دوافع السياسة البريطانية الجديدة وتطوراتها
بعد نحو عشرين عاماً من السياسات البريطانية الغاشمة في فلسطين، تلك السياسات التي بنيت على مصالح آنية قصيرة النظر أملتها الظروف الدولية المستجدة التي تمخضت عنها الحرب العالمية الأولى بدأت الحكومة البريطانية في أواخر الثلاثينات، إثر تأزم الوضع الدولي مجدداً، في إعادة النظر في تلك السياسة بهدف إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة العربية.
فمنذ أواسط الثلاثينيات، بدأت تلوح في الأفق البريطاني مخاطر جديدة تهدد مكانتها كقوة عظمى وحيدة في العالم، في مقدمتها استعادة ألمانيا لقوتها وبدء تطلعها مع صعود الحزب النازي بزعامة هتلر إلى سدة الحكم، نحو مجال حيوي يمتد من أوروبا إلى المناطق الحيوية من عالم الإمبراطورية البريطانية، وبخاصة المنطقة العربية التي تأكد وجود المخزون الهائل من النفط فيها.
هكذا لم تعد المصالح البريطانية في المنطقة العربية منصبة على حماية قناة السويس وطرق المواصلات إلى الهند، بقدر ما أصبحت تعني ضرورة الحفاظ على السيطرة على منابع النفط العربية، ليس فقط من الخطر الألماني، وإنما أيضاً من منافس آخر أخذت قوته تتعزز خلال الثلاثينيات، والمتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية التي حصلت على أول امتياز للنفط في العربية السعودية في ذلك الحين. وفي سياق تصاعد القوة الأمريكية المنافسة والمهددة للإمبراطورية البريطانية، بدأت تلوح في سماء السياسة البريطانية مخاطر تحول الحركة الصهيونية التي أنشأتها بريطانيا ورعتها نحو الولايات المتحدة، والتي سوف تستغلها لطرد بريطانيا من المنطقة العربية. وأمام تعاظم هذه المخاطر يوماً بعد يوم عدد وزير الخارجية البريطاني أنطوني إيدن عام 1937 الأسباب التي تدعو بريطانيا إلى القلق والتخوف من احتمال اضطرارها الدخول في حرب جديدة، وهي:
- حماية سلامة ووحدة الإمبراطورية البريطانية
- حماية فرنسا وبلجيكا ضد أي هجوم ألماني.
- حماية قناة السويس.
- حماية العراق.
كذا نما تيار قوي في الأوساط السياسية البريطانية يدعو إلى ضرورة إعادة النظر في السياسة العربية لبريطانيا. فبعد عقد المعاهدة البريطانية ـ العراقية في عام 1930 وحصوله على الاستقلال في عام 1932، ثم عقد معاهدة 1936 مع مصر، بدا واضحاً لهذا التيار، وبخاصة بعد اندلاع الثورة في فلسطين عام 1936، أن تلك الثورة في ظل الظروف الدولية المستجدة، من شأنها إشاعة عدم الاستقرار السياسي في المنطقة، والتأثير في الرأي العام العربي وتأليبه ضد بريطانيا، في وقت هي في أمسّ الحاجة فيه لتعزيز رصيدها في المنطقة.
ففي أواسط الثلاثينيات، وبخاصة بعد اندلاع الثورة الفلسطينية عام 1936، بدأ التفكير في بريطانيا باتجاه ضرورة إيجاد حل لمشكلة فلسطين. وقد تعزز الاتجاه نحو تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية ونقل العرب من الدولة اليهودية وذلك مع صدور تقرير لجنة بيل الملكية التي أوصت في تقريرها الصادر في 22/6/1937 بالتقسيم، حيث ما لبثت الحكومة البريطانية أن أصدرت بيان سياسة في 7/7/1937 أيدت فيه فكرة التقسيم وطرحت الموضوع على مجلس العموم الذي أوصى بدوره برفع الموضوع إلى عصبة الأمم قبل المضي في التنفيذ. غير أن لجنة الانتدابات في العصبة وافقت من حيث المبدأ على فكرة التقسيم ولكنها أوصت بتأجيل إقامة الدولتين وتمديد فترة الانتداب.
وفي اجتماع لاحق لمجلس العصبة في أواخر 1937، شن الأعضاء حملة شعواء على تقرير لجنة بيل، على أساس أنه يوصي بإقامة دولة يهودية صغيرة لا تملك أية مقومات وأنه لا بد للدولة اليهودية أن تضم مناطق استراتيجية وتكون قابلة للحياة.
غير أن الاتجاه الذي أخذ يقوى في الدوائر السياسية البريطانية في ذلك الحين، هو ضرورة عدم التعامل مع المشكلة الفلسطينية بمفردها، وضرورة إشراك قيادات الدول العربية المجاورة في مناقشة موضوع التقسيم أو أي سياسة بديلة لذلك. ومنذ نوفمبر 1937، في الوقت الذي أخذت فيه الأوضاع الدولية بالتأزم، صدرت عدة مذكرات وبيانات سياسية عن الحكومة البريطانية تؤكد على هذا التوجه، منها مذكرة صادرة عن وزير الخارجية أنطوني إيدن في نوفمبر 1937، جاء فيها بأن السياسة البريطانية المقبلة في فلسطين لا يمكن التعامل معها بمعزل عن الدول العربية المجاورة، "فالبلدان العربية الشرق أوسطية تشكل كلاً عضوياً ومترابطاً بشكل وثيق.. إن أية سياسة لنا في فلسطين ستنعكس آثارها على جميع المنطقة وتؤثر كثيراً في مستقبل علاقاتنا مع قوى الشرق الأوسط وبخاصة العراق ومصر والعربية السعودية وهي دول تسيطر على مواصلاتنا البرية والبحرية إلى الشرق". ويشار إلى أن هذا الرأي قد جعل مجلس الوزراء ينقلب على فكرة التقسيم.
