دراسة يصدرها قسم الأبحاث والدراسات في تجمع العودة الفلسطيني (واجب)
بمناسبة مرور ستين عاماً على صدور القرار 194
حتى الرابع عشر من شهر شباط (فبراير) لعام 1983م تاريخ بدء أعمال الدورة السادسة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني المنعقدة في الجزائر، كانت القيادة الفلسطينية المهيمنة على منظمة التحرير تستند في نضالها ومواقفها وتحركاتها وقراراتها على حق شعبها الفلسطيني الطبيعي والتاريخي والقانوني في فلسطين، كما تجسد في الميثاق الوطني الفلسطيني، والذي كان بمثابة المرجعية الفكرية والسياسية لغالبية القوى الفلسطينية، ولم تكن حتى ذلك التاريخ ـ باستثناء قلة من التنظيمات العاملة خارج منظمة التحرير ـ تتعاطى مع القرارت الدولية، أو ما بات يطلق عليه مصطلح "الشرعية الدولية" وبخاصة القرارين (181) و(242)...
إلا أنه مع انتهاء أعمال تلك الدورة في الثاني والعشرين من الشهر نفسه صدر الموقف التالي:
"يعتبر المجلس الوطني الفلسطيني قرارات قمة فاس، الحد الأدنى للتحرك السياسي... ويؤكد المجلس على أن مهمة هذه القرارات لا تتناقض مع الالتزام للبرنامج السياسي وقرارات المجلس الوطني السابقة" (1).
من يدقق جيداً في قرارات قمة الدورة الثانية عشرة للدول العربية المنعقدة في (فاس) في ذلك العام يجد أن تلك القرارات استندت إلى ما أطلق عليه "مبادرة الأمير فهد" والذي أصبح ملكاً فيما بعد، والتي لم تكن سوى الصياغة العربية الملطّفة للقرار (242) الذي صاغه اللورد البريطاني كارادون.
ولا يخفى على أحد أن القبول بقرارات قمة فاس تعني ضمناً القبول بالقرار (242) والتي تعني بالضبط التنازل عن 78% من أرض فلسطين للغزاة الصهاينة، وضرب للميثاق الوطني الفلسطيني بعرض الحائط، والتخلي عن الحقوق المشروعة للشعب العربي والفلسطيني في فلسطين وبداية لمسلسل التنازلات اللاحقة.
ومن الملفت للنظر أن القادة الفلسطينيين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ثوريين اعتبروا ذلك التحوّل من الشرعيّة التاريخيّة والثوريّة إلى الشرعية الدولية بدايةً لنضج سياسي شكّل نقلة نوعية في الوعي الفلسطيني، وانتقالا من الحالة الخيالية الحالمة (الطوباوية) إلى الحالة الواقعية، والحقيقة هي أن ذلك الاستناد إلى القرارات الدولية "أو ما تسمى بالشرعية الدولية" لم يكن إلا مرحلة انتقاليّة من الشرعية التاريخية والثورية إلى الشرعية الصهيونيّة الامبرياليّة جاءت انعكاساً للهزيمة التي لحقت بالمقاومة الفلسطينية المعاصرة بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982م، والذي أدّى إلى إخراجها من لبنان وإبعادها من ساحة الصراع مع العدو الصهيوني وبدايةً توقف الأعمال الفدائية من الخارج وبدء التعاطي مع المشاريع التسوويّة من خلال المفاوضات الماراثونيّة.
ومنذ ذلك التاريخ باتت القيادة المهيمنة والمتسلطة على منظمة التحرير تستخدم مصطلح الشرعية الدولية كمرجعية لها في جميع تحركاتها الدبلوماسية سواء في الأوساط الدولية أو العربية أو الفلسطينية كبديل عن الشرعية التاريخية والثورية حتى كاد الناس ينسون أن هناك ميثاق شرف اسمه الميثاق الوطني الفلسطيني.
ضمن هذا السياق بدأ الكثيرون يروّجون للقرارين (181) و (242) ثم للقرار (194) باعتبارها "مكاسب للشعب الفلسطيني".
إذا كانت الموافقة على القرار (181) تعني بالضبط القبول بإقامة دولة للغزاة الصهاينة على 55% من أرض فلسطين؛ فإن الموافقة على القرار (242) تعني بالضبط التنازل عن 78% من أرض فلسطين مجاناً لهؤلاء الغزاة البرابرة، والموافقة على القرار (194) تعني التنازل عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين القانونية والطبيعية وغير المشروطة في استعادة بيوتهم وأملاكهم وأراضيهم المنهوبة وحقهم غير المشروط في العودة إليها.
