المكابدة في الجهل
معاذ بني عامر
(1)
ما بين نصين قُرآنيين:
(... وَقُل رَبِّي زِدْنِي عِلْمَا) (سورة طه/ الآية 114)
(... وَمَا أَوتْيِتُم مِن العِلمِ إلَّا قليلاً) (سورة الإسراء/ الاية 85).
على المُتديّن (أتحدّث هَهُنا عن المتدين بنسخته الإسلامية، لأني أنطلق في هذه المقاربة من نصٍّ قرآني) أن يُكابد في (الجهل) المُتنامي معرفياً، لا في (المعرفة) المُنحدرة ناحية الجهل الثابت واليقيني. لأنّ أيّ يقين معرفي هو اكتمال، والاكتمال لا ينسجم مع صيرورة الإنسان الدفّاقة والمُنسجمة مع عمليات الأيض الوجودي (الهدم والبناء). وإلا لتساوى في المرتبـة الوجودية من ناحية معرفية، مع القـوة المُطْلَقة، ولتعطلت بالتالي مسيرة الحضارة الإنسانية القائمة أساسًا على نقصٍ حادث في بنية الإنسان التكوينية، لذا ثمة سعي دائم لتجاوز هذا النقص، والعبور من ثمَّ إلى تكوين أكثر اكتمالاً. إلا أنّ ثمة هاجسًا مبدئيًا لغاية اعتبار ذلك التكوين منطقة جهل لا منطقة معرفة، لكي تكون حافزاً لانطلاقة جديدة، لا لثبات دائم.
إذاً، ثمة حثّ قرآني على الجهل المعرفي، اقتضاء لواقع نصيّن قرآنيين: النص الأول ينزح ناحية الزيادة (... وَقُلْ رَبِّي زِدْنِي عِلْمَا)، والثاني ينزح ناحية القليل (... وَمَا أَوتْيِتُم مِن العِلمِ إلَّا قليلا). ما بينهما –وفقاً لرؤية تأويلية تتأسّس على بُعد حضاري- على المُتديّن أن يندمج في معرفة مُتنامية إلى ما لا نهاية، بما يتجاوز حدود المعارف الرهبانية التي تبقيه بتولاً في النصوص الدينية، إلى ما هو خارج هذه النصوص، اعتباراً لإفضاءات النص القُرآني كما وردت في النصّين أعلاه. فهي إفضاءات تتجاوز حدود المسطور القُرآني، إلى نِتاجات العقل البشري في عموميته، الذي لا يفتأ يتنامى في الزيادة بشكلٍ مُطْلَق. إذ ليس هناك نقطة قصوى أو معرفة كاملة، بل ثمة تهاوٍ أبدي في الجهل المعرفي، فهو إذ يصل فإنه ينطلق من جديد في تعبير عبقري عن ثيمة الوجود الإنساني في الزمن والمكان، فهي ثيمة متموضعة في الحركة وليس في الثبات. على عكس المعارف الرهبانية التي ستفضي نهاية المطاف إلى نقاط قصوى، تحصر الإنسان في (كينونة معرفية نهائية)، هو في غنى عنها، طالما أنه موجود هُنا والآن.
وعليه، فالنصّ القرآني، مؤشر على ما يمكنني تسميته بـ (تجاوز القرآن) إلى (العالَم)، أو ما اصْطَلِحُ عليه في العادة بـ الخروج من الدين؛ والدخول إلى العالَم. فالعلاقة المُتوترة توترًا حيويّا بين الآية 114 من سورة طه، والآية 85 من سورة الإسراء، لا بُدّ لها من مخرج خارج الصيغ اللاهوتية التي تموضع الإنسان في أنساق شبه أبدية على المستوى المعرفي. لذا سيكون الإفضاء إلى ما هو مُفارق للنصّ الديني ضرورةً إلى نتاجات العقل، بصفته الهولوكوست الكبير الذي تترمّد فيه المعارف البشرية ثم تعود للانبعاث من جديد، مرة تلو الأخرى. بما يجعل الإنسان –عبر نتاجات عقله المستمرة والجديدة- متحضّرًا لأية إزاحات حضارية جديدة.
من هنا، أمكنني التأشير على نقطتين جد هامتين في هذا المقام:
التحريض على الكَبَد في الجهل المعرفي، بصفته المُنْجَز الأكبر للإنسان في هذا العالَم. فالصيغة القرآنية المزدوجة: "زِدْنِي" و"إلا قليلاً"، هي صيغة قلقة أساساً، غير ثابتة عند نقطة معينة، بل هي متأرجحة بالأحرى. لذا ستتجلّى المكابدة المعرفية لغاية بناء الحضارة الإنسانية في الجهل أكثر من تجليها في يقين ثابت.
الدعوة لولادةٍ جديدة خارج النص الديني، وذلك بتجاوز مرحلة المعارف اللاهوتية كما هي مُصاغة في النص الديني، ومعاينة الشرط العقلي إذ يُعْمل أداته في مادة العالَم. فتلك المعارف اللاهوتية شبه ثابتة، ولا تصلح إلا لتُطامِن المتدين، لكنها لا تصلح لإنجاز المعمار الحضاري في هذا العالَم. لذا ثمة دعوة لتجاوزها، والانتباه إلى ما يمكن أن يُحدثه العقل ساعة إعماله لشرطه في مادة العالم، إذ ستنقدح شرارة تُولّد طاقة كبيرة لديها القدرة على تفجير مكامن الإبداع الحضاري المنشود.
(2)
يبدو وضع المُتدين (أكرّر أني أقصد المتدين إسلاميا) عكس ما طرحته سابقاً، فهو في وضعٍ يقيني، لا في وضع قلق، لذا لا معنى له على المستوى المعرفي. فهو قارّ وثابت معرفياً داخل النص، وليس خارجه؛ رغم أنّ الآيتين السابقتين ترفضان النهج اليقيني بشكلٍ تام.
وحتى داخل معارفه الدينية، يميل أيضا إلى الثبات أكثر من ميله إلى الحركة. فهي معارف أنجـزت قديمـاً، ولا معنى لها الآن إلا عبر عمليات اجتـرارية، أفقدتهـا بريقهـا ولمعانها، الذي يمكـن أن يسطع من جديد، في حال تمّ تفجير حقولها الدلاليـة بشكل مستمر، وإخضاعها بشكلٍ دائم لناموس العقل البشري وقانونه الجدلي. بل إن حقل الدراسـات الدينيـة يكاد يكون معدومـاً، إلا ما ندر، إذا ما تعلّق الأمر بالنصّ القرآني، خشية عليه من عقول المُحدثين. في حين أن النصّ القرآني نفسه يدعو كما أشرتُ آنفاً (قد يعتبر البعض أن القرآن لا يدعو لذلك، وأن استقرائي للمسألة لا يعدو أن يكون هلوسة. أنا أقول سلفاً إن ذلك حقّه، وينسجم أصلاً مع أطروحة الخوف على الدين من أي نقد، رغم تغنيّنا ليل نهار بصلاحية الدين لكل زمان ومكان، لنكتشف أنها صلاحية وراثية أكثر منها معرفية) إلى تجاوز المعارف الدينية، ويدعو إلى الانتقال من النصّ إلى العالَم، على اعتبار أنها معارف –أي المعارف الدينية- غير قادرة على إنجاز وجود الإنسان في هذا العالَم حضاريًا.
فالمتدين المسلم اليوم لا يُكابد في الجهل، لكي يرتقي بمعارفه المرة تلو الأخـرى، بل هو قارّ وثابت في أنساق معرفيـة تكاد تكون دائمة. فإذا أخذنا –من جهة- معارفه الدينية فسنجد أنها شبه ثابتة، بل إن ثمة خطراً في إعادة النظـر إليها، ليس لخوفه من تزعزع المنظومـة الدينيـة في ذهنه فقط، بل في فقدانه لجزء كبيره من معناه في هذا العالَم أيضاً. فهو معنى مرتبط ارتباطاً حميماً بها –وهذا ينطبق على المسلم المتدين سواء أكان مفكراً أم فقيهاً، فالمشهد الخلفي الذي يتحركان فيه واحد- وأي مراجعـة لأطروحتها التي أنجزت قديما، سيزعزع كيانه أنطولوجيـاً في هذا العالَم.
وإذا أخذنا –من جهة ثانيـة- معارفه الدنيويـة، سنجد أنها ملتحمة التحام المشيمة بالجنين، فهي معارف تنظر إلى العالَم من داخل النصّ إلا في حدود قليلة ونادرة. وغير قادرة على الخروج من النصّ معاينة العالَم كما هو. بل لا زالت بحاجةٍ إلى المعارف الدينية لكي تتعامل تعاملاً أريحياً في كل الشؤون الحياتيـة، ابتداءً من حجاب المرأة، وليس انتهاء بالخلايا الجذعيـة.
لذا –عوداً على بدء- المسلم المتدين، يرفض الآن رفضاً مزدوجاً أطروحة (المكابدة في الجهل) لأنها غير منسجمة مع حشمته التي يدعيها ليل نهار، نظراً لتموضعه ابتداءً في (التديّن التاريخي)، وليس في (النصّ المُؤسِّس). فهو إذ سيعبر إلى أطروحة المكابدة في الجهل، عليه أن يعبر برزخين: 1- برزخ التدين. 2- برزخ الدين. لكي يصل إلى العالَم. وتلك قضية بحاجةٍ أيضاً إلى مكابدات كبيرة –على المستويين الفردي والجمعي- تشتغل على محورين في الوقت عينه: 1- إخضاع التديّن التاريخي للنصّ المُؤسِّس. 2- الاندماج أكثر في القلق المعرفي، بعيداً عن أية ثوابت يقينية