يومها تحت نجمة الحظ الذي تبعها حتى فازت هذه السنة بجائزة «كتارا» للرواية العربية، ومشروع تحويلها إلى عمل درامي. وربما جاءوا أيضا يومها للاستماع إلى كاتب عربي اختار أن يكون من بينهم متخطيا حاجز خوف تهمة التطبيع التي لا معنى لها على الأراضي الفلسطينية، يسمع ويتبادل معهم الأفكار حتى الشائكة منها. الازدحام داخل المكتبة كان قويا، ودرجة الحرارة عالية جدا، من الصعب تحملها، ومع ذلك اندهشت زينب وهي تناولني كأس ماء: راكْ مليح؟ نعم كنت في أسعد حال. حقيقة لم أشعر إلا بتلك الوجوه المشرقة إيمانا بأن شيئا جميلا كان يملأنا جميعا. لاحظت أن بعض رواياتي في المكتبة كانت غير أصلية، تأتي من عمان كما سمعت. وسط هذا الحصار الأعمى، من حق الفلسطيني أن يقرأ أيضا في ظل حصار أعمى. لم تكن هناك أية قوة قادرة على أن تنغص علي لقائي مع قارئ يجوع من أجل كتاب، في أجواء فلسطينية، لم أكن أعلم أنها ستتكرر بعد سنتين. دهشتي كما دهشة غيري من مثقفي المدينة كانت كبيرة، من هذا الجمهور الذي يمنح أملا كبيرا في الخير. سعدت بعد سنتين أيضا أن رواية «مملكة الفراشة» ساهمت، بفضل مبيعاتها وطبعاتها العشر، في طباعة أربعة كتب من نصوص الأدباء الأسرى. تسرب الوقت يومها بسرعة كبيرة. البرنامج واسع والساعات المتبقية كانت تضيق. وكان لا بد من الانتقال إلى البلدية للإطلاق الرسمي لرواية «مملكة الفراشة» في نشاط مشترك بين المكتبة الشعبية ومكتبة البلدية. في الطريق زرنا بعض معالم المدينة برفقة الناقد الكبير الدكتور عادل الأسطة، الأستاذ في جامعة النجاح في نابلس، فهو سيد العارفين الذي خبر مدينته وتاريخها وثقافتها جيدا. كشف لي عن مدينة أخرى تنام تفاصيلها الجميلة وتاريخها وراء الحيطان المرئية. المدينة القديمة التي بقيت راسخة في ذاكرتي بشموخها الكبير، التي لم تستطع غطرسة الاحتلال من طمس صرختها من خلال أمكنة استشهد فيها الكثير من الشباب الفلسطيني وهم يدافعون عن أرضهم، في انتفاضاتهم المتعاقبة ضد الجبروت والظلم. البلدية كانت تنوي تنظيم الأمسية في المكتبة، ولكنها اضطرت إلى نقلها إلى الحديقة العامة الواسعة التابعة للبلدية، بسبب كثافة الجمهور. كان الجمهور متعددا من مثقفين وجامعيين وإداريين، ومحبي الكتاب من كل الأعمال والمهن، وإن سيطرت فئة الشباب على الحضور، والفتيات على وجه التحديد. كان المستوى السجالي مهما وعالي القيمة، قاد الجلسة يومها بإحكام ودربة أستاذنا الكبير الدكتور عادل الأسطة، إذ كان حكيما في تدبير الأمور بالخصوص الرغبة الملحة والمبررة لكل واحد من الحاضرين في التدخل والشرح. وقد كتب عن ذلك مقالة في غاية التوصيف والجمال لتلك الأمسية. انتهى اللقاء بتكريم نبيل من جهات متعددة من سعادة رئيس البلدية غسان الشكعة، ومن تنظيمات سياسية مناضلة كثيرة في المدينة، كانت عربون محبة كبيرة ووساما تشريفيا أحتفظ به في القلب. اضطررنا بعدها إلى المغادرة قبل غلق المعابر الموصلة إلى رام الله، وحزنت جدا لأني لم أستجب لكل الرغبات الصادقة التي كانت كبيرة وبينت مرة أخرى أننا أمة تقرأ على الرغم من الصعوبات والمعضلات الحياتية التي جعلت من الكتاب العربي كمالية من الكماليات، وهو ما لم ألحظه أبدا في فلسطين. لولا إكراهات الظروف الأمنية، لما توقفت عن التوقيعات في حديقة البلدية. كان الليل وطريق رام الله شبه خال إلا من الإنارات الكثيفة واللامعة للمستوطنات التي تجرح في العمق الأراضي الفلسطينية، وهي الأكثر ظهورا من