ومن المؤسف أن كثيراً من الباحثين والعاملين في لجان حق العودة راحوا يحمّلون القرار (194) مطالب وأهداف لا يتضمنها القرار ذاته كما هو وارد في نصه الحرفي، وذهب بعضهم إلى اعتبار القرار المذكور بمثابة المرجعية القانونية والسياسية التي تتيح لهم إذا ما تمسكوا به العودة إلى وطنهم، أو على الأقل بما يحرج الصهاينة وحماتهم في المجال الدولي، لا بل ذهب بعضهم إلى تشكيل لجان وهيئات تحمل اسم القرار (194) وحتى إلى الاحتفال بيوم إصداره كما لو كان نصراً لهم.
لقد تصدى الكثير من الباحثين والسياسيين للقرارين (181) و (242) بالنقض والدحض وبكثير من التفصيل، لكن حسب علمي لم يتصدى أحد للقرار (194) بالنقد مع أنه أسوء من القرارين المذكورين كما سنبين لاحقاً بسبب ما يكتنفه من غموض وملابسات، الأمر الذي يستدعي وضع ذلك القرار على طاولة البحث لمناقشته بالتفصيل ولنبين فيما إذا كان يصلح بالمطالبة بحق العودة أم لا، أو فيما إذا كان يمكن اعتباره سلاحاً يصلح للاستخدام في المجال الإعلامي.
بدايةً، لابد من الإطلاع على النص الحرفي للقرار (194)، بعد ذلك سنناقش هذا القرار بنداً بنداً، ثم سنركز على البند رقم 11 منه، ثم سنناقش القرار من الناحية القانونية، بما يمكننا أخيراً من تكوين رؤية صحيحة تصبح أساساً لاتخاذ موقف واضح وصريح منه.
أولاً:
نص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (194)
في دورته رقم 3 بتاريخ 11 كانون الأول (ديسمبر) 1948م (2)
إنشاء لجنة توفيق تابعة للأمم المتحدة وتقرير وضع القدس في نظام دولي دائم وتقرير حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم في سبيل تعديل الأوضاع بحيث تؤدي إلى تحقيقالسلام في فلسطين في المستقبل.
إن الجمعية العامة وقد بحثت في الحالة في فلسطين من جديد:
1. تعرب عن عميق تقديرها للتقدم الذي تم بفضل المساعي الحميدة المبذولة من وسيط الأمم المتحدة الراحل في سبيل تعزيز تسوية سلمية للحالة المستقبلة في فلسطين، تلك التسوية التي ضحى من أجلها بحياته. وتشكر للوسيط بالوكالة ولموظفيه جهودهم المتواصلة، وتفانيهم للواجب في فلسطين.
2. تنشئ لجنة توفيق مؤلفة من ثلاثة دول أعضاء في الأمم المتحدة، تكون لها المهمات التالي:
أ- القيام، بقدر ما ترى أن الظروف القائمة تستلزم، بالمهمات التي أوكلت إلى وسيط الأمم المتحدة لفلسطين بموجب قرار الجمعية العامة رقم 186 (دإ – 2). الصادر في 14 أيار (مايو) سنة 1948.
ب- تنفيذ المهمات والتوجيهات المحددة التي يصدرها إليها القرار الحالي، وتلك المهمات والتوجيهات الإضافية التي قد تصدرها إليها الجمعية العامة أو مجلس الأمن.
ج- القيام - بناء على طلب مجلس الأمن- بأية مهمة تكلها حالياً قرارات مجلس الأمن إلى وسيط الأمم المتحدة لفلسطين، أو إلى لجنة الأمم المتحدة للهدنة. وينتهي دور الوسيط بناءً على طلب مجلس الأمن من لجنة التوفيق القيام بجميع المهمات المتبقية، التي لا تزال قرارات مجلس الأمن تكلها إلى وسيط الأمم المتحدة لفلسطين.
3. تقرر أن تعرض لجنة من الجمعية العامة، مكونة من الصين وفرنسا واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية والمملكة المتحدة والولايات الأمريكية، اقتراحاً بأسماء الدول الثلاث التي ستتكون منها لجنة التوفيق على الجمعية لموافقتها قبل نهاية القسم الأول من دورتها الحالية.
4. تطلب من اللجنة أن تبدأ عملها فوراً حتى تقيم في أقرب وقت علاقات بين الأطراف ذاتها، وبين هذه الأطراف واللجنة.
5. تدعو الحكومات والسلطات المعنية إلى توسيع نطاق المفاوضات المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن الصادر في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1948، وإلى البحث عن اتفاق بطريق مفاوضات تجري إما مباشرة أو مع لجنة التوفيق، بغية إجراء تسوية نهائية لجميع المسائل المعلقة بينها.
6. تصدر تعليمات إلى لجنة التوفيق لاتخاذ التدابير بغية معونة الحكومات والسلطات المعنية، لإحراز تسوية نهائية لجميع المسائل المعلقة بينها.
7. تقرر وجوب حماية الأماكن المقدسة - بما فيها الناصرة- والمواقع والأبنية الدينية في فلسطين، وتأمين حرية الوصول إليها وفقاً للحقوق القائمة، والعرف التاريخي، ووجوب إخضاع الترتيبات المعمولة لهذه الغاية لإشراف الأمم المتحدة الفعلي. وعلى لجنة التوفيق التابعة للأمم المتحدة، لدى تقديمها إلى الجمعية العامة في دورتها العادية الرابعة اقتراحاتها المفصلة بشأن نظام دولي دائم في منطقة القدس، أن تتضمن توصيات بشأن الأماكن المقدسة الموجودة في هذه المنطقة، ووجوب طلب اللجنة من السلطات السياسية في المناطق المعنية تقديم ضمانات رسمية ملائمة فيما يتعلق بحماية الأماكن المقدسة في باقي فلسطين، والوصول إلى هذه الأماكن، وعرض هذه التعهدات على الجمعية العامة للموافقة.
8. تقرر أنه نظراً إلى ارتباط منطقة القدس بديانات عالمية ثلاث، فإن هذه المنطقة، بما في ذلك بلدية القدس الحالية، يضاف إليها القرى والمدن المجاورة التي يكون أبعدها شرقاً أبو ديس وأبعدها جنوباً بيت لحم وأبعدها غرباً عين كارم (بما فيها المنطقة المبنية في موتسا) وأبعدها شمالاً شعفاط، يجب أن تتمتع بمعاملة خاصة منفصلة عن معاملة مناطق فلسطين الأخرى، ويجب أن توضع تحت مراقبة الأمم المتحدة الفعلية.
تطلب من مجلس الأمن اتخاذ تدابير جديدة بغية تأمين نزع السلاح في مدينة القدس في أقرب وقت ممكن.
تصدر تعليمات إلى لجنة التوفيق لتقدم إلى الجمعية العامة في دورتها العادية الرابعة اقتراحاتها مفصلة بشأن نظام دولي دائم لمنطقة القدس، يؤمن لكل من الفئتين المتميزتين الحد الأقصى من الحكم الذاتي المحلي المتوافق مع النظام الدولي الخاص لمنطقة القدس.
إن لجنة التوفيق مخولة صلاحية تعيين ممثل للأمم المتحدة، يتعاون مع السلطات المحلية فيما يتعلق بالإدارة المؤقتة لمنطقة القدس.
9. تقرر وجوب منح سكان فلسطين، جميعهم، أقصى حرية ممكنة للوصول إلى مدينة القدس بطريق البر والسكك الحديدة وبطريق الجو، وذلك إلى أن تتفق الحكومات والسلطات المعنية على ترتيبات أكثر تفصيلاً.
تصدر تعليمات إلى لجنة التوفيق بأن تعلم مجلس الأمن فوراً، بأي محاولة لعرقلة الوصول غلى المدينة من قبل أي من الأطراف، وذلك كي يتخذ المجلس التدابير اللازمة.
10. تصدر تعليمات إلى لجنة التوفيق بالعمل لإيجاد ترتيبات بين الحكومات والسلطات المعنية، من شأنها تسهيل نمو المنطقة الاقتصادي، بما في ذلك عقد اتفاقيات بشأن الوصول إلى المرافئ والمطارات واستعمال وسائل النقل والمواصلات.
11. تقرر وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن، للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن الممتلكات للذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، عندما يكون من الواجب وفقاً لمبادئ القانون الدولي والإنصاف أن يعوض عن ذلك الفقدان أو اضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة.
وتصدر تعليمات إلى لجنة التوفيق بتسهيل إعادة اللاجئين، وتوطينهم من جديد، وإعادة تأهيلهم الاجتماعي والاقتصادي، وكذلك دفع التعويضات، وبالمحافظة على الاتصال الوثيق بمدير إغاثة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، ومن خلاله بالهيئات والوكالات المتخصصة المناسبة في منظمة الأمم المتحدة..
12. تفوض لجنة التوفيق صلاحية تعيين الهيئات الفرعية واستخدام الخبراء الفنيين العاملين تحت امرتها، ما ترى أنها بحاجة إلية لتؤدي، بصورة مجدية، وظائفها والتزاماتها الواقعة على عاتقها بموجب نص القرار الحالي. ويكون على السلطات المسؤولة عن حفظ النظام في القدس اتخاذ جميع التدابير اللازمة لتأمين سلامة اللجنة. ويقدم الأمين العام عدداً محدداً من الحراس لحماية موظفي اللجنة ودورها.
13. تصدر تعليمات إلى لجنة التوفيق بأن تقدم إلى الأمين العام بصورة دورية، تقارير عن تطور الحالة كي يقدمها إلى مجلس الأمن وإلى أعضاء الأمم المتحدة.
14. تدعو الحكومات والسلطات المعنية، جميعاً إلى التعاون مع لجنة التوفيق، وإلى اتخاذ جميع التدابير الممكنة للمساعدة على تنفيذ القرار الحالي.
15. نرجو الأمين العام تقديم ما يلزم من موظفين وتسهيلات، واتخاذ الترتيبات المناسبة لتوفير الأموال اللازمة لتنفيذ أحكام القرار الحالي.
تبنت الجمعية العامة هذا القرار في جلستها العامة رقم 128 بـ 23 صوتاً مقابل 13 وامتناع 10 كالآتي:
مع القرار: الأرجنتين، استراليا، بلجيكا، البرازيل، كندا الصين، كولومبيا، الدنيمارك، جمهرية الدومنيكان، الإكوادور، السلفادور، الحبشة، فرنسا؟، اليونان، هاييت’ هندوراس، ايسلندا، ليبيريا، لوكسنبورغ، هولندا، نيوزيلندا، نيكاراغوا، النروج، بنما، باراغواي، بيرو، الفلبين، سيام، السويد، تركيا، جنوب أفريقيا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة الأمريكية، أوروغواي، فنزويلا.
ضد القرار: أفغانستان، بييلوروسيا، كوبا، تشيكوسلوفاكيا، مصر، العراق، لبنان، باكستان، بولندا، المملكة العربية السعودية، سوريا، أوكرانيا، الاتحاد السوفياتي، اليمن يوغسلافيا.
امتناع: بورما، تشيلي، كوستاريكا، غواتيمالا، الهند، إيران، المكسيك[size=24].[/size]
-----------------------
ثانياً: مضمون القرار (194) والغاية منه:
يتضح لنا من القراءة العامة للقرار رقم (194/3) تاريخ 1948 أن الهدف من ورائه ليس تثبيت حق العودة كما روج ويروج البعض له، بل إنشاء لجنة توفيق دولية تقوم بإجراء الاتصالات مع الأطراف المتصارعة بهدف التوصل إلى تسوية سلميّة بعد الأحداث التي ألمّت بفلسطين جرّاء استيلاء العصابات الصهيونية على 78% من أرضها وطرد ما يزيد عن مليون إنسان من أرضهم وديارهم، واحتلال ما يزيد عن ثلاثة أرباع مدينة القدس، خلافاً لما نصّ عليه القرار 181.
وهذا يعني:
أولاً: أن الهدف غير المعلن للجنة والقرار يرمي إلى التوفيق بين ما نص عليه القرار (181) وبين ما جرى على أرض الواقع بعد الحرب، أي بمعنى العمل على إيجاد تسوية تستند إلى ما تم فرضه على الأرض عن طريق القوة والإرهاب والعنف، خلافاً لميثاق الأمم المتحدة وللقرار (181) ولمطالب العرب المشروعة.
والطريف في الأمر أن تطلب الجمعية العامة من اللجنة بعد كل الحيف والظلم الذي لحق بالعرب ـ ومن ضمنهم الفلسطينيين ـ في المادة 4 أن تبدأ أعمالها فوراً لتقيم في أقرب وقت ممكن علاقات فيما بينهم وبين من ألحقوا بهم الظلم، والأطرف أن تدعو اللجنة في البندين 5 و 6 إلى توسيع نطاق المفاوضات المباشرة بين الضحية والجلاد لتسوية جميع المسائل الأخرى العالقة والمتعلقة بشكل رئيسي بمسألتي التهجير الجماعي لمليون إنسان واحتلال مدينة القدس، وذلك بعد أن تم إبرام اتفاقيات للهدنة جعلت من الاحتلال الصهيوني لـ 78% من أرض فلسطين أمراً منتهياً.
ثانياً: لم تشر المواد 7 و8 و9 إلى الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس والأماكن المقدسة الأخرى بل اعتبرت ذلك الاحتلال أمراً منتهياً وغير قابل للنقاش، واقتصرت بوجوب طلب اللجنة من السلطات السياسية في المناطق المعنية (أي الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي والأردني) تقديم ضمانات رسمية ملائمة لحماية الأماكن المقدسة وحرية الوصول إليها تحت إشراف ومراقبة الأمم المتحدة.
