العرب والغرب و"قنافذ شوبنهاور"
معاذ بني عامر
(1)
بين (فاوست) غوته، و(مورتينز) قسطنطين جورجيو؛ كان الحضور الأكبر في الغرب هو لـ (قنافذ
شوبنهاور).
إذاً، نحنُ أمام مقدمتين صغيرتين: 1- فاوست لـ غوته. 2- يوهان مورتينز لـ قسطنطين جورجيو.
ستفضيان إلى (النتيجة القصوى/ المقدمة الكبرى): قنافذ شوبنهاور. وعليه، فالطريق والهدف، هي
قنافذ شوبنهاور، فهما نقطة (البدء/ الانتهاء) بلغة "أوغست كونت". تلك القنافذ التي شرعت –في
لحظة تكوّن شعور جمعي وجامع- باستشعار حاجتها إلى الالتقاء والاتحاد والاقتراب. وإذا كان لنا أن
نصطلح على بدايات عصر الأنوار الذي ابتدأ مع "ديكارت" بالتأريخ لهذا الاستشعار؛ فلكي نضبط
الأطروحة ضبطاً منهجياً، يؤدي غرضيته هَهُنا.
دعوني أرتّب الأمور بطريقة ثانية:
مع بدايات عصر الأنوار، استشعر الإنسان الغربي ضرورة الالتقاء والاتحاد والاقتراب، مع مَنْ هُمْ
شركاء له في الأصل اللغوي والمشترك العقدي، وما إلى ذلك من مشتركات، لما سيكون لذلك
الالتقاء والاقتراب الدور الكبير في مشروعه الحضاري. وبالفعل بدأت محاولات اقتراب القنافذ من
بعضها البعض، لكن وبما أنّ للقنافذ أشواكاً حادة، فقد اقترنت عمليات الاقتراب بانغراس تلك
الأشواك في لحوم بعضها البعض، مما حدا بها إلى الابتعاد، وانتظار فرصة اقتراب أخرى، لكن أقل
ألماً ومعاناة. ومع عمليات الكرّ والفرّ، وما يمكن أن يفضي إليه الإغراق في الأطروحة العقلاينة
للإنسان الغربي الحديث، وتحويله بالتالي إلى آلة هائلة منزوعة عن سياقاتها الأخلاقيـة؛ فقد عمل "
غوته" على استبصار –في عمله الأدبي الكبير والمفصلي (فاوست)- مآلات الأشواك لتلك القنافذ،
فهي قنافذ تشحذ أشواكها بحجارةٍ حادة وقاسية دونما وازع من ضمير أخلاقـي يمكن أن يكبح جماحها
لحظة التواصل مع غيرها من القنافذ. وبالفعل فقد تأكّدت نبوءة "غوته" وكانت عملية التواصل
الكبيرة الأولى بين القنافذ الغربية مجتمعة هي في الحرب العالمية الأولى، فقد هجمت تلك القنافذ
على بعضها البعض، وتواصلت تواصلاً التحامياً، مما جعل الأشواك الحادة تنغرس حتى آخرها في
اللحم، كانت نتيجته كثير من الدماء التي سالت مدرارة في العالم الغربي، وأحدثت مقتلةً عظيمة راح
ضحيتها خلق كثير. ثم اقتربت هذه القنافذ مرة أخرى اقتراباً كبيراً، فكانت مقتلة أخرى في الحرب
العالمية الثانية. ومع نهاية تلك الحرب المدمرة، كان على نبوءة "غوته" أن تختفي أو تتوارى –بما
يبقي على متعة النص الأدبي أو ما اسميّه باللذة الوحشية في النص الأدبي- رحمةً بالإنسان الغربي،
ودرءاً لخطر فنائه. لكن على نبوءة أخرى أن تكون قد أنجزت لكي لا يحدث فراغ معرفي يقود إلى
مذبحة ثالثة. وبالفعل كان "قسطنطين جورجيو" قد جهزّ هذه النبوءة في عمله الأدبي الهائل
والمفصلي (الساعة الخامسة والعشرون). وبموجب هذه النبوءة أخذت القنافذ بالاقتراب من بعضها
البعض، لكن ليس باندفاعٍ كما في المرّات السابقة وباستخدام غير أخلاقي لتلك الأشواك المؤذية، بل
بالاقتراب اللطيف والحميم، بما جعلها تتواءم أخيراً وتتلاصق دون أن تؤذي بعضها، بطريقة أفضت
إلى نموذج حضاري صار مثالاً للاقتداء من قبل كثير من الأمم والحضارات.
(2)
لنعد خطوة إلى الخلف، ونسأل: أين موقع العرب في هذه الأطروحة؟
يخطئ العرب –إذا ما أرادوا التأسيس لمشروع حضاري جديد- مرتين:
مرة ساعة يريدون استعادة عصر الأنوار الغربي بصيغته العقلانية، دون أن يكون لديهم مُدونـة
أخلاقية تُؤسِّس لمواضعات خيرية في الاجتماع الإنساني. فالعلاقة مع الغرب لا يمكن أن تكون علاقة
معرفية محضة. فاستحضار المعارف الغربية وتبيئتها في الجغرافيا العربية ليس سبباً كافياً لانطلاقةٍ
حضارية جديدة، بل لا بد لنا أن نعمل على استدراك الخطر الداهم الذي وقع فيه الغرب ودفع ثمنه
حربين مُدمرتين، وذلك بالاشتغال على مُدونـة أخلاقيـة تعمل جنباً إلى جنب، مع تقدّم المعارف
وتطورها، وذلك لكبح جماح الأشواك التي يمكن أن تنمو على القنفذ العربي، وتقسو ساعة يبدأ
بالتعامل ليس مع أبناء جلدته فحسب، بل والتعامل مع الإنسانية جمعاء. فأخطاء عصر الأنوار
بصيغته الغربية يمكن تجاوزها، إذا لم نشأ أن نقع في المحظور، وندمر حيواتنا، وبعد ذلك نقعد نندب
ونصرخ بعالي الصوت: ليتنا لم نفعل.
ومرةً ساعة يعتقدون أن النموذج الأخلاقي الغربي، لا سيما عقب الحرب العالمية الثانية ونبوءة "
قسطنطين جورجيو"، هو نموذج عابر للإنسان على الإطلاق، بما يجعلهم ضمن فلكه، ويجعل الغرب
ينحاز لقضاياهم بشكل أوتوماتيكي، فالضمير الغربي يمكن أن يتبكّت على ما يحيق بنا من مآس
وويلات.
ولتصحيح هذين الخطأين، أعود فأكرّر بنموذج القنفذ الغربي، فالمشروع العقلاني –من جهة- الذي
ابتدأ بعصر الأنوار، لم يكن للإنسانية جمعاء، بل كان للغرب تحديداً –وإن امتدت كثير من تمظهراته
خارج حدود العالم الغربي- لغاية النهوض بمشروعهم الحضاري، وهذا ليس عيباً بالأساس. لكن فهمه
من قبلنا شيء ضروري لكي لا يصار إلى تحميله حمولات إنسانية تفوق بنيته الأساسية. ويتم –من
ثمَّ- الركون إلى أنساقه المعرفية والقبول بها كما هي دون مراجعة أو تمحيص. بل الأولى –لغاية
النهوض الحضاري- بسط تلك الأنساق وجعلها في متناول العقل النقدي، ليس لغاية هدمها هدما
عبثياً، بل لتجاوزها، والبناء عليها أبنية جديدة من شأنها أن لا تكون للإنسان العربي فحسب، بل
للإنسان على الإطلاق.
ومن جهة ثانية، المشروع الأخلاقي الغربي، الذي ابتدأ عقب الحرب العالمية الثانية، لم يكن للبشرية
جمعاء، بل كان خاصاً –اقتضاء لواقع أطروحة القنافذ- بالعالَم الغربي. لذا قد نجد الغربي يبكي بكاءً
شديداً لفقدانه قطته أو ضياع كلبه أو موت جندي من جنوده في المجاهيل الأفريقية، لكنه سيتعامل
ببرودٍ مع شعب عربي أو أفريقي يُباد على يد طاغية أو ديكتاتور، فالمسألة لا تعنيه من قريب أو
بعيد. وذلك أيضاً ليس عيباً فيه، بقدر ما هو سوء تقدير من الطرف الآخر وتحميله للمشروع
الأخلاقي الغربي أكثر مما يحتمل.
لذا –لغاية التقدّم ناحية الأمام- نحن بحاجةٍ إلى مشروعين: 1- عقلاني. 2- أخلاقي. يستفيدان من
أطروحة القنافذ الغربية، ليس لغاية التموضع فيها تموضعاً يُعيد إنتاج السيرورة الغربية، سواء في
صورتها العقلانية التي أفضت إلى حربين عالميتين مدمرتين، أو في صورتها الأخلاقية التي جعلت
من الإنسان الغربي إنساناً مشطوراً على المستوى الوجداني، فهو إذ يبكي –كما أسلفت- إذا ما
أصاب أبناء جلدته أي مكروه، فإنه يضحك لمآسي غيره، بل يُسعد ويتسلّى بها ويسعى للاستفادة منها
قدر الإمكان. بل لغاية، تجاوز هذه الأطروحة (أطروحة القنافذ)، والتأسيس لمعمار حضاري، يدمج
بين ما هو معرفي وما هو أخلاقي في الوقت ذاته، بحيث يتجلّى الإنسان في أبهى الفلسفة
والأنطولوجية؛ مرةً بصفته حيواناً عاقلاً تجاوز محنة حيونته بعقلٍ خيّر وسليم؛ ومرةً بصفته كائناً
أخلاقياً، تجاوز محنة عوالقه الأسرية والمجتمعية والوطنية والقومية والآيديولوجية والطائفية
والدينية، وسعى إلى خير الإنسانية جمعاء.