ومع استقالة وزير المستعمرات، أورمسبي غور المعروف بانحيازه القوي إلى الصهيونية في عام 1938، ومجيء مالكولم ماكدونلد، الأكثر اعتدالاً وموضوعية إلى وزارة المستعمرات، تعززت التوجهات نحو العرب في الحكومة البريطانية. ولم يتردد ماكدونلد من السفر إلى فلسطين متخفياً للإطلاع بنفسه على حقيقة الوضع فور تسلمه منصبه الجديد. وفي العام نفسه، قام بإرسال لجنة وودهيد إلى فلسطين التي أقرت في تقريرها الصادر في 27/4/1938 بأن التقسيم غير عملي "لأنه يتطلب نقلاً إجبارياً للعرب من الدولة اليهودية[20]، حيث ما لبث أن صدر بيان سياسة جاء فيه: "إن تقرير اللجنة يبين أن التقسيم يتضمن صعوبات جمة.. ولذا فهو غير عملي، لذلك فإن الحكومة ستواصل تحمل مسؤولياتها في فلسطين، وهي مصممة على بذل كل جهودها من أجل تعزيز التفاهم بين العرب واليهود، والدعوة إلى مؤتمر يشارك فيه العرب.. وإذا لم يؤد المؤتمر إلى أي اتفاق خلال فترة معقولة، فإن الحكومة ستتخذ قرارها وتعلن سياستها.
وقد يكون صحيحاً القول بأن الحكومة البريطانية كانت تفكر في الرفض الصهيوني المتوقع لمقترحاتها، حيث أن حضور الدول العربية في المؤتمر كان من شأنه، ليس فقط إرضاء العرب في ظل الوضع الدولي المتوتر، بل كان يمكن له أن يرجح كفة الجانب العربي الفلسطيني، ويعمل في الآن ذاته على تهدئة الفلسطينيين ودفعهم لقبول الأفكار البريطانية الجديدة التي تتطلب موقفاً معتدلاً منهم. غير أنه يبدو واضحاً أن هذا لم يحدث على النحو الذي تصورته الحكومة البريطانية، حيث لم يتمكن العرب من دفع الفلسطينيين إلى قبول الكتاب الأبيض والتعاون مع الحكومة البريطانية على تطبيقه. لذلك تمسكت الحكومة البريطانية بالكتاب الأبيض بعد إعلانه رسمياً، ويستدل على ذلك من القرارات التي اتخذتها بشأن الهجرة والأراضي خلال عامي 1939 ـ 1940. ولم يكن ذلك بعيداً عما لمسته في المواقف العربية غير الفلسطينية من تأييد للكتاب الأبيض. وقد جرى كل ذلك في وقت كانت فيه الحرب العالمية الثانية ما زالت في مراحلها الأولى، وحينما كان الوضع العسكري البريطاني سيئاً.
في أيار 1940 حدث تبدل حكومي بريطاني أتى بونستن تشرشل المؤيد للصهيونية، إلى رئاسة الحكومة. وعلى الرغم من أنه لم يتمكن من إلغاء سياسة الكتاب الأبيض، فهو قد سعى إلى عرقلتها ومحاولة الالتفاف عليها. فمن جهة، عمد تشرشل في أيار 1941 إلى تغيير الوضع الاستراتيجي العسكري في المنطقة العربية، حيث بعث بقواته إلى العراق فقضى على حركة رشيد عالي الكيلاني ـ الحاج أمين الحسيني وبعد إتمام المهمة وإعادة الوصي على عرش العراق ورئيس وزرائه نوري السعيد إلى لحكم، انطلقت القوات البريطانية في حزيران إلى سورية، فأسقطت حكومة فيشي الفرنسية الموالية لألمانيا ونصبت مكانها حكومة فرنسا الحرة "الموالية للحلفاء". وبذلك أصبحت بريطانيا مسيطرة سيطرة كاملة على المنطقة العربية الممتدة من العراق حتى مصر، على الرغم من وجود حليفتها الضعيفة فرنسا في سورية ولبنان، ولم تعد هناك تخوفات بريطانية جدية من احتمال قيام أية تحركات عربية مناهضة لها.
في الآن ذاته بدأ تشرشل يفكر في أن إقامة شكل من الوحدة أو الاتحاد العربي المحدود من شأنه أن يقضي على سياسة الكتاب الأبيض ويتيح إقامة حكم ذاتي يهودي مستقل في فلسطين. وكان المشروع المفضل لدى تشرشل في هذا المجال هو مشروع فيلبي.