ثالثاً: فيما يتعلق بمسألة اللاجئين المعالجة في البند 11 فقط، فنشير إلى أن القرار ربط حل هذه المسألة الملحة أو المأساة الكبيرة أو الجريمة التي أطلق عليها أرنولد توينبي "جريمة العصر"، بالتوصل إلى حل شامل للصراع، أي أنه ربط حل هذه المسألة الملحة بعملية التسوية النهائية للصراع، مع العلم أن مأساة اللاجئين كانت تتطلب حلاً عاجلاً وسريعاً، وهذا ما أشار إليه وأكد عليه كلٌ من الكونت برنادوت وخليفته الدكتور رالف بانش.
وفي الوقت الذي كان يتطلب الأمر أن تصدر الجمعية العامة أو مجلس الأمن قرارات ملزمة وحازمة ترغم المسماة "إسرائيل" على إعادة هؤلاء اللاجئين المشردين إلى قراهم بأسرع وقت ممكن ومن دون أي قيد أو شرط، تجاهلت الجمعية العامة هذه المأساة وربطت حلها بالتسوية الشاملة للصراع، وهذا ما دفع القانوني الكبير (رينيه رادلي) (3) إلى القول: "إن حق الفرد بالعودة إلى منزله لم يكن يوماً في أي مؤتمر دولي يستند لقانون دولي أو مرهوناً بموقف جيرانه الآخرين"، أي بمعنى أن حق العودة يجب ألا يصبح مرهوناً لتحققه بقرار دولي، ولا بشرط التوصل إلى تسوية بين الدول العربية والمسماة "إسرائيل"، ولا يجوز أن يؤجّل حتى حصول هذه التسوية التي كما يقول رادلي قد تتحقق وقد لا تتحقق حتى لو توصلت جميع الدول العربية والمسماة "إسرائيل" إلى تسوية باستثناء دولة واحدة.
ومع ذلك إذا تجاهلنا جميع هذه الملاحظات وذهبنا مع المتمسكين بالبند 11 ووضعناه على طاولة البحث والدراسة فإننا نسجل حوله الملاحظات التالية:
1. إن إيراد كلمة "اللاجئين الراغبين بالعودة إلى ديارهم" من دون تحديد هويتهم أو جنسيتهم ومن دون أن ترفق بكلمة الفلسطينيين تعني أن المقصود بها جميع اللاجئين بما فيهم اليهود المقيمين في جميع دول العالم باعتبار أنهم حسب الرؤية الصهيونية والغربية قد تحولوا إلى لاجئين منذ حوالي 2000 عام بعد أن طردهم الفرس والرومان والعرب (الأوباش) من وطنهم التاريخي فلسطين باعتبارها الأرض التي وعدهم بها الرب "يهوه".
2. جملة "وجوب السماح بالعودة" تتناقض مع العودة كحق طبيعي، فكلمة "وجوب" هنا معطوفة على السماح، أي بمعنى أن السماح هو واجب وليس فرضاً، كحق طبيعي غير قابل للتصرف مما يفهم منه أيضاً أن الواجب يعود على من يَحقُ له السماح، أي أن المسماة "إسرائيل" هي التي يصبح من حقها أن تسمح أو لا حسب تقديرها للأمور، أي بمعنى أن العودة لم تعد حقاً معطى مسبقاً لجميع الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم وبيوتهم، بل هي مربوطة بمن يسمح لهم بالعودة، أي بمن تتكرم "إسرائيل" وتمن عليهم وتسمح لهم بالعودة.
ولقد استخدم مندوبو "إسرائيل" في الأمم المتحدة هذا المصطلح لرفض إعادة اللاجئين من منطلق أن مبدأ السماح هو من حق الدولة اليهودية الذي يتناقض مع حق سيادة الدول على أراضيها، وهذا ما أشار إليه (هنري كتن) (4) بقوله "لقد تذرعت إسرائيل بحق السيادة لإحباط جميع قرارات الأمم المتحدة بما فيها القرار (181) الذي شرع وجودها"، ولذلك من الوهم التصور بأن جملة وجوب السماح يمكن أن تشكل أي ضغط على "إسرائيل" كما يرى المتمسكون بالقرار (194) وخاصة بهذا البند.
