التنوير العربي: من الأنوار الفردية إلى الوعي الجمعي (1)
معاذ بني عامر
التنوير سيرورة تاريخية لم تتوقّف في يوم من الأيام على طول التاريخ البشري، ولن تتوقّف في أيّ يوم من الأيام. ففي أحلك الظروف المأساوية والمذابح المروّعة، سنجد من يمسك قيثارته ويعزف عليها لحناً يُمجّد الحياة، ويتغنّى بتويجات الزهور التي تبرعمت للتو على شقوق البيوت العتيقة. وفي أشدّ لحظات المخاض عند الأمّ، سيُشقشق طفل صغير رأسه مثل يراعة جميلة، ويطير إلى هذا العالَم، فتنهمر دموع الفرح من عيني الأمّ العظيمة؛ فهي تتعاظم -لحظتذاك- على آلامها، فثمة أمل جديد يبزغ إلى هذه الحياة، ويملأ عليها أيامها.
رُبّ قائل: هذه دفقة رومانسية. ليكن!
إنها لكذلك، وإلا فما جدوى الحياة، إن لم يكن ثمة بتلة أمل وسط حقل الآلام؟!
بدايات القرن التاسع عشر، كان الألم الحضاري قد بلغ ذروته بالنسبة للكتلة البشرية في العالم العربي. فتلك البقايا البديعة التي اجترحت في الحضارة العربية الإسلامية على المستوى الذهني إبَّان عصورها الذهبية، كانت في طريقها إلى الفناء والموت على يد العثمانيين، إلى أن بلغت ذروتها القصوى مع الغزو النابليوني للديار المصرية، إذ اكتشفَ يومها -رغم مساوئ ذلك الغزو ووجهه القبيح- أيّ هوان حلّ بالعالم العربي على يدّ الدولة العثمانية، لاسيما في المجال المعرفي، فلا فيلسوف ولا عالَم ولا باحث يكاد يذكر في جميع البلاد العربية، فالكلّ غارق في ظلام معرفي دامس.
إذن، مع بداية القرن التاسع عشر كانت يد الظلام قد أطبقت قبضتها الحديدية على عنق العالم العربي، إلى درجة حجب الرؤية شبه الكاملة. لكن نَفَسَاً أخيراً في الجسد المُنهَك، قاومَ عمليات الخنق الحضاري، لذا بدأت الأمّ العربية بإنجاب بعض الذوات الفردية التي سَتُساهم في بثّ الأمل وسط حقل الآلام الكبير.
مع نهايات القرن التاسع عشر، كانت فكرة النور الجديد بإزاء الظلام القائم، قد بدأت تترسّخ في أذهان بعض الذوات الفردية، أمثال: رفاعة الطهطاوي/ إبراهيم اليازجي/ قاسم أمين/ جمال الدين الأفغاني/ محمد عبده/ عبدالرحمن الكواكبي/ محمد رشيد رضا... إلخ، التي شغلتها أسئلة التحديث والتجديد، وجعلت من مهامها الرئيسة العمل على غرس إبر الوعي المعرفي في مواضع الألم الحضاري، لغاية إحداث خلخلة في البنية الذهنية للعقل الجمعي، ونقلها من طور الثبات والظلام، إلى طور الحركة والنور.
السؤال: هل تقدّم الوعي ناحية الأمام، أم بقي على حالته الفردية؟ وهل بقيت دعوات الإصلاح والتجديد، دعوات في جماجم بعينها، أم بدأت الجمجمة الجمعية تُحرّك عِظامها يمنة ويسرة، دلالةً على ماء جديد بدأ يسري في نسغها اليابس؟
بدايات القرن العشرين، كانت حركة الوعي قد انتقلت نقلة لا بأس بها. لذا أصبحنا نرى تجمّعات ثقافية تعنى بالشأن المعرفي وتحرّك ما ركد وثبت. وما بين الفترة التي أصدر فيها "سليمان البستاني" ترجمته الفخمة لإلياذة هوميروس في العام 1904، والاحتفاء الذي حظيت به، والفترة التي أصدر فيها "طه حسين" كتابه "في الشعر الجاهلي"، والنقد الذي تعرّض له؛ كانت عدّة بؤر ثقافية قد تشكلت وبدأت تضغط على الوعي الجمعي، أمثال جماعة أبولو، وجماعة شعراء المهجر، وبؤر الأدباء الجدد الذين أخذوا بإصدار الروايات والقصص والمسرحيات والأشعار، أمثال عقيل أبو الشعر، محمد حسين هيكل، جبران خليل جبران، عباس محمود العقاد، توفيق الحكيم، معروف الرصافي، ابن باديس، ابن عاشور، أبو القاسم الشابي... إلخ.
