لقاء البرهان ونتنياهو… ماذا يريد السودان من التطبيع مع إسرائيل؟
لا يزال اللقاء المثير بين رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، ورئيس الحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايته بنيامين نتنياهو، يلقي بظلاله على الساحة السياسية السودانية.
وكرر البرهان في عدة تصريحات له، بأن دوافع اللقاء تنحصر في “تحقيق المصالح العليا للشعب السوداني”، الأمر الذي طرح تساؤلات واسعة حول المصالح التي يمكن أن تحققها السودان من التطبيع مع إسرائيل، في ظل حديث عن مصالح كبرى يمكن أن تحققها تل أبيب من تدشين علاقتها مع الخرطوم.
وكشف مكتب رئاسة الوزراء الإسرائيلية، عبر “تويتر” في 3 فبراير/ شباط الجاري، عن لقاء نتنياهو والبرهان في أوغندا، مضيفا أنهما اتفقا على “بدء تعاون يقود نحو تطبيع العلاقات بين البلدين”.
ورفضت اللقاء غالبية الأحزاب والمكونات السياسية والمدنية في السودان، وكاد أن يلقي بظلال انقسام على مستقبل الشراكة بين المكون العسكري والمدني للحكومة الانتقالية الحالية، بعد أن أعلنت قوى “إعلان الحرية والتغيير” (الشريك المدني في السلطة خلال المرحلة الانتقالية) رفضها انفراد البرهان بالقرار السيادي للبلاد.
وفي 21 أغسطس/ آب 2019، بدأ السودان مرحلة انتقالية تستمر 39 شهرا، تنتهي بإجراء انتخابات يتقاسم خلالها السلطة كل من المجلس العسكري (سابقا) وقوى إعلان الحرية والتغيير، قائدة الحراك الشعبي.
لا مصلحة للسودان
وقال وزير الخارجية السوداني الأسبق الدرديري محمد أحمد، في مقال صحافي وزعه على وسائل الإعلام: “كثيرون من دعاة التطبيع يبررون موقفهم بالقول بأنه آن الأوان لتحقيق مصلحة السودان، ما دامت فلسطين والدول العربية الأخرى قد طبعت علاقاتها بإسرائيل”.
واعتبر أحمد، أنه “لا يوجد أي مصلحة للسودان في التطبيع مع إسرائيل”.
وأوضح ذلك بالقول: “البعض لا زال يتوهم أن التطبيع مع إسرائيل هو بوابة رفع العقوبات الأمريكية عن السودان، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تكون الولايات المتحدة ضامنة للاتفاق فيحضر (وزير الخارجية الأمريكي مايك) بومبيو لقاء عنتيبي، وتلتزم واشنطن برفع العقوبات عن السودان وليس نتنياهو؟”.
وتابع: “لا يمكن أن يحدث شيء من هذا- يقصد رفع العقوبات – بسبب أن ترتيبات من هذا النوع تحتاج موافقة الكونغرس الأمريكي”.
واستطرد: “وهذا ما لا ترغب فيه أو تقدر عليه الإدارة الأمريكية الحالية وما لن يفعله الكونغرس لا لها ولا لنتنياهو، غير أن دعاة التطبيع يثقون في نتنياهو وفي نواياه وفي أنه سينذر نفسه لهذه الغاية وتكفيهم منه كلمة”.
وزاد: “هم (دعاة التطبيع) ينسون أو يتناسون أن ما يهم نتنياهو من كل هذا المشهد هو فتح الأجواء السودانية للعبور من تل أبيب واليها”.
وفي الرابع من فبراير الجاري، قال نتنياهو إن “تل أبيب حصلت على إذن من السودان، للسماح للطائرات المدنية الإسرائيلية بالتحليق فوق أجوائه”، إلا أن البرهان أكد أنه سمح لكل الطائرات ما عدا طائرات شركة “العال” الإسرائيلية في عبور الأجواء إلى تل أبيب.
التطبيع يزيد الاحتقان الداخلي
الكاتب الصحافي والمحلل السياسي وليد العوض، اعتبر أن “لقاء البرهان ونتنياهو رسم سيناريوهات إعادة تشكيل المشهد السوداني داخليا، وعلى ما يبدو أن السيناريوهات الكارثية ستكون الأعلى حظا من خلال ارتفاع معدلات الاستقطاب والاحتقان الداخلي وانعكاس ذلك على إعادة خارطة التحالفات الوطنية من جديد”.
وفي الخامس من فبراير الماضي، قالت قوى “الحرية والتغيير” (الشريك المدني بالحكم خلال الفترة الانتقالية)، إن لقاء البرهان مع نتنياهو يشكل “تجاوزا كبيرا للسلطة التنفيذية”.
وقال “العوض”، إن “اللقاء يفتح الأبواب أمام إعادة بناء تحالفات جديدة في السودان تستند للموقف من التطبيع مع إسرائيل”.
ورأى أن التحالفات السياسية الراهنة قائمة على سياسة الخوف التي تعززها فرضية عودة الإسلاميين في السودان للمشهد السياسي.
وأضاف: “سياسة الخوف تبدد فجوات العلاقات السودانية الإسرائيلية التي يستفيد الإسلاميين من تداعياتها لإثبات صمود مشروعهم السياسي أمام الضغوط والمساومة على فك عزلتهم الدولية وحصارهم الاقتصادي مقابل قبولهم بالتطبيع”.
غير أن المحلل السياسي لا يستبعد تحقق تحالف بين اليسار والإسلام السياسي بالسودان تحت سقف رفض التطبيع.
ماذا تريد إسرائيل؟
وحول هدف إسرائيل من تطبيع علاقتها مع السودان، قال العوض، إن “الموقع الجيوسياسي والعمق الإفريقي للسودان والرغبة في تجفيف بؤرة احتمالات المواجهة الشعبية الرافضة لصفقة القرن الأمريكية هدف رئيسي لتل أبيب”.
وتابع: “إضافة إلى ذلك فإن إسرائيل أعلنت أنها تريد من خلال هذه العلاقات فتح الأجواء أمام حركة طائراتها المدنية نحو أمريكا الجنوبية، وإعادة 7 آلاف لاجئ سوداني يتواجدون بإسرائيل لبلادهم”.
في المقابل يعتبر العوض، أن السودان يريد من خلال العلاقات مع إسرائيل، إزالة اسمه من قائمة الإرهاب والعقوبات الأمريكية والخروج من الأزمة الاقتصادية، والعودة للتفاعل مع المجتمع الدولي.
وأشار الكاتب الصحافي السوداني، أن “الوضع الاقتصادي يخلق حالة تشويش على مركز صناعة القرار السياسي بالسودان الأمر الذي يضع القرار السوداني بين فكي كماشة الابتزاز والتنازلات المؤلمة”.
وجاء لقاء البرهان ونتنياهو، في وقت يتصاعد فيه الرفض العربي والإسلامي لخطة أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 28 يناير/ كانون الثاني الماضي، للتسوية في الشرق الأوسط، وتُعرف إعلاميا بـ”صفقة القرن”.
وباستثناء مصر والأردن، اللتان ترتبطان مع إسرائيل بمعاهدتي سلام، لا تقيم أية دولة عربية أخرى علاقات رسمية معلنة مع إسرائيل.
لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني ورئيس الوزراء الإسرائيلي، أشعل المشهد السياسي في البلاد وأثار ضجة واسعة، وهذا شيء طبيعي ومتوقع. فالخطوة هي أول لقاء علني يُعقد جهارا نهارا بين مسؤولين سوداني وإسرائيلي، ولكنه ليس اللقاء الأول مطلقا، إذ سبقته عدة لقاءات سرية مع نظامي النميري والبشير. والملاحظ أن همس المجالس بتلك اللقاءات السرية لم يكن يكترث كثيرا بمسألة التطبيع، وكان يرى أن هدف لقاءات النظامين المدحورين كان البحث عن الحماية وإطالة العمر. أما لقاء البرهان نتنياهو العلني فقد أثار عدة قضايا هامة وجوهرية، وتتعلق بمستقبل الفترة الانتقالية، وبمسيرة الحياة السياسية في البلاد. وفي مقال اليوم نتناول عددا من هذه القضايا على أن نستكملها في المقالات القادمة.
القضية الأولى هي الشفافية، والتي تعتبر من أهم أركان حُسن إدارة الدولة وتحقيق نجاحاتها في القضايا السياسية والتنموية، وتجسيد معنى الحكم الراشد. بالطبع، أبدا لا تعني الشفافية الكشف عن المعلومات الخاصة بأمن الدولة وسياساتها الدفاعية وتحركاتها الخارجية، وغيرها من المعلومات التي قد يسبب كشفها ضررا بليغا بالأمن القومي. لذا، نحن هنا لا نفترض أن ترتيبات لقاء البرهان ونتنياهو كان يجب الكشف عنها قبل حدوث اللقاء، ولا نعتبر ذلك من الشفافية. ولكن، ما أثارته التصريحات المتضاربة حول من كان يعلم ومن كان لا يعلم، جعلت المواطنين على قناعة تامة بأن أحد أكبر مسؤولين إثنين في البلاد يكذب، وهذه طامة كبرى، وتأتي إشارتنا إلى الشفافية في هذا السياق. من زاوية أخرى، فإن تعبـير «المعلومات المتعلقة بأسرار الدولـة» فضفاض ويخضع في كثير من الحالات لسوء الاسـتخدام، خاصـة إذا كان الهدف منه حجب المعلومـات عـن المواطنيـن لتغطـية أنشـطة فسـاد أو ضد مصلحة الوطن تتم في أجهزة الدولة.
القضية الثانية هي المهددات التي تواجه الفترة الانتقالية وتصيبها بالتصدعات والتشققات، وهي قضية ذات ارتباط وثيق بمسألة الشفافية. فبعد لقاء البرهان نتنياهو، حدثت ربكة شديدة في أجهزة الحكم الانتقالي، وارتفع مؤشر التباعد وعدم الثقة عاليا بين المكونين، المدني والعسكري، الشركاء في إدارة البلد، وكاد الأمر يتسبب في انقسام خطير لا تحمد عقبات تداعياته، خاصة وأن الثورة المضادة تتربص وتنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض، علما بأنها لا تزال تتحكم في الكثير من مفاصل الدولة الرئيسية. صحيح أن التوافق حول الصلاحيات وحول التفسير الموحد للوثيقة الدستورية خطوة في الاتجاه الصحيح، لكننا نحتاج أيضا إلى مزيد من المبادرات التي تُثري وتُغني عامل الثقة بين المكونات السياسية، المدنية والعسكرية، والتي توحد الرؤى حول كيفية مواجهة وتخطي مهددات الفترة الانتقالية، والسير بها إلى الأمام. والبوصلة الهادية هي إعلاء مصلحة الوطن فوق أي مصلحة ضيقة، والوعي بأن التصدع والتشقق في بنيان الفترة الانتقالية هما المدخل المريح لحرب أهلية ضروس في البلد.
لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني ورئيس الوزراء الإسرائيلي، أشعل المشهد السياسي في البلاد وأثار ضجة واسعة، وهذا شيء طبيعي ومتوقع. فالخطوة هي أول لقاء علني يُعقد جهارا نهارا بين مسؤولين سوداني وإسرائيلي
القضية الثالثة تتعلق بأن فترتنا الانتقالية الحالية تغيب عنها، حتى الآن، الرؤية الاستراتيجية لسياسة السودان الخارجية، والتي على أساسها يتم رسم السياسة الخارجية للبلد والمتمثلة في مجموع نشاطات الدولة الناتجة عن اتصالاتها الرسمية مع مختلف فواعل النظام الدولي. وهذه النقطة أراها، كما يراها الآخرون، في غاية الأهمية، نظرا لما سببته الإنقاذ من تخريب واسع في سياسة السودان الخارجية، وجاءت ثورة ديسمبر/كانون الأول وفي مقدمة أهدافها إصلاح هذا التخريب، بل وإعادة النظر في مجمل سياستنا الخارجية لصالح الوطن وشعبه، ووفقا للمبادئ المتوافق عليها دوليا. وهذه الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية، ترسمها أجهزة الدولة المختصة والقوى السياسية الداعمة لها، ويتم بلورتها في برنامج محكم التخطيط ومحدد الأهداف، بما يحقق المصالح الوطنية العليا للدولة. وعلى ضوء هذه الرؤية الاستراتيجية، يتم تحديد أولويات تحرك السودان خارجيا، وتأثيرات هذا التحرك على البلد. فنقرر مثلا تقوية علاقاتنا مع الصين أو أمريكا، أو معهما الإثنتين في آن واحد حتى نستفيد من حالة التنافس بينهما. ونبحث مثلا في كيفية التعامل مع الإتحاد الأوروبي وبريطانيا بعد البريكست لصالح مشروعات التنمية في السودان. ونجيب على سؤال ماذا سيستفيد السودان، أو ماذا سيخسر، إذا وجد نفسه مطالبا بالتحرك الإيجابي تجاه إسرائيل مثلا؟. وما هو الوقت الملائم لأي من تحركات السودان هذه؟. وبدون الرؤية الاستراتيجية، ستتسم كل تحركاتنا بالعشوائية، وتبدو كرد فعل لسياسات الآخرين، وهذا في غير صالح بلدنا.
ونأتي أخيرا للقضية الرابعة، والمتعلقة بالتطبيع مع إسرائيل. وفي البدء أشير إلى أن قضية التطبيع لا يمكن حسمها باستطلاعات الرأي في الشارع، ولا بالزفرات العاطفية من نوع ماذا استفدنا من مقاطعتنا لإسرائيل وماذا قدم لنا العرب مقابل ذلك، وتنامي الدعوات بأننا أفارقة وليس عربا، أو القول بأن معظم البلدان العربية طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، سرا أو جهرا، أو المحاججة بأن الفلسطينيين أصلا مطبعون علاقتهم بإسرائيل وقننوا ذلك في اتفاق أوسلو (اتفاقية أوسلو1، 1993، واتفاقية أوسلو2، 1995)، الموقع في واشنطن بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، والذي يعتبر منعطفا مهما في مسار القضية الفلسطينية، عندما أنهى النزاع المسلح بين الجانبين، ورتب لإقامة سلطة وطنية فلسطينية في الضفة الغربية وغزة. وبذات المنطق، لا يمكن أن يستند الرافضون للتطبيع على تذكيرنا بقانون 1958 والذي ينص على مقاطعة السودان لإسرائيل، ويجرّم التعامل معها، أو تذكيرنا بقرارات الجامعة العربية التي تتحدث عن القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية بالنسبة للشعوب العربية، أو قراراتها المتخمة بالإدانات والشجب لتصرفات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني، أو تذكيرنا بمؤتمر قمة اللاءات الثلاثة في الخرطوم عام 1967، أو باسترجاع زخم المبادرات الشعبية السودانية الداعمة للقضية الفلسطينية….الخ. فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وشهد عالمنا متغيّرات وتطورات عاصفة وكبيرة تستوجب إعادة النظر وإعادة التفكير والخروج باستنتاجات وخلاصات جديدة تتماشى وهذه المتغيرات.