عجز الإسرائيليين والفلسطينيين عن التّوصل لسلامٍ من تلقاء أنفسهم...بقلم: د. ألون بن مئير
لقد استحال المأزق المستمر ما بين إسرائيل والفلسطينيين في مفاوضات السلام وديناميتها السياسية المتغيّرة على الطرفين حلّ الصراع من تلقاء أنفسهم. وتركهم وشأنهم لم يعد خياراً حيوياً حيث أن استمرار الصراع الخطير واحتمال انفجاره وارد. استئناف مفاوضات السلام الثنائية مع وساطة أميركية وحدها لن تنجح بعد اليوم ما وراء مساعي إدارة أوباما السابقة. والفكرة العائمة بأنّ فرنسا قد تعرض على مجلس الأمن الدولي قراراً يجبر كلا الطرفين استئناف المفاوضات بدعم من الولايات المتحدة ستكون ضرورية لكسر الجمود.
إسرائيل: لقد جعلت الشعبية المتزايدة بشكلٍ مطَّرد للأحزاب يمين الوسط في إسرائيل من المستحيل تقريباً ـ لأسبابٍ عقائدية ودينية ـ لأية حكومة يمينية التفاوض على اتفاقية سلام، الأمر الذي يتطلّب تنازلات هامة غير مستعدة هذه الحكومات للقيام بها.
قد يتكلّم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أو أي إيديولوجي يميني آخر عن حلّ الدولتين لاسترضاء المجتمع الدولي والوسط السياسي في إسرائيل، غير أنه ليس لديهم النيّة للدخول في مفاوضات سلامٍ جدّية ومباشرة مع الفلسطينيين قد تؤدي لحلّ الدولتين. وبالفعل، إذا قرّر نتنياهو التفاوض والقيام بتنازلات معيّنة قد تؤدي لقيام دولة فلسطينية، فإن حكومة ائتلافه ستنهار فوراً. فالعديد من أعضاء حزبه سيتخلّوا عن الحكومة، وبالتأكيد منهم حزب البيت اليهودي اليميني المتطرف بزعامة نفتالي بينيت الذي لن يوافق بأي حالٍ من الأحوال على إقامة دولة فلسطينية وإنهاء الاحتلال.
ولو افترضنا بأنه ستُعقد انتخابات جديدة في إسرائيل وقامت أحزاب الوسط ويسار الوسط بتشكيل حكومة ائتلافية جديدة، فلن يكون مثل هذا الإئتلاف قادراً على توقيع اتفاقية سلام بدون دعم أحد الأحزاب الدينية وأعضاء معتدلين في الليكود.
ومن المهم جداً الملاحظة بأن حكومات إسرائيلية متعاقبة من إجمالي الطيف السياسي كانت مدينة لفضل حركة الاستيطان، وهو أمر راسخ تماماً في كلّ أقسام الحكومة ويمارس تأثيراً هائلاً على المؤسسة العسكرية أيضاً. وعليه لن تستطيع أية حكومة إسرائيلية، مهما كان اتجاهها السياسي، أن تقوم بالتنازلات اللازمة، خصوصاً فيما يتعلّق بالقدس وحسم مسألة المستوطنات.
ومما يزيد من تعقيد الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي هو النظام السياسي في إسرائيل الذي يشجّع ضمناً ميلاد أحزاب جديدة كلّ مرّة تجري فيها انتخابات، وذلك نظراً للعتبة البرلمانية المنخفضة وهي فقط 3.25% التي تؤهل انتخاب عضو أو أكثر للبرلمان الإسرائيلي "الكنيست".
لم يتمكّن منذ قيام دولة إسرائيل أي حزب سياسي من الحصول على أغلبية الأصوات لتشكيل حكومة من تلقاء نفسه. ونتيجة لذلك، فإن الحزب الذي يحصل على أغلبية نسبية يقوم في النهاية بتشكيل حكومة ائتلافية تضم عدّة أحزاب. وتشكيل مثل هذه الحكومة الإئتلافية غالباً ما ينتهي أمره بالإتفاق على أصغر قاسم مشترك بخصوص العديد من القضايا الحيويّة، وبالأخصّ فيما يتعلّق بالصراع الفلسطيني.
وبالنظر إلى مستوى هذا الخلل الوظيفي السياسي في إسرائيل، لا غرابة في أنّ حتى أحزاب اليسار والوسط كانت دوماً عاجزة عن تشكيل حكومة يكون فيها التوافق كاملاً حول عملية السلام ونتائجها المرجوّة.
أضف إلى ذلك، عندما قامت في الماضي أحزاب اليمين والوسط بتشكيل حكومة ائتلافية، فقد أخفقت هذه الحكومة في التّوصل لاتفاقية سلام. مثالاً على ذلك، تمّت إعاقة تسيبي ليفني، زعيمة "حزب الحركة" الوسط التي عُيّنت وزيرة للعدل وكبيرة المفاوضين في ظلّ حكومة نتنياهو السابقة في عام 2013، من القيام بأية تنازلات حيث أن نتنياهو اختار مستشاره الخاصّ، إسحق مولخو، لمراقبة المفاوضات وضمان بألاّ تقوم ليفني بأية تنازلات جوهرية دون موافقة نتنياهو المسبقة على ذلك.
الفلسطينيون: إنّ أغلبية الفلسطينيين العاديين قد أُحبطوا وأصابهم الملل من الوضع القائم ويسعون لإنهاء الإحتلال، غير أن زعامتهم (السلطة الفلسطينية وحماس) قد فشلت حتى الآن في الإتفاق على أرضية مشتركة للتوصل لاتفاقية سلام مع إسرائيل.
وبالرغم من أنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد أظهر اهتماماً حقيقياً في التّوصل إلى اتفاقية سلام، ونبذ العنف وألزم نفسه بإنهاء الصراع بالبحث عن حلّ سياسي، لم يكن قادراً لعدة أسباب على القيام بأية تنازلات جوهريّة بدون ربطها بحلّ قضايا أخرى متنازع عليها.
أولاً، كان عباس يتفاوض من موقف ضعف. ولكي يقوّي موقفه، طلب أن تقوم إسرائيل أولاً بإيماءة مهمة مثل تعليق توسيع المستوطنات وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، الأمر الذي رفضته إسرائيل بشكل عام.
ثانياً، كان هناك وما زال خلافاً حاداً ما بين السلطة الفلسطينية وحماس لعدم إتفاقهما على كيفيّة العمليّة السلميّة.
ثالثاً، ما زالت حماس مستمرة في الدعوة لتدمير إسرائيل وترفض نبذ العنف كأداة للتّوصل لأهدافها السياسية، وهذا لا ينسجم مع مع موقف السلطة الفلسطينية.
نتيجة لذلك، لم تتمكن حكومة الوحدة المشكلة ما بين السلطة الفلسطينية وحماس في شهر نيسان (أبريل) 2014 من الإستمرار، لأنه كان من المستحيل بالنسبة للسلطة الفلسطينية استعراض جبهة موحدة في مفاوضات السلام.
علاوة على ذلك، رفض نتنياهو التفاوض مع “حكومة وحدة فلسطينية” ما دامت حماس مستمرة في رفض متطلبات الرباعية الدولية الثلاث وهي: الاعتراف بإسرائيل، نبذ العنف وقبول الاتفاقيات السابقة الموقعة ما بين إسرائيل والفلسطينيين.
وأخيراً، فإن الفلسطينيين واقعون في شرك روايتهم الشعبية الموسومة بالحقد ضد إسرائيل حتى خلال مفاوضات السلام، ملحقين بذلك المزيد من الضرر لمصداقيتهم في أعين الكثير من الإسرائيليين. ويبدو بأن السلطة الفلسطينية، ناهيك عن حماس، تريد كسب حملة العلاقات العامة لدى شعبها وجمهورها أكثر من كسب السلام. ويضاف إلى ذلك التعليم الواسع النطاق المعادي لإسرائيل في المدارس وهجمات وسائل الإعلام بشكلٍ منتظم والتلقين في العديد من المؤسسات العامة والخاصة.
ويبدو أن السلطة الفلسطينية تغفل حقيقة أن تلقين مشاعر استيائها العلني والمتواصل ضد إسرائيل يُستغل من طرف جمهور الناخبين الإسرائيليين في الجناح اليميني القوي، هذا في حين أنه يُضعف جهود أحزاب الوسط ويسار الوسط في الشارع الإسرائيلي ويزيد من تعميق هوّة عدم الثقة بينهم. وهؤلاء ـ جمهور أحزاب الوسط ويسار الوسط ـ يمثلون أغلبية جمهور الناخبين الإسرائيليين الذين يسعون للسلام ولكنهم قلقون بشكلٍ مستمر حول نوايا الفلسطينيين الفعلية في نهاية المطاف. أضف إلى ذلك، فقد زاد عداء وقسوة المسؤولين الفلسطينيين العلني ضد الإسرائيليين من كبت أصوات الفلسطينيين المعتدلين، بما في ذلك وسائل الإعلام، الأمر الذي ترك المجال مفتوحاً على مصراعيه للمتطرفين، وبالأخصّ حماس والجهاد الإسلامي، لتعزيز مقاومتهم لإسرائيل أمام جمهور فلسطيني سريع التقبّل.
وللتأكيد، فقد استنتنج ياسر عرفات الذي كان القوة الموحدة التي جسّدت المقاومة الفلسطينية وحظي بثقتها بأن إسرائيل حقيقة لا تتزعزع بتوقيعه اتفاقيات أوسلو. أما خلفه محمود عباس، بالرّغم من بقائه ملتزماً بالسلام، لم يحظى بنفس دعم الفلسطينيين الساحق. وزاد من ضعفه الصراع مع حركة حماس وخسارته السيطرة على غزة، الأمر الذي صعّب عليه اتخاذ خطوات جريءة للدفع بعملي السلام إلى الأمام.
وبالنظر إلى الظروف السياسية الداخلية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فقد أصبح من الواضح بشكلٍ متزايد بأن التدخل الدولي هو القادر فقط على توفير القناة العملية التي قد تغيّر دينامية مفاوضات السلام. وحيث أن فرنسا تخطط لطرح إطار جديد للسلام أمام مجلس الأمن الدولي، تستطيع إدارة أوباما تشكيل القرار بطريقة تجعله منسجماً مع موقفها الداعم لحلّ الدولتين. وعدا ذلك، أية مفاوضات ثنائية بين الإسرائيليين والفلسطينيين ستكون تمريناً في العبثية والمأزق المستمرّ سيؤدي فقط لطريق مدمّر لكلا الطرفين.
د. ألون بن مئير
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدولية