أينقص الدين وأنا حي ؟!
أبو بكر الصديق يوم الردة
لما توفي رسول الله صل الله عليه وسلم (يوم الاثنين 12من ربيع الأول 11هـ) ارتجفت قلوب المسلمين وأصابت العرب زلزلة عظيمة، وعظم الخطب واشتد الحال ونجم النفاق وارتد من ارتد من أحياء العرب وظهر مدعو النبوة وامتنع قوم عن أداء الزكاة ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة والطائف وبعض بطون القبائل.
وأصبح وضع الدولة وبناتها من الصحابة وقت
الردة -كما قال
عروة بن الزبير رضي الله عنه: "كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، لِفَقْدِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ"، وكما وصفت
عائشة رضي الله عنها:"كَأَنَّهُمْ مِعْزًى مَطِيرَةٌ فِي حِفْشٍ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ بِأَرْضٍ مُسْبِعَة"، وهو تصوير دقيق لحالة الخطر القصوى لإحاطة الأعداء بهم من كل جانب.
عندها وقف ذلك الرجل، نحيف الجسم، معروق الوجه، قليل الشعر في صفحتي خديه، غائر العينين، بارز الجبهة، جعد الشعر، إلا أنه قوي الإيمان، عظيم الإرادة، عالي الهمة، كان ذلك الرجل هو
أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخليفة الذي بايعه المسلمون منذ أيام قليلة.
وقف أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يعتره اليأس ولم يستحوذ عليه القنوط، وإنما واجه هذه الأحداث الجسام كلها بإيمان راسخ وعزيمة ثابتة وتفاؤل عظيم، وهو الذي قال ل
عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جاء يعاتبه على قتال مانعي الزكاة: "رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك، جبارًا في الجاهلية، خوارًا في الإسلام ؟! ماذا عسيت أن أتألفهم: بشعر مفتعل أم بسحر مفترى؟! هيهات هيهات !!"، "والله لأقاتلنَّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صل الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها".
وهو الذي قال للدنيا قولته الخالدة: "إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي؟!"، "أينقص وأنا حي؟ "أي: إن ذلك غير ممكن ولا أقبل به أبدًا مادمت حيًا، ثم أعلنها صريحة وبهمة عالية وبنفسية تحطم صخور اليأس: "والله لأقاتلنهم ما استمسك السيف في يدي، ولو لم يبق في القرى غيري".
هكذا كان حال الصديق -كما قالت السيدة
عائشة رضي الله عنها- وهو ممسك بزمام القيادة، واضح الرؤية قوي العزيمة شديد المضاء صائب الرأي: "فَوَاللَّهِ مَا اخْتَلَفُوا فِي نُقْطَةٍ إِلَّا طَارَ أَبِي بِحَظِّهَا وَعَنَائِهَا وَفَضْلِهَا".
ولم يزل أبو بكر رضي الله عنه يخطط ويجاهد ويرسل البعوث ويسهر على مصالح الرعية حتى استطاع أن يعيد للمسلمين عزتهم ولليائسين تفاؤلهم وللإسلام دولته وللخلافة هيبتها، في صورة رائعة يرسمها لنا التابعي المخضرم
أبو رجاء العطاردي رضي الله عنه، قال: دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين، ورأيت رجلا يقبِّل رأس رجل وهو يقول: "أنا فداؤك، لولا أنت لهلكنا"، فقلت: "من المقبِّل ومن المقبَّل؟"، قالوا: "ذاك عمر يقبل رأس أبي بكر رضي الله عنهما في قتاله أهل الردة، إذ منعوا الزكاة حتى أتوا بها صاغرين".
كن أبا بكر أمته!
وقد اجتمع للأمة في حاضرها ما لم يجتمع لها فيما مضى من التآمر والمكر من عامة الدول الكبيرة سواء أكانت شرقية أو غربية، وعمل على إفسادها من داخلها أعوانًا ظالمين، فهي "ردة ولا أبا بكر لها"، فكن أنت أبا بكر أمته في علو همته وعظيم تفاؤله.
إن موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه يعلمنا أن الداعية المجاهد في ميدان المعركة يجب ألا يتملكه القنوط في بناء العزة وأن لا يستحوذ عليه اليأس في تحقيق النصر، ما دام يرى ولو بصيص أمل في نهاية النفق الطويل.
وهو أولي بأن يتحلى بالأمل لانتصار دعوته، هو أحق بأن يتصف بالتفاؤل لإعزاز دينه، لقد حزم القرآن الكريم اليـأس وندد باليائسين، وقد أثبت صفحات التاريخ أن للأمم المغلوبة التي تتوق إلى المجد انتفاضات وانتصارات.
أَيَنقص الدين وأنا حي؟!
"إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي؟" كلمات معدودات غدت من فم أبي بكر الصديق سنة لأصحاب الدعوات ومن انفطرت -وما زالت تنفطر- قلوبهم كلما ادلهمَّ الأمر بأمتهم وعصفت بها المحن واشتدت بها الخطوب وعظمت بها مكائد الظالمين والمجرمين والمستبدين من داخلها وخارجها.
أَيَنقص الدين وأنا حي؟! حروف بسيطة ترسم منهجًا واضحًا لما يجب أن يكون عليه كل فرد من أفراد هذه الأمة؛ علو في الهمة، قوة في التوكل، ثبات على الحق.
أَيَنقص الدين وأنا حي؟! كانت وما زالت شعارا لرجال الإسلام يستنهضون بها همم الأحرار في كل عصر يذودون بها عن حياض الإسلام ضد مطامع المستعمرين وظلم الظالمين.
فكانت من قبلُ شعارًا للإمام أحمد بن حنبل يوم محنة خلق القرآن، وقد وقف وحيدا كما كان وقف أبو بكر، حتى قال الحافظ علي بن المديني: "إِن الله عز وجل أعزَّ هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث؛ أَبو بكر الصديق يوم الردة، وأَحمد بن حنبل يوم المحنة".
وكانت شعارًا للناصر صلاح الدين الأيوبي يوم أن استنفر المسلمين وأكمل عدة من سبقه في جهاد
الصليبيين، حتى قال في نفسه يوما: "في نفسي؛ أنه متى يسَّر الله تعالى فتح بقية الساحل (ساحل الشام) قسَّمتُ البلاد، وأوصيت وودَّعتُ، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتتبَّعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت".
ولما قاطعه قاضيه ابن شداد بقوله: "ما هذه إلا نية جميلة، ولكن المولى يُسيَّر في البحر العساكر، وهو سُور الإسلام ومنعته لا ينبغي له أن يخاطر بنفسه". فقال: "أنا أستفتيك: ما أشرف الميتتين؟" قال ابن شداد: "الموت في سبيل الله". فقال
صلاح الدين: "غاية ما في الباب أن أموت أشرف الميتتين".
وكانت شعارًا للمظفر سيف الدين قطز، يوم خذل الإسلام أمراء الذل والعار وتخلى عن جهاد
التتار عامة المسلمين، فوقف قطز وحده، ونادى: "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجِّهٌ، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، وإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين ..، أَنا ألْقى التتار بنفسي"، فلما كانت الملحمة في
عين جالوت جعل نداءه: "وا إسلاماه"، "فكان أن رد الله كيد التتار في نحورهم وحفظ الإسلام بموقفه.
وكانت شعارًا لشيخ الإسلام ابن تيمية يوم أن حرض المسلمين على قتال التتار في وقعة
شقحب، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: "إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا".
وكانت شعارًا لكبار الأئمة والمصلحين من المتأخرين، يوم أن ضعفت
الدولة العثمانية وتآمرت عليها الصليبية مع
الصهيونية حتى سقطت الخلافة الإسلامية ، فانبرى للإسلام هؤلاء المصلحون أمثال الإمام
محمد بن عبد الوهاب ورشيد رضا و
حسن البنا و
المودودي و
الندوي و
إقبال و
أحمد ياسين و
مالك بن نبي وغيرهم من كبار المصلحين والمجاهدين، وما زالت جهودهم مضيئة نحو إعداد جيل النصر المنشود.
وهي شعارٌ لرجال فلسطين الذين حفظوا كرامة الأمة بنضالهم وبصدق جهادهم، حتى كانت حجارتهم لهيب نار من سجيل على أحفاد القردة والخنازير، حتى يأتي وعد الله لهم وهم ظاهرون.
أَيَنقص الدين وأنا حي؟! إنها شعارٌ لا بد أن يحمله كل مسلم غيور على دينه وأمته، ليلحق بالركب ويكون من أهل الفضل، الذين قال فيهم رسول الله صل الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك".
- الطبري: تاريخ الرسل والملوك، الناشر: دار التراث- بيروت، الطبعة: الثانية – 1387هـ.
- العصامي المكي: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1419هـ - 1998م.
- الذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: بشار عواد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي، الطبعة: الأولى، 2003م.
- ابن كثير: البداية والنهاية، الناشر: دار الفكر، عام النشر: 1407هـ - 1986م.
- ابن شداد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (سيرة صلاح الدين الأيوبي)، تحقيق: جمال الدين الشيال، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الثانية، 1415هـ - 1994م.
- المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية - لبنان/ بيروت، الطبعة: الأولى، 1418هـ - 1997م.