والجدير بالذكر أن مشروع الكولونيل فيلبي، الذي كان يعمل في الثلاثينيات مستشاراً سياسياً للملك ابن سعود، هو في الأصل فكرة صهيونية طرحها بن غوريون على فيلبي في أواسط الثلاثينيات. ويتلخص مشروع بن غوريون في إقامة اتحاد فيدرالي أو كونفدرالي عربي برئاسة الملك ابن سعود، فيضم إلى جانب العربية السعودية كلاً من العراق وشرقي الأردن وفلسطين، شرط الاعتراف بأن تكون فلسطين دولة يهودية ضمن الاتحاد، والموافقة على إطلاق الهجرة اليهودية إليها. وقد راقت الفكرة لفليبي الذي أخذ يدرسها ويجري تعديلات عليها حتى أصبحت تعرف بمشروعه، وبخاصة أن فليبي كان يسعي في ذلك الحين إلى إحباط توجهات تي أي لورانس، المعروف بلورانس العرب، الذي كان يعمل هو الآخر على مشروع اتحاد عربي برئاسة أمير شرقي الأردن، الأمير عبد الله، وفي السياق ذاته بالنسبة لفلسطين. وقد يكون بن غريون هو صاحب فكرة هذا المشروع أيضاً.
استهوى مشروع بن غوريون ـ فليبي ونستون تشرشل، ومن غير المستبعد أن سبب ذلك هو أن هذا المشروع إنما يوفر لتشرشل اصطياد ثلاثة عصافير بحجر واحد. فالمشروع في الأساس صهيوني بمعنى أن اليهود يؤيدون اتحاداً عربياً يضمن لهم أقامة حكم ذاتي يهودي في فلسطين. والثاني هو أن تشرشل صاحب النظرة الثاقبة يدرك حجم التطلعات الأمريكية للسيطرة على المنطقة ولو من خلال المشروع الصهيوني، لذلك، فإن الولايات المتحدة ستتعاون مع بريطانيا على إنجاح المشروع. أما السبب الثالث والأهم، فهو السيطرة المباشرة على النفط السعودي من خلال حكومة ذاتية يهودية تشكل جزءاً من الاتحاد. ولا يمكن إغفال أن النفط كان وراء الفكرة الأساسية للمشروع الذي طرحه بن غوريون.
في 19/1941، وفيما كانت القوات البريطانية منهمكة في العراق وتستعد للتوجه إلى سورية، وزع تشرشل مذكرة غير رسمية على أعضاء حكومته، اقترح فيها تشكيل "خلافة" إسلامية يكون الملك ابن سعود هو الخليفة فيها وتضم إلى جانب العربية السعودية كلاً من العراق وشرق الأردن وفلسطين اليهودية ذات الحكم الذاتي. ثم أضاف إليها سورية وكذلك جبل لبنان ضمن صيغة حكم ذاتي.
غير أن وزارة الخارجية ووزارة المستعمرات وقفتا ضد أفكار تشرشل وتوجهاته، وذلك انطلاقاً من أن العديد من العرب الآخرين وبخاصة الهاشميين في العراق وشرقي الأردن، لن يقبلوا بذلك، حيث ما لبث وزير الخارجية أنطوني إيدن أن تصدى لتلك الأفكار بطريقة غير مباشرة في خطابه الشهير بخطاب مانشن هاوس في 29/5/1941 والذي قال فيه بأن إحداث انقلاب رشيد عالي في العراق "يجب أن لا تؤثر في علاقة بريطانيا بالعرب أو في تضامنها مع قضاياهم"، وبأن بريطانيا لن تتردد في دعم أية وحدة يترقبها العرب أنفسهم. وكانت هناك قناعه قوية في وزارة الخارجية وفي الاستخبارات البريطانية بضرورة التزام بريطانيا بسياسة الكتاب الأبيض وبأن هذه السياسة "لا تتعارض ولا تنفي إمكانية دعم أي اتحاد يترقبه العرب.
وقد شهدت السنوات الثلاثة اللاحقة مناقشات ومداولات عديدة بشأن السياسة البريطانية في فلسطين والمنطقة العربية ككل، وأصبحت مسألة الوحدة أو الاتحاد العربي ومسألة فلسطين تشكلان مسألة واحدة مترابطة سلباً أو إيجاباً.
فالرأي السائد في الأوساط البريطانية في ذلك الحين كان يتمثل في أن طرح الأفكار حول اتحاد عربي في الوقت الذي لم يتم فيه استكمال تنفيذ الكتاب الأبيض يمكن أن يؤدي إلى تشكك العرب في صدق نوايا بريطانيا، لذلك لابد من استكمال تنفيذ الكتاب قبل التحدث عن أي مشروع عربي.
غير أن هذه الآراء كانت تقابلها آراء أخرى بأن تنفيذ الكتاب الأبيض، ثم إقامة وحدة أو اتحاد عربي من شأنه أن يهدد المصالح البريطانية في المنطقة، وذلك إذا فكر العرب في الانقلاب على بريطانيا بعد أن يكونوا قد توحدوا.
فقد كانت بريطانيا تفضل عقد معاهدات بريطانية مع كل دولة عربية على حدة. ومع ذلك، فقد كانت هناك قناعه لدى المؤيدين لاستكمال تنفيذ الكتاب الأبيض بصعوبة هذا التنفيذ طالما بقي تشرشل في رئاسة الحكومة.
ويبدو أن وجهة النظر الثانية، إلى جانب موقف تشرشل، هي التي أخذت تزداد قوة مع مرور الوقت، وقد تعزز ذلك بفعل التطورات التي شهدتها الحرب العالمية، إذ شكل عام 1943 نقطة تحول في مسار تلك الحرب، حيث أصبح نصر الحلفاء شبه مؤكد بفعل الانتصار البريطاني في معركة العلمين ومعارك البحر المتوسط التي انتهت باستسلام أكثر من 250 ألف جندي ألماني وإيطالي في تونس، إضافة إلى معركة الغواصات في الأطلنطي.
فقد شهد عام 1943 تحركاً عربياً باتجاه بريطانيا لدعم إقامة شكل من الاتحاد العربي، أبرزها تحركات الأمير عبد الله أمير شرقي الأردن وتحركات رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس، ومشروع رئيس الوزراء العراقي المعروف بمشروع الهلال الخصيب أو "استقلال العرب ووحدتهم"، أو الكتاب الأزرق، الذي قدمه للبريطانيين.
ويشكل هذا المشروع الأخير، وكذلك سابقه، نسفاً للكتاب الأبيض واستبداله بحكم ذاتي يهودي في فلسطين في إطار الاتحاد العربي، ولذلك فإن هذين المشروعين لا يختلفان بالنسبة لفلسطين عن مشروع فيلبي، آخذين في الاعتبار أن فكرة الحكم الذاتي اليهودي، إنما كانت تعني الاستقلال شبه الكامل لليهود في فلسطين، وهو شبه استقلال يحمل بذور الدولة المستقلة في أحشائه، بينما كان الكتاب الأبيض ينفي ذلك.
وتشير العديد من الوثائق البريطانية التي تم الإفراج عنها في السنوات اللاحقة إلى أن الدوائر السياسية البريطانية لم تكن في عام 1943 متحمسة على النحو الذي كانت عليه في عام 1939 و1940 لفكرة الاتحاد العربي، بل أن هناك آراء مستندة إلى الوثائق البريطانية، تؤكد أن التصريح الشهير الآخر الذي أدلى به وزير الخارجية أنطوني إيدن في فبراير 1943 الذي أكد فيه أن المبادرة من أجل الوحدة أو الاتحاد العربي "يجب أن تأتي من العرب أنفسهم" إنما كان بمثابة محاولة للتملص من الالتزام بذلك، كما شكل مراهنة على أن العرب أنفسهم لن يتفقوا على تحقيق ذلك نظراً للتنافس المستعر بين الزعامات العربية المختلفة من عراقية وسعودية ومصرية وشرق أردنية. بل إن تياراً قوياً بقي متمسكاً في ذلك الحين بضرورة تنفيذ الجانب الدستوري من الكتاب الأبيض فور انتهاء الحرب.
ففي اجتماع لمجلس الحرب الخاص بالشرق الأوسط عقد في القاهرة في أيار 1943، تم اتخاذ توصيات في مقدمتها التوصية بضرورة عدم الانحراف عن سياسة الكتاب الأبيض في فلسطين، وتوصية بالعمل على تشجيع الدول العربية على البدء بتحقيق اتحاد اقتصادي وثقافي قبل الحديث عن الوحدة السياسة، أما التوصية الثالثة فتدعو الحكومة إلى طرد فرنسا من سورية ولبنان لكي يتم ضمان السيطرة البريطانية التامة على المنطقة[30]. والجدير بالملاحظة أن وزارة الخارجية البريطانية رفضت كل توصيات مجلس الحرب، باستثناء التوصية الخاصة بالكتاب الأبيض.
ويمكن الاستنتاج في هذا المجال أن هذا التيار من البريطانيين المؤيدين لسياسة الكتاب الأبيض في عام 1943 لم يكن بعيداً عن التخوف من التأييد المتنامي في الولايات المتحدة للحركة الصهيونية، بكل ما يعنيه ذلك من تحول المشروع الصهيوني إلى أداة لطرد بريطانيا من المنطقة لصالح الولايات المتحدة.
وقد استمرت هذه السياسة خلال عام 1944، حيث يشار في العديد من الوثائق البريطانية إلى أن وزارة الخارجية ووزارة المستعمرات، وكذلك رئيس الوزراء تشرشل بالطبع، لم يدعموا فكرة تأسيس جامعة الدول العربية، وكانت هناك رغبة قوية في تأجيل اجتماع الإسكندرية الذي دعا إليه مصطفى النحاس، رئيس وزراء مصر. غير أن الأوساط البريطانية، وبعد عدم تمكنها من تأجيل الاجتماع، عمدت إلى التدخل في قراراته وفي صياغته ميثاق الجامعة، ودفعه إلى الاعتدال فيها.
فعلى الرغم من التأييد القائم للكتاب الأبيض، رفضت بريطانيا إطلاق سراح جمال الحسيني لكي يتمكن من حضور المؤتمر بصفته يتمتع بشرعية التمثيل الفلسطيني. كما تم تحذير الوفود العربية من إثارة أية مشاكل بشأن فلسطين، وأعطيت وعود للوفد السوري بشأن الاستقلال شرط عدم إثارة مثل هذه المشاكل.
ويمكن القول بشكل عام أن المواقف البريطانية، وبخاصة منذ عام 1943، قد خضعت لحقيقة تزايد اعتمادها مالياً وعسكرياً على الولايات المتحدة. وفي ظل غياب عصبة الأمم المتحدة، كان لابد لبريطانيا أن تحصل على موافقة الولايات المتحدة على أي قرار بشأن فلسطين.
في عام 1945 سقط ونستون تشرشل وحزب المحافظين، ووصل حزب العمال إلى الحكم. وعلى الرغم من التأييد الكبير في صفوف الحزب المذكور للحركة الصهيونية، فقد ظلت الحكومة ملتزمة على الصعيد الرسمي على أقل تقدير، ليس بسياسة الكتاب الأبيض وإنما بعدم إقامة دولة يهودية في فلسطين. ففي رده على طلب الرئيس الأمريكي ترومان بإدخال مئة ألف لاجئ يهودي إلى فلسطين فوراً، رد رئيس الحكومة البريطانية الجديد، كليمنت أتلي، باقتراح تشكيل لجنة تقصي حقائق أنجلو ـ أمريكية، حيث زارت اللجنة فلسطين وقدمت في 20/4/1946 تقريرها الذي وإن تكن رفضت فيه تقسيم فلسطين، فهي أوصت بإدخال مئة ألف لاجئ يهودي إليها فوراً [34]، ناسفة بذلك أهم أسس الكتاب الأبيض. ومع ذلك فقد قررت الحكومة الجديدة عقد مؤتمر في لندن لمناقشة الوضع، حيث عقد المؤتمر في27/1/1947 واستمر لغاية 14/2/1947 قدم خلالها وزير الخارجية آرنست بيفن مشروعاً يتضمن فرض نظام وصاية بريطانية على فلسطين لمدة خمس سنوات يقام خلالها حكم ذاتي منفصل لكل من العرب واليهود على أسس كانتونية يصار بعدها إلى إقامة دولة فلسطينية اتحادية أو يتم استمرار نظام الوصاية[35]. ويبدو واضحاً أن مشروع بيفن وإن يكن قد التزم بمبدأ إقامة الدولة الفلسطينية الواحدة التي نص عليها الكتاب الأبيض، إلا أنه جرد الكتاب الأبيض من أهم مبدأين من مبادئه، ألا وهما مبدأ وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين ومبدأ الدولة الديمقراطية حيث اقترح إدخال مائة ألف يهودي على مدى عامين يتم بعدها دراسة الموضوع. وبذا يكون قد رضخ للطلب الأمريكي بهذا الشأن.
كان ذلك آخر نبضة في نبضات السياسة البريطانية الفلسطينية، حيث ما لبثت بريطانيا أن قررت رفع المسألة الفلسطينية إلى الأمم التي شكل قيامها بديلاً لعصبة الأمم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مع انتصار معسكر الحلفاء. وثم انسحبت بريطانيا من فلسطين في 14/5/1948 مخلفة فلسطين لمصيرها المشؤوم. وفي محاولة منها لتأكيد موقفها، فقد رفضت بريطانيا التصويت في 29/11/1947 على مشروع قرار الأغلبية الذي طالب بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية. غير أنها كذلك، لم تصوت إلى جانب مشروع قرار الأقلية الذي أوصى بإقامة دولة فلسطينية واحدة على نحو شبيه بسياسة الكتاب الأبيض. وبذلك انطوت صفحة يمكن القول بأنها كانت أهم صفحة في صفحات التاريخ السياسي الفلسطيني، صفحة كان فيها أمل إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية أمراً ممكناً .
المواقف الأمريكية من الكتاب الأبيض
في أواخر الثلاثينيات، لم تكن الإدارة الأمريكية معنية كثيراً بالشأن الفلسطيني أو العربي عامة إلا بالقدر المتعلق بمسألتين اثنتين، أولها مشكلة اللاجئين اليهود الذين أخذوا يخرجون من ألمانيا أو المناطق التي احتلتها، حيث كان الهدف الأمريكي هو الحيلولة دون تدفق هؤلاء اللاجئين إلى أراضيها، وكان السبب في ذلك هو معارضة اتحاد نقابات العمال الأمريكيين لقدوم اللاجئين الذين من شأنهم توفير أيادٍ عاملة رخيصة والتأثير في المستوى المعيشي للعمال الأمريكيين. ولذلك، فمنذ صدور قوانين نورنمبرغ في ألمانيا في أواسط الثلاثينيات، واشتداد زخم خروج اليهود منها، بقيت أبواب الولايات المتحدة مغلقة في وجوههم. ومع الحرب العالمية الثانية، كانت السفن الأمريكية المحملة بالمؤن والسلاح والمساعدات تفرغ حمولتها في أوروبا وتعود فارغة إلى الولايات المتحدة. ولم تكن الولايات المتحدة وحدها في تبني تلك السياسة، بل كذلك كانت إنجلترا وكندا وأستراليا وجنوب أفريقيا، الأمر الذي يبين أن مسألة اللاجئين اليهود قد لعبت دوراً رئيساً في الدعم الهائل الذي تلقته الحركة الصهيونية من الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى حين قيام الدولة اليهودية في فلسطين.
أما المسألة الثانية فيما يتعلق بالاهتمام الأمريكي بالمنطقة العربية فتتعلق بالنفط، حيث حصلت الولايات المتحدة عبر شركة ستاندرد أويل الأمريكية على امتياز التنقيب منذ أواسط الثلاثينيات، وأصبح النفط أحد العوامل الرئيسة المحددة ليس فقط للسياسات الأمريكية وإنما لكل سياسات الدول الأوروبية إزاء المنطقة العربية.
وفي إطار المصالح النفطية، ظل الرئيس روزفلت حذراً من الاندفاع وراء تحويل اللاجئين اليهود إلى فلسطين إذ يذكر أنه كان يرى أن مشكلة اللاجئين اليهود أكبر من أن تتحملها فلسطين. لذلك دعا في عام 1938 إلى عقد مؤتمر لتدارس المشكلة، واقترح توزيع نصف مليون يهودي على عدة بلدان، من بينها فلسطين. كما شارك في عام 1943 في مؤتمر آخر عقد في بيرمودا (19-20 /4/1943) وتم في هذا المؤتمر وبدعم من روزفلت، اتخاذ قرار بتوسيع اللجنة الخاصة بحل مشكلة اللاجئين اليهود والعمل على وصولهم إلى أراضي محايدة وإرسال قسم منهم إلى مدغشقر بعد الحصول على موافقة فرنسا بصفتها الدولة المستعمرة لمدغشقر. وقد ظل روزفلت معنياً بمثل هذه الحلول حتى وفاته حيث اقترح في أوائل عام 1945 إعادة توطين اللاجئين اليهود في أوروبا وبخاصة في بولندة.
غير أنه على الرغم من الموقف الأمريكي من الهجرة اليهودية إلى الأراضي الأمريكية، فقد أخذت الحركة الصهيونية تقوى وتشتد في الولايات المتحدة بفعل دخول العديد من الأثرياء والرأسماليين والعلماء اليهود إليها، وبفعل قرار الحركة الصهيونية في أوائل الأربعينيات بنقل مركز ثقلها من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، ومنذ ذلك الحين أخذت الأموال اليهودية تلعب الدور الرئيس في الانتخابات الأمريكية.
فلدى صدور الكتاب الأبيض، يذكر أن روزفلت لم يعلن تأييداً أو رفضاً علنياً له، غير أنه عبر بشكل شخصي عن شكوكه بما تقوله بريطانيا من أن صك الانتداب ليس فيه ما يشير إلى إمكانية تحويل الوطن القومي اليهودي إلى دولة بدون موافقة العرب. وإذ قطع النشاط الصهيوني في الولايات المتحدة مراحل متقدمة مع عقد مؤتمر بلتمور عام 1942 الذي تم فيه اتخاذ قرار تحويل فلسطين إلى دولة يهودية، منح روزفلت تأييده لذلك البرنامج بفعل الضغوط التي مارسها عليه اتحاد نقابات العمال الأمريكيين الذي كان قد تحول إلى حليف للحركة الصهيونية، والذي كان روزفلت يعتمد عليه اعتماداً كبيراً.
بغض النظر عن ذلك، ظل روزفلت ملتزماً جانب الحذر في هذا المجال، ويذكر أنه قد اتفق مع تشرشل في عدة لقاءات خلال الحرب، على عدم اتخاذ أي قرار بشأن فلسطين إلى أن تتضح نتيجة الحرب والوضع الدولي العام. ويذكر أنه في عام 1944 طرح فكرة إقامة نظام وصاية في فلسطين تديره بريطانيا لمدة خمس سنوات، وذلك في إطار توجهه بعدم اتخاذ قرار بشأن فلسطين قبل انتهاء الحرب العالمية. ولم تتمكن الحركة الصهيونية من انتزاع قرار من الكونغرس في 27/1/1945 أو من مجلس الشيوخ في 2/2/1945 على مشروع ينص على "اتخاذ الإجراءات لوضع نهاية لغلق أبواب فلسطين وفتحها أمام الهجرة اليهودية.. بحيث يتمكن اليهود من أعادة تحويل فلسطين إلى كومنويلث يهودي حر". على الرغم من القرارات المؤيدة لإقامة دولة يهودية وفقاً لبرنامج بلتمور، من قبل الحزبين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري خلال عام 1944.
وفي اللقاء الذي تم في فبراير 1945 في المياه الإقليمية المصرية بين الملك ابن سعود وروزفلت وتشرتشل وهما في طريق عودتهما من مؤتمر يالطا، أكد روزفلت لابن سعود على أنه لن يتم اتخاذ أي إجراء بشأن فلسطين إلا استناداً إلى صيغة المشاورات الشاملة مع العرب، وهو موقف مماثل للموقف البريطاني الرسمي. وبعد نحو شهر من ذلك اللقاء، أدلي روزفلت بتصريح قال فيه بأنه يؤيد إقامة "دولة فلسطينية ديمقراطية حرة".
تبادل روزفلت العديد من الرسائل مع الملك ابن سعود كان آخرها رسالة مؤرخة في 5/4/1945 تتضمن تأكيداً على مواقفه السابقة. وبعد أسبوع واحد فقط، أي في 12نيسان 1945، توفي روزفلت بصورة مفاجئة.
كان هاري ترومان قد فاز في انتخابات عام 1944 بمنصب نائب الرئيس بفضل الأصوات والأموال اليهودية. ومع وفاة روزفلت، تسلم ترومان الرئاسة. وفي 31/8/1945 وجه رسالة إلى رئيس الوزراء البريطاني الجديد، آرنست بيفن، طالبه فيها بإلغاء سياسة الكتاب الأبيض وفتح أبواب فلسطين أمام مئة ألف لاجئ يهودي.
ففور انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945، أخذت تتضح معالم موازين قوى دولية جديدة انتهت بها موازين الأربعينيات، حيث بدا واضحاً أن الصراع المقبل لن يكون بين دول الحلفاء ودول المحور، وإنما بين قوتين صاعدتين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وهي موازين جديدة حكمت على سياسة الكتاب الأبيض بالتراجع إلى أن تمت هزيمة تلك السياسة مع سقوط مشروع الأقلية في الأمم المتحدة لدى طرح قضية فلسطين على الأمم المتحدة عام 1947، وهي هزيمة حققتها القوتان العظميان الجديدتان في إطار معادلات سياسية جديدة. لقد كان مشروع الأقلية في الأمم المتحدة بمثابة النفس الأخير لسياسة الكتاب الأبيض.