البلدات الفلسطينية التي ينام أغلبها داخل الظلام أو إنارات خجولة. ربما كان خوفي الذي عدت به في أول زيارة والثانية أيضا، أن تحول هذه المستوطنات الأراضي الفلسطينية إلى كانتونات معزولة عن بعضها البعض، لكل واحدة شأنها ومصيرها الذي تصنعه في عزلة تامة عن البلدات والمدن الفلسطينية الأخرى. وصلنا عند مدخل رام الله، كان جيش الاحتلال الإسرائيلي يستعد لغلق المعبر المؤدي إلى عمق المدينة، مما كان سيجبرنا على الالتجاء إلى مسالك شديدة الصعوبة. كان القمر يرتسم في السماء، مررنا بخير نحو رام الله التي كانت ما تزال منتشية في فرحة اكتشاف ابنها محمد عسّاف المغني صاحب علّ الكوفية. قلت لسامح: الاهتمام جميل، يوفر راحة الاعتراف بالجميل، لأن وراء محمد فلسطين كلها، وليس غزة وحدها فقط، فقد وحّدها بصوته، ومنحها فرحا استثنائيا في عز الآلام وحرب غير عادلة وغير متوازنة. رهان الفلسطينيين أيضا أن يحفظوه من أن تسرق التجارة ومؤسسات الغواية المالية موهبته العالية ويصبح عاديا. في المرة الأخيرة عندما طرحت على مدير المتحف، سامح خضر، نفس السؤال، ونحن عائدون من القدس باتجاه رام الله: ضحك فقط، ولم يضف شيئا. عرفت أن رام الله هذه المرة لم تكن كما في المرة الماضية. كانت تشبه قليلا حيرة محمد عساف.
واسيني الأعرج |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: رحلة الوجع الفلسطيني الأربعاء 05 يوليو 2017, 11:28 am | |
| من أجل تجاوز المأزق الفلسطيني
محسن ابورمضان تعاني الحركة الوطنية الفلسطينية من مأزق عميق بسبب عدم قدرتها على تحقيق أهداف شعبنا ذات الاجماع الوطني " الدولة وتقرير المصير والعودة " واستمرار تقدم المشروع الصهيوني من خلال فرض منظومة من المعازل والبانتوستانات والقيام بآليات من التجزئة والتقسيم بحق الشعب والارض والهوية . لقد اصبحت فرص قيام الدولة المستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 67 محدودة للغاية إن لم نقل معدومة وخاصة أمام تصاعد خطاب وسياسات اليمين المتطرف الحاكم في دولة الاحتلال وكذلك بسبب الدعم اللامحدود من قبل الإدارات الامريكية وخاصة الإدارة الجديدة التي يرأسها ترامب . لقد بات واضحاً ان الصفقة الكبرى او التاريخية بالوقت الذي تركز على تطبيع العلاقات الرسمية العربية والاسرائيلية عبر محاولة اسرائيل قلب مضمون المبادرة العربية بحيث لا تتضمن والحالة هذه تحقيق حق تقرير المصير لشعبنا بدليل التأكيد من قبل الإدارة الامريكية على ان الاستيطان لا يشكل عقبة امام طريق المفاوضات والسلام وكذلك عدم اتخاذ أية اجراءات من قبلها تجاه الممارسات الاحتلالية التي تنتهك مبادئ حقوق الانسان من خلال سياسة الاستيطان ومصادرة الاراضي وتهويد القدس وغيرها من الممارسات الاحتلالية والعنصرية . لقد ساهم الانقسام بتعميق المأزق الوطني الفلسطيني من خلال تقويض المؤسسات التمثيلية الجامعة سواءً تلك التابعة للسلطة مثل المجلس التشريعي " أو المنظمة مثل " المجلس الوطني ". كما لعب دوراً في تبديد مقومات الهوية الوطنية الجامعة وعزز من النزعات الجهوية والمناطقية والفردية وصب في مصلحة اسرائيل من حيث قطع التواصل وصولاً لإنهاء الامكانيات الموضوعية لإقامة الدولة المترابطة التي تضم كل من الضفة والقطاع على حدود الرابع من حزيران عام 67 . لقد ابرزت مواقف ومطالب كل من المبعوثين الأمريكيين كوشنير و غرندبلات مدى التبنى الواضح من قبل الإدارة الامريكية لمطالب نتنياهو من حيث التركيز على وقف التمويل للمعتقلين والجرحى واسر الشهداء ، كحلقة في سلسلة مطالب ترمي إلى تغير معالم الهوية الوطنية والثقافية الفلسطينية من خلال تغيير المناهج التعليمية واسماء الشوارع والميادين التي تحمل اسماء وشهداء وقادة فلسطينيين كما حدث مؤخراً عبر قيام قوات الاحتلال بإزالة النصب التذكاري للشهيد خالد نزال في جنين ، وذلك بهدف تغيير الوعي الوطني والجمعي الفلسطيني ، والتنكر للرواية والتاريخ الفلسطيني وصولاً لفرض شروط الهزيمة الثقافية والفكرية بعد ان استطاعت اسرائيل فرض وقائع استيطانية واحتلالية ومادية ، فهي تريد تتويج ذلك بالإنجازات المعنوية والثقافية لإفراغ الوعي الوطني الفلسطيني من مضمونه التحرري والكفاحي . من الواضح ان دولة الاحتلال تستغل ابشع استغلال صعود ترامب رئيساً للإدارة الامريكية المليئة بالموظفين المنتمين للفكر اليميني من خلال محاولة التأثير بالرأي العام العالمي مثل الامم المتحدة ومرافقها وكذلك الضغط على بلدان اوروبا لوقف التمويل للمنظمات الأهلية المؤمنة بتكتيك المقاطعة والتي اعتبرتها اسرائيل بأنها تشكل خطراً استراتيجياً على وجودها. في ظل تصاعد الانجازات الصهيونية مادياً ومعنوياً رغم انها ما زالت تواجهه بقوى سياسية واجتماعية وثقافية ونقابية في بلدان اوروبا وامريكا وغيرها من بلدان العالم رافضة لسياستها ولآليات التمييز العنصري والاستيطاني الممارس بحق شعبنا ، وفي ظل انسداد افق حل الدولتين اصبحت الاولوية امام شعبنا تكمن في توفير مقومات الصمود على الارض الأمر الذي يتطلب اعادة تشكيل الحركة الوطنية والنظام السياسي على قاعدة وطنية وحدوية وديمقراطية . لقد اثبتت التجربة صعوبة التوافق ما بين الحكم والمقاومة ،حيث تصبح الاولى اولوية بما يترتب عليها من ضرورات واستحقاقات تتطلب اجراء تكتيكات تؤمن وتصون الحكم . كما اثبت التجربة بالمقابل ان اسرائيل لن تعطى الفلسطينيين اكثر من حكم إداري ذاتي محدود للسكان وليس للأرض ، عبر زج التجمعات السكانية في اضيق مساحة ممكنة منها ، وتعزيز الإدارات المحلية من خلال اموال المانحين والمقاصة إلى جانب وظيفة التنسيق الأمني . إن تحقيق وحدة النظام " المنظمة والسلطة " تتطلب تعزيز الوعي الجمعي بعدم جدوى البحث عن الخيارات الفردية في كل من غزة والضفة مع مشروعية العمل كل في منطقة لتحسين شروط حياة المواطنين تعزيزاً لمقومات صمودهم . فمن حق قطاع غزة البحث عن آليات ووسائل لحل مشاكل الفقر والبطالة والكهرباء والمياه والحركة للبضائع والافراد بعد حصار طويل ومديد وعمليات عسكرية عدوانية واسعة بحقه ، وذلك في اطار وحدة المشروع الوطني . لقد بات من الضروري السعي للاتفاق على برنامج سياسي مشترك شكلت وثيقة الاسرى قاعدة اساس له بالإضافة إلى اعادة بناء واصلاح هياكل واطر السلطة والمنظمة عبر الانتخابات والشراكة السياسية وتحقيق التعددية السياسية بعيداً عن الهيمنة والاقصاء ، وذلك تجاوزاً لحالة الانقسام الراهنة. إن تحقيق الاهداف الوحدوية والديمقراطية للنظام السياسي يتطلب توفير قوة ضغط مستقلة عن الحزبين الرئيسيين الحاكمين في كل من الضفة " فتح " وغزة " حماس " من أجل انهاء الانقسام واختطاط منهج وتيار وطني وديمقراطي ثالث قادر ان يشكل حالة ضاغطة على الحزبين الرئيسيين اضافة إلى تعزيز تميزه على المستوى السياسي والفكري بما يحقق الترابط ما بين البعد الوطني والاجتماعي والديمقراطي والحقوقي . |
|
| |
| رحلة الوجع الفلسطيني | |
|