بالتقادم، بدأت حركة الوعي العربي تتقدّم ناحية الأمام، وتتوسّع دائرتها. وبدأ العبء التنويري الذي حمله الآباء على ظهور عقولهم في القرن التاسع عشر، لناحية الإعلاء من قيم التجديد والإصلاح، ينتقل إلى الأجيال الجديدة، ويبسط سيطرته لحظة تشكّل الوعي الكتابي؛ إذ بدأت الكتابات الجديدة تنخلع عن أطرها القديمة وتلبس لبوساً حداثوياً ينسجم مع روح العصر. فالرواية التي ابتدأت تقليداً لنماذج غربية، بدأت تشقّ لها طريقاً خاصاً بها، على أيدي نجيب محفوظ وعبدالرحمن الشرقاوي وغيرهما. والشعر الذي بقي وفياً لعمود الشعر العربي لحوالي ألفين من الأعوام، بدأ هو الآخر يتقهقر أمام حركة المد الشعري الحديث، على أيدي بعض الشعراء مثل: مصطفى وهبي التل (عرار) ونازك الملائكة وعمر أبو ريشة وبدر شاكر السياب. وعلى المستوى الفكري بدأ يبرز جيل من المفكرين العرب، يجرّب مناهج جديدة -قدر المستطاع- في مقاربة الواقع العربي، مثل زكي نجيب محمود وعبدالرحمن بدوي وأمين محمود العالم ومالك بن نبي وغيرهم. وفي الحركة النقدية بدأت تظهر أسماء ستساهم هي الأخرى في توسيع دائرة الوعي المعرفي الجمعي، أمثال ناصر الدين الأسد وإحسان عباس.
وإذا كان لنكبة 1948 أن تُحطّم القلب العربي، وتجعله نهباً لمشاعر انسحاقية أمام الحدث الفجائعي، فإنها فتحت ثغرة في بنية الوعي العربي، وجعلته يتنبّه إلى ما هو عليه حضارياً، ومقارنته بما هو عليه الآخر. لذا تعاظمت ضرورة الحركة التجديدية وأهميتها القصوى، لغاية الانتقال من طور المفعول به سياسياً ومعرفياً وعسكرياً... إلخ، إلى طور الفاعل الحضاري. وستنفتح ثغرة أخرى في عام النكسة 1967، وسيُطرح السؤال الذي طُرح في القرن التاسع عشر: لماذا تقدّم الغرب وتأخر المسلمون؟ بقوةٍ هذه المرة.
ما بين النكبة والنكسة، كان ثمة ماء يتحرّك في جذع الوعي العربي الجمعي، لكن دونما ضجّة أو جلبة؛ مثل زيادة أعداد المتعلمين، وأعداد المدارس والجامعات، والنشاط المتزايد لحركة الترجمة من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، وزيادة معدلات القراءة مع الانتشار المتنامي لحركة التأليف في مختلف المجالات المعرفية. وإلقاء نظرة على أفضل مائة رواية عربية في القرن العشرين بحسب تصنيفات اتحاد الكتاب العربي في كل من القاهرة ودمشق، سيكشف حقيقة جدّ مهمة حول مسألة زيادة الوعي القرائي عند الإنسان العربي، وتنامي المنتج الروائي -لا شكّ أنه تنامى جنباً إلى جنب مع حقول أخرى- وتزايده بالتقادم.
مع نهاية سبعينيات القرن الماضي، سيصطدم الوعي العربي صدمتين كبيرتين على المستوى الديني: الأولى، كانت إثر تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية. والثانية، إثر حادثة جهيمان التي أدّعى فيها شخص سعودي بأنه المهدي المنتظر واحتلّ الحرم المكي كبدايةٍ لأحداث كبرى ستعصف العالَم أجمع.
وإذا كان للسؤال الديني وعلاقته بالتنوير العربي، أن ينغرس في بنية الوعي الفردي والجمعي على فترات متقطّعة، مع أحداث مثل فكرة الجامعة الإسلامية التي نادى بها جمال الدين الأفغاني، أو بعض التفاسير الجديدة التي نادى بها محمد عبده للنص القرآني، وعلاقتها بالتحديث المنشود، أو النقد اللاذع الذي وجّه لكتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين، وتطاوله على ما قرَّ في العقل الجمعي، أو لحظة النكبة واستدعاء بعض الآيات القرآنية التي تتحدّث عن عودةٍ ثانية لبني إسرائيل، وبداية النهاية بالنسبة إليهم. أو لحظة صدور رواية "أولاد حارتنا" والنقد الذي وجّه إليها بصفتها مساساً بالمشاعر الدينية لدى المسلمين، إلى حدّ سيصل في فترة لاحقة إلى طعن نجيب محفوظ بالسكين من قبل شخص لم يقرأ له حرفاً واحداً، لكنه أقدم على فعلته مدفوعاً بحماس ديني مفرط في عاطفته الجيّاشة.
إذا كان للسؤال الديني أن يُطرح بتقطّع على مدار ما يقارب القرن ونصف القرن، ففي نهاية سبعينيات القرن الماضي، طُرح هذا السؤال بقوةٍ كبيرة، إلى درجة إحداث صدمة خلخلت سياقات الوعي العربي الجمعي؛ وهذا ما سأعمل على تفكيكه تباعاً.