المواقف العربية من الكتاب الأبيض
أخذت مشكلة فلسطين تشغل الحكومات العربية على نحو جدي خلال النصف الثاني من الثلاثينيات. وكان أول توجه في هذا المجال، هو النداء الذي وجهه كل من ملك العربية السعودية وملك العراق وأمير شرقي الأردن للفلسطينيين لوقف الإضراب والثورة في عام 1936، معبرين في ذلك البيان عن أملهم في أن تغير الحكومة البريطانية سياستها الفلسطينية الصهيونية. وتلا ذلك نداء آخر ناشدوا فيه الفلسطينيين عدم مقاطعة لجنة بيل الملكية التي وصلت إلى البلاد لتقصي الأوضاع وتقديم التوصيات للحكومة البريطانية.
والجدير بالذكر أن الدول العربية لم تكن خلال الثلاثينيات دولاً كاملة الاستقلال. فقد حصل العراق على الاستقلال عام 1932 وكان استقلاله شكلياً تحكمه المعاهدة البريطانية العراقية الموقعة عام 1930، وكان البريطانيون هم الذين يرسمون سياسة العراق ويديرون شؤونه من خلال مستشارين بريطانيين متواجدين في كل مؤسسة من قمة هرم الدولة إلى قاعدتها. ولم تستقل مصر استقلالاً شكلياً على النحو الذي كان عليه العراق إلا في عام 1936 حين تم التوقيع على المعاهدة البريطانية ـ المصرية. وكان المستشارون البريطانيون هم الذين يوجهون السياسة العربية السعودية التي كانت تتلقي مساعدات مالية بريطانية سنوية لإدارة شؤون الدولة. أما سورية وشرقي الأردن، فلم تحصلا على الاستقلال إلا في عام 1946.
كانت المشاركة العربية في مؤتمر سنت جيمس في عام 1939 أول مشاركة عربية في المداولات والاجتماعات الخاصة بمشكلة فلسطين، حيث كانت تلك المداولات والاجتماعات قبل ذلك تعقد بين البريطانيين والفلسطينيين وبين البريطانيين واليهود. فقد شارك في المؤتمر وفود حكومية عراقية وسعودية ومصرية وشرق أردنية إلى جانب وفد يمني دعي كمراقب. غير أن عدة تحركات عربية كانت قد سبقت انعقاد المؤتمر، وبخاصة منذ اندلاع الثورة الفلسطينية عام 1936، غير أنها كانت تحركات منفصلة دون أي تنسيق عربي مشترك، حيث نشط العراقيون والمصريون والسعوديون في محاولة لإقناع بريطانيا بضرورة تغيير سياستها الموالية للصهيونية. وقد حكمت روح التنافس هذه التحركات، حيث كان كل طرف عربي يتوجس من تحركات الطرف الآخر، وبخاصة أن الحديث في الأروقة البريطانية كان قد بدأ في الثلاثينيات حول إقامة شكل من الاتحاد العربي، فكان كل طرف يخشى أن يتفق الطرف الآخر مع بريطانيا على تزعمه لمثل هذا الاتحاد.
ويتضح من التحركات العربية قبل وخلال وبعد مؤتمر سنت جيمس أنها قد اتفقت على تليين الموقف الفلسطيني وإقناعه بضرورة قبوله المقترحات البريطانية. فكان الاجتماع العربي الذي عقد في القاهرة قبل التوجه إلى لندن لحضور المؤتمر، حيث تم الاتفاق مبدئياً على حد أدني من المطالب، كما بذلت جهود سعودية ومصرية وعراقية بعد المؤتمر للتوسط بين الفلسطينيين والحكومة البريطانية لإجراء بعض التعديلات على مسودة الكتاب الأبيض التي قدمت في المؤتمر وإقناع الفلسطينيين بالقبول بها، وهو ما لم يحدث، حيث انتهت تلك المداولات بعدم تمكن الفلسطينيين من اتخاذ قرار، وبالتالي رفض الكتاب رسمياً كما سيرد لاحقاً. فقد كانت مصر والسعودية بشكل خاص تميلان بشدة إلى القبول بالكتاب الأبيض، إدراكاً منهما أن البديل لسياسة الكتاب الأبيض في أي حل قادم هو التقسيم الذي يدعمه شرقي الأردن بشدة.
غير أن التطورات اللاحقة، وبخاصة منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية، قد أرخت بظلها على الدول العربية، حيث تراجع الانهماك بالمشكلة الفلسطينية، وبخاصة أن الثورة الفلسطينية كانت قد انتهت تماماً.
ففي العراق، أدى الانقلاب الذي قام به الضباط القوميون بزعامة رشيد عالي الكيلاني ومشاركة الحاج أمين الحسيني في أيار 1941 إلى إحداث تحول في السياسة العراقية، يمكن ملاحظته في الموقف العراقي عام 1940 والموقف في عام 1942.
ففي 25/5/1940 بعث رئيس الحكومة العراقية بمذكرة إلى الحكومة البريطانية يقول فيها بأن العراق "على استعداد لدخول الحرب ضد ألمانيا مقابل تعهد بريطاني بتنفيذ الحكم الذاتي في فلسطين خلال الحرب أو فور انتهائها. غير أن الحكومة البريطانية لم ترد على تلك المذكرة. أما في عام 1942، فقد أعلن العراق الحرب على ألمانيا دون طلب أية شروط من بريطانيا.