3. تَْشُرط المادة 11 في قسمها الثاني الذين يحق لهم العودة فقط، بأولئك الذين يرغبون بالعودة للعيش بسلام مع من قاموا باحتلال بلدهم، وليس بصفتهم مواطنين كاملي المواطنة كما ورد في الفصل الثالث من قرار التقسيم، بل كمواطنين من الدرجة الثالثة كما هو حاصل اليوم في فلسطين المحتلة.
وبالتالي فإن من لا تسمح لهم كرامتهم بالعودة للعيش كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة وهم كثر ـ إن لم نقل يشكلون الغالبية ـ لن يعودوا، لذلك لوّحت لهم هذه المادة بالحصول على تعويضات.
4. أما إذا ناقشنا مسألة التعويضات الواردة في القسم الثاني من البند 11 فإننا نجد أنها ستُدْفع لمن يثبتون بالوثائق والأدلة وجود ممتلكات لهم، وهذا ما طالبت به اللجنة المسؤولين العرب والفلسطينيين وما كرست لجنة التوفيق الدولية جُلَّ وقتها من عام 1948 حتى عام 1952، أي بمعنى أن من يحق لهم الحصول على التعويض لن يتجاوزوا الـ 20 % من الفلسطينيين باعتبار أن ملكية 80 % من اللاجئين كانت ملكيات عامة أو على الشيوع، مما يعني ضياع حقهم في العودة والتعويض.
5. إذا ما دققنا في جملة "عندما يكون من الواجب وفقاً لمبادئ القانون الدولي أن يعوض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة" فإننا نفهم أن التعويض سيكون خاضعاً لمحاكم وقضاة ومحامين وجلسات استئناف وفقاً للقانون الدولي (التي تتطلب مصاريف يعجز عنها 90 % من اللاجئين)، والأهم أن التعويض لن يدفع من قبل "إسرائيل" باعتبارها المُتَسبب بالأضرار، بل من قبل الحكومات والسلطات المعنية، أي أن الدول العربية هي التي ستدفع التعويضات لأنها مسؤولة بشكل ما عن هجرة الفلسطينيين، لذلك طالب اليهود للحد من مطالب العرب أن تدفع الدول العربية تعويضات عن أملاك اليهود الذين تركوا البلدان العربية، أي أن التعويضات التي ستدفع لليهود قد تكون أكثر من التي ستدفع للعرب الفلسطينيين، باعتبار أن أملاك اليهود في البلدان العربية مثبتة بأوراق (طابو)، وقد عبرت المسماة "إسرائيل" للجنة التوفيق عن رأيها بالقول: "إن التعويضات يجب أن تدفع للحكومات والجهات المعنية من أجل توطين اللاجئين وليس للاجئين أنفسهم بصورة مباشرة".
6. أما الفقرة الثانية من المادة 11 والتي تنصّ على إن الجمعية العامة تصدر تعليماتها للجنة التوفيق لتسهيل إعادة اللاجئين دون أن تحدد من تنطبق عليهم صفة اللاجئ، ولكننا نراها تركز بشكل واضح في شقها الثاني، على ضرورة توطينهم من جديد وإعادة تأهيلهم الاقتصادي والاجتماعي مع شرط القبول بالتسوية.
وبالتالي فإذا أقمنا ربطاً بين الشقين الأول والثاني من البند 11 نجد أن الفقرة 11 كلها ومن الناحية العمليّة ترجّح كفة التعويضات والتوطين على العودة التي وضعت أمامها شروطاً تعجيزيّة، وهذا ما بدأت به لجنة التوفيق عام 1949 بتشكيلها لجنة (كلاب) (5) التي تركزت مهمتها على دراسة الأوضاع الاقتصادية للبلدان المضيفة للاجئين والتي تأثرت بالقتال الحاصل من أجل مساعدة الحكومات المضيفة للسير قدماً في برامج الإنعاش الاقتصادي والاجتماعي، بما يسهّل عملية دمجهم في حياة المنطقة وجعلهم جزءاً لا يتجزأ منها، وبما يمكنهم من إعالة أنفسهم في أقصر وقت ممكن، وهو الأمر الذي أكدت عليه ثانيةً الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما شكلت الهيئة العامة لإغاثة وتشغيل اللاجئين استناداً للقرار (302) عام 1949 والذي ينصّ بشكل واضح على "أن اندماج اللاجئين الفلسطينيين اقتصادياً في الشرق الأوسط إما بالعودة أو الاستيطان ضروري أثناء التحضير للفترة الانتقالية التي تتوفر فيها المعونة العالمية من أجل تحقيق شرط السلام والاستقرار في المنطقة".
ثالثاً: المخالفات القانونية والسياسية للقرار 194
يرى (جان إيف أوليه) في كتابه عن لجنة التوفيق الدولية بشأن فلسطين (6) أن ثلاثة عناصر حددت سلفاً عمل اللجنة، أساسها القانوني وتكوينها وصفات أعضائها وموقف أطراف النزاع منها:
أ/ استناداً لتعريف التوفيق في القانون الدولي باعتباره (إجراءاً شبه قضائي لتسوية نزاعات، تقع في منزلة وسط بين التحقيق والتحكيم، يتضمن أن يعهد طرفا النزاع إلى هيئة ما لتقوم بامتحان جميع وجوه النزاع واقتراح حل لا تكون له صفة إلزامية) يرى أوليه:
1. بما أن اللجنة تكونت بناءً على طلب من الجمعية العامة استجابة للاقتراح الذي تقدم به الوسيط الدولي (الكونت برنادوت) وليس بناء على طلب أو استجابة لرغبة طرفي النزاع، فإن هذا جعل من عمل اللجنة محكوم عليه بالفشل سلفاً.
2. بما أن مواقف طرفي النزاع كانت متباعدة جداً من الناحية الحقوقية ويصعب التوفيق بينها من خلال الإقناع والحوار والمفاوضات، لذلك كان من المتعذر التوصل إلى اتفاق أو إلى حل وسط فيما بينهما من خلال المفاوضات، كما نص على ذلك القرار في المواد 4 و 5 و 6.
3. بما أن القرار لم يشر إلى حق اللجنة في تقديم الاقتراحات التي تراها مناسبة، يكون قد أفقدها سلطةً معنوية حكمت على عملها سلفاً بالفشل قبل أن تبدأ، الأمر الذي يفهم منه أن تشكيل اللجنة لم يكن يهدف إلى التوفيق بقدر ما كان يرمي إلى إضاعة الوقت أو كسبه من قبل أحد طرفي النزاع.
(في الظروف الملموسة للنزاع كانت المسماة "إسرائيل" هي الطرف المستفيد لأنها الأقوى والأقدر على حصول مزيد من عوامل القوة، في حين كان الطرف العربي مشتتاً ومحاصراً ويفتقد القدرة على اتخاذ المواقف الموحدة الأمر الذي أتاح للمسماة "إسرائيل" الانفراد بكل طرف عربي على حده لتثبيت الحدود التي جرى احتلالها بالقوة العسكرية كأمر واقع وليس استناداً للاقتراحات التي تقدمت بها الجمعية العامة أو الوسيط الدولي، وهذا الأمر ما زال سارياً منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم).
4. بما أن التوفيق هو نهج مرن جداً لتسوية النزاعات ويترك للأطراف المتنازعة كامل حريتها وسيادتها فإنه يجعل من عدم إلزامية اقتراحات اللجنة أمراً عبثياً. وبما أن القرار افتقد إلى لا يقينية المصطلحات والمرجعيات وكان يعوزه التماسك، وإن كان عامل المرونة هذا مهم جداً من الناحية العملية إلا أنه من الناحية القانونية جعل عمل اللجنة عديم الجدوى.
5. عندما كلفت الجمعية العامة اللجنة في الفقرة (ب) من المادة (أ) الواردة في القرار (194) (بمهمة تنفيذ المهام والتوجهات المحددة التي يصدرها القرار إليها إضافة للمهمات والتوجهات الإضافية التي تصدرها الجمعية العامة أو مجلس الأمن) فإن القرار يكون قد خلق حالة من الازدواجية تجعل من أي اقتراح تتقدم به اللجنة غير ذي قيمة من دون العودة إلى الجمعية العامة أو مجلس الأمن.
ب/ فيما يتعلق بتكوين اللجنة وصفات أعضائها، فإن السيد أوليه يرى أن اللجنة وإن كانت قد تشكلت استجابة لرغبة الوسيط الدولي، إلا أنها عملياً ابتعدت عن اقتراحه المتعلق بالتفويض الذي يجب أن يعهد به إلى أفراد مستقلين، باعتبار أن الجمعية العامة ارتأت في البند الثاني أن يكون الوسيط دولاً على أن تنتدب هذه الدول ممثلين عنها، بالزعم أن ذلك سيوفر للجنة دعماً سياسياً ويجعلها أكثر فعالية لكن تكوين اللجنة من دول مثل فرنسا والولايات المتحدة المنحازتين لكيان "إسرائيل" إضافة لتركيا لتقوم هذه الدول الثلاث بدور الوسيط جعل عمل اللجنة غير ذي جدوى لافتقاده إلى النزاهة المطلوبة.
ج/ أما فيما يتعلق بمواقف أطراف الصراع من اللجنة فإن المؤلف يرى أن المسماة "إسرائيل" لم تكن متعاونة معها ولم تعر اقتراحاتها أي اهتمام، وظلت ماضية في سياستها كما لو أن اللجنة غير موجودة.
وبما أن الفقرة (5) من القرار تدعو الحكومات إلى توسيع نطاق المفاوضات وإلى البحث عن اتفاق عن طريق المفاوضات المباشرة مع اللجنة أو بين الأطراف المتنازعة، التي كان معروفاً أنه من المستحيل أن توافق على إجراء مفاوضات مباشرة فيما بينها فإن هذا الواقع يكون قد أغلق الباب سلفاً على أية إمكانية للتوصل إلى تسوية سلمية، زعم القرار أنه صدر من أجلها، وترك الباب مفتوحاً للصراع حتى وقتنا الراهن.
نخلص مما سبق إلى أن القرار (194) لا يصلح للمطالبة بحق العودة ولا بأي حق آخر مسلوب بقدر ما يصلح للبحث عن تسوية على أساس الأمر الواقع المفروض بالقوة والتواطؤ بين الدول الاستعمارية المسيطرة على مجلس الأمن والحركة الصهيونية وبين القيادات العربية والفلسطينية، أو لنقل صراحة لتصفية القضية، وهو ما عملت عليه الأمم المتحدة والدول الكبرى الاستعمارية وكثير من القيادات الفلسطينية والعربية منذ عام 1948 وحتى اليوم من خلال اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ومدريد وأخيراً أنابوليس.
لذلك نقول للمتمسكين بجميع حقوقهم الذين رفضوا وما زالوا يرفضون تقسيم بلدهم بينهم وبين هؤلاء الغزاة القادمين من خارج التاريخ والمحملين بالأوهام والأطماع والأحقاد أنه:
1. إذا كان القرار (181) قد شّرع للدولة اليهودية امتلاك 54% من أرض فلسطين فإن القرار (194) قد شرّع رسمياً احتلالها وامتلاكها لـ 78% من أرض فلسطين.
2. وإذا كان القرار (181) قد حرَّم في المادة 8 من الفصل الثاني نزع ملكية أي فلسطيني موجود على الأراضي المخصصة للدولة اليهودية فإن القرار (194) تغاضى عن عملية نزع الملكية هذه أو تعاطى معها كأمر واقع غير قابل للتبديل.
3. وإذا كان القرار (181) قد أقر حق الفلسطينيين بالبقاء على أرضهم سواء في الدولة اليهودية أو العربية مع تمتعهم بحقوقهم السياسية والمدنية والدينية كاملة، فإن القرار (194) سلب منهم هذه الحقوق وجعل عودتهم مرهونة بموافقة المسماة "إسرائيل" وشرطها بمن يرغب بالعودة للعيش بسلام مع أعدائهم دون مساواتهم مع اليهود في الحقوق.
4. وإذا كان القرار (181) قد نصّ على عدم موافقة الأمم المتحدة على إقامة دولة يهودية من دون إقامة الدولة الثانية العربية حسب الفقرة (و) الواردة في القرار (181)، فإن القرار (194) دشّن ولأول مرة حق اليهود في أن يكون لهم دولة خلافاً للقرار (181) في الوقت الذي شطب فيه حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم وبذلك يكون أول قرار دولي تغاضى أو شطب الحق الطبيعي للفلسطينيين في أن يكون لهم دولة مستقلة أسوة بغيرهم من الشعوب.
نخلص مجدداً مما سبق إلى أن القرار (194) لا يصلح لأن يستخدم كسلاح ولا حتى كشعار لمحاصرة إسرائيل أو للتمسك بحل عادل لقضية اللاجئين الأمر الذي يفترض بالقوى التي ما تزال تتمسك بحقها في فلسطين كل فلسطين من البحر إلى النهر وباستعادة جميع أملاكهم المنهوبة والمسروقة منذ عام 1918 أن تبحث عن مرجعيات أخرى وإتباع وسائل أخرى ثبتت صحتها على أرض الواقع تمكنهم من استعادة تلك الحقوق.
-------------------------------
المراجع:
1. وثائق فلسطين صفحة 400 إصدار دائرة الثقافة في م ت ف 1978م.
3. ص117، موسى مزاوي، فلسطين في القانون الدولي، كتاب لم ينشر بعد.
4. ص 171، فلسطين على ضوء الحق والعدل، هنري كتن.
5. برئاسة الأمريكي كلاب وعضوية كل من فرنسا وبريطانيا وتركيا.
6. إصدار مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت ، 1991 ، ترجمة : نصير مروة.