الرأسمالية مساعِدةً للدين
صحيح أن البلد بعيد في نظامه الاقتصادي عن الرأسمالية الصرفة، لكون مؤسسات الدولة تحتكر الكثير من القطاعات الحيوية، وليس من صالحها أن تفسح المجال لدخول الخواص على خط المنافسة، وحتى إن فعلت (وأفسحت المجال) ستثقل كاهل خصومها بالضرائب ودفاتر التحملات وغيرها من الشروط التعجيزية، كي توهم المراقبين بوجود فضاء خصب وحر للاستثمار، وتكسر في الوقت نفسه شوكة الأنداد.
على كل حال، رغم الجدل القائم حول الوضع الاقتصادي بالبلد، وتلك المفارقات العجيبة في الخطاب الرسمي الذي يراهن ظاهرياً على تشجيع القطاع الخاص (باعتباره رافعة للتنمية ومساهماً في خلق فرص الشغل)، بينما تحارب جهة الخطاب نفسها القطاع الخاص لدى محاولته ولوج ميادين ألفت هي الاستحواذ عليها (هذا تجسيد لفلسفة السيطرة الحكومية التي تُمٓرّر غالباً تحت مسميات من قبيل “حماية الإقتصاد/المنتوج الوطني” )…
رغــم فقاعة الجدل تلك، يتقاسم القطاعان العام والخاص شغفهما بالدين والموروث الثقافي كوسيلة لترويج عدة منتجات، سواء كانت سلعاً أو خدمات.
في هذا الصدد، سأسرد بعض الأمثلة بادئاً بالمناسبات الدينية (الإسلامية) التي تلقى خلالها الكثير من البضائع إقبالاً منقطع النظير. ولا يقتصر الحديث هنا على أرباح الشركات الكبرى، بل حتى أصحاب المقاولات المتوسطة والمشاريع الصغيرة، كالباعة المتجولين وتجار السوق أو الحرفيين (سواء كانت معروضاتهم محلية الصنع أو مستوردة(.
الأعياد الأساسية (الأضحى والفطر) تعتبر فرصة سانحة لبيع مجموعة متنوعة من المواد الاستهلاكية ومنتوجات أخرى موجودة مسبقاً في السوق، لكن على نطاق أوسع؛ أذكر هنا المواصلات (النقل) والاتصالات (هاتف، إنترنت) والمواشي والحلويات والزرابي والألبسة التقليدية والعطور، إلخ. الأمر يشمل أيضاً حلول شهر رمضان أو ذكرى المولد النبوي، حيث تنتعش مبيعات العديد من السلع بشكل ملحوظ، خصوصا وكالات الأسفار التي تقدم عروضاً تخص العمرة، بل هناك من الوكالات من تفرغت للحج والعمرة وجعلتهما دعامتين مركزيتين لتحقيق المداخيل، والأثر الإيجابي سيلحق بديهياً وبطريقة مباشرة شركات الملاحة الجوية.
ولكي أكون منصفاً، استغلال الدين في التسويق لا ينحصر في رقعة جغرافية معينة كالوطن العربي، فحتى في مجتمعات لائكية تندُر فيها مظاهر التدين، تجد الناس مقبلين على شراء صنوف مختلفة من المنتوجات بمجرد اقتراب مناسبة دينية أو تراثية، لأن هذه الأخيرة تمثل جزءاً من الهوية الجماعية التي لا يريد الأفراد التخلي عنها، على الرغم من كونها غير إلزامية. وهذا ما نجده في العالم الغربي الذي راهن على العلمانية، لكن فاعليه الاقتصاديين نجحوا في الحفاظ على الدين كمعتقد فكري مُكْسِب مادياً؛ بل إن تأثير تلك المناسبات امتد ليشمل مجتمعات لا تمثّـل الديانة نفسها، فأصبحنا نرى أن العديد من غير المسيحيين يحتفلون أيضاً بالكريسماس والهالووين والثانكسغيفن والإيستر والفالنتاين …قد يرى البعض الأمر نتيجة طبيعية للعولمة وتجسيداً لنظرية الغزو الثقافي، لكنه أيضاً استراتيجية اقتصادية تشرف عليها كبرى الشركات التي تغتني من هذه المناسبات ومن مصلحتها عدم اندثارها، بل قد تعمد أحياناً إلى ابتداع مناسبات شبه دينية أو اجتماعية (يوم الأم، يوم المرأة، …) لتعطي الناس بالتالي أسباباً جديدة لشراء الهدايا وغيرها.
قد يتبادر لذهن قارئ هذه السطور أن الرأسمالية هي التي تنتفع من الدين، لكن الحقيقة أن الدين بدوره يستفيد من نشاط دٓعٓوِيّ غير مباشر تمارسه الشركات لدى ترويجها للمنتوجات باسمه، وهذا الفعل في نظري سيساعد في استمرار الديانات (ولو شكليّا) والتقاليد الشعبية لعقود من الزمن.