كما أن تعزز الوضع العسكري البريطاني في المنطقة العربية بعد إسقاط حكومة فيشي الموالية لألمانيا في سورية عام 1941، قد انعكس على المواقف العربية التي أخذت تتنافس من جديد على اقتناص المشاريع الوحدوية التي تدعمها بريطانيا. فانصب الاهتمام منذ عام 1943 على إيجاد نوع من الوحدة أو الاتحاد العربي الذي يمكن من خلاله إيجاد حل للمشكلة الفلسطينية. فعلى الرغم من استمرار تمسك العراق ومصر والعربية السعودية بالكتاب الأبيض ومواصلة المطالبة بتنفيذه كاملاً من قبل بريطانيا، فإن المشاريع العربية الوحدوية كمشروع الهلال الخصيب أو مشروع سورية الكبرى قد انطلقت من مبدأ إيجاد حل للمسالة الفلسطينية على أساس منح "حكم ذاتي" لليهود في فلسطين في إطار الاتحاد العربي، وليس في إطار دولة فلسطينية يكون للعرب الفلسطينيين فيها أغلبية سكانية وسياسية.
وقد جاء تصريح لنوري السعيد في آب 1943 في سياق طرحه لمشروع الهلال الخصيب، والذي قال فيه بأن فلسطين "قد لا تكون مشمولة في مشروع الاتحاد العربي"، معززاً لتلك التوجيهات، حيث ما لبث نوري السعيد أن اضطر إلى إصدار تكذيب رسمي لهذا التصريح بعد موجة من الاحتجاجات الفلسطينية.
ويمكن القول أنه منذ عام 1943، تم تعريب المسألة الفلسطينية تعريباً تاماً. ففي سياق انهيار القيادة الفلسطينية العربية وتشتتها أو اعتقالها منذ عام 1940، أخذت المسألة الفلسطينية تناقش بين بريطانيا والزعماء العرب، كل على حدة، كما تحولت المسألة برمتها إلى جزء من المشاريع الوحدوية العربية التي انتهت بتشكيل جامعة الدول العربية في عام 1945بدون إيجاد حل للمسألة الفلسطينية سواء في إطار الجامعة أو خارجها. كما أصبحت المناقشات العربية تدور بدون مشاركة أي من الفلسطينيين العرب. ففي عام 1944 نجحت مصر في عهد رئيس الوزراء مصطفي النحاس في إخراج جامعة الدول العربية إلى النور، وذلك بعد فشل المشاريع الوحدوية السابقة، سواء كانت عراقية أم شرق أردنية. غير أن مصطفى النحاس لم يتمكن من إقناع بريطانيا بالإفراج عن جمال الحسيني وأمين التميمي، المعتقلين في روديسيا، للاشتراك في مؤتمر الإسكندرية التحضيري، وذلك بصفة أن جمال الحسيني هو الشخص الوحيد المتبقي الذي يمكن أن يشكل زعامة شرعية عربية فلسطينية. وعلى الرغم من أن بروتوكول الإسكندرية الصادر في 7/10/1944 قد نص على المطالبة العربية بتنفيذ الكتاب الأبيض، فإن صيغته قد جاءت معتدلة ومهادنة. ولم يفلح المجتمعون العرب في قبول عضوية فلسطين في الجامعة، على الرغم من أنه قد تم قبول كيانات لم تكن مستقلة، مثل سورية ولبنان وشرقي الأردن، حيث لم يسمح لموسى العلمي، وهو الفلسطيني العربي الوحيد الذي حضر جزءاً من مؤتمر الإسكندرية، بالتوقيع على بروتوكول الإسكندرية. كذلك لم يحضر أي فلسطيني قمة أنشاص التي عقدت في 27 أيار 1946 لمناقشة تقرير اللجنة الأنجلو ـ الأمريكية التي كانت قد أوصت بإدخال مئة ألف يهودي إلى فلسطين، غير أن المؤتمر ذكر في بيانه الأخير بأن "قضية فلسطين ليست قضية خاصة بعرب فلسطين وحدهم .. بل هي قضية العرب جميعاً، وأن فلسطين عربية يتحتم على الدول العربية وشعوبها صيانة عروبتها، وأنه ليس في إمكان هذه الدول الموافقة بأي وجه من الوجوه على أية هجرة جديدة، ويعتبرون ذلك نقضاً صريحاً للكتاب الأبيض الذي أرتبط به الشرف البريطاني.
وفي اجتماع مجلس الجامعة العربية في الثامن من حزيران 1946 في بلودان، اتخذ المجتمعون قرارات "سرية" نصت على "حجب أية امتيازات اقتصادية عن بريطانيا والولايات المتحدة وإلغاء مالهما من امتيازات في الدول العربية وعدم تأييد مصالحها ومقاطعتهما مقاطعة أدبية في حالة إصرارهما على إدخال مهاجرين يهود جدد إلى فلسطين. غير أن هذه التوصيات أو القرارات ظلت حبراً على ورق.
وفي مؤتمر لندن الذي عقد في أواخر 1946، قدمت الدول العربية السبع الأعضاء في الجامعة العربية مشروعاً يستند إلى الكتاب الأبيض، إلا أنه رفض من الحكومة البريطانية.
وكانت آخر محاولة عربية لإنقاذ سياسة الكتاب الأبيض في عام 1947 حيث تقدمت الوفود العربية والإسلامية إلى الجمعية العامة بعد إحالة المسألة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة من قبل بريطانيا، بمشروع أصبح يعرف باسم مشروع الأقلية الذي سقط أمام مشروع الأغلبية الذي قرر تقسيم فلسطين. وبذلك انتهت آخر محاولة للإبقاء على فلسطين موحدة كدولة فلسطينية وديمقراطية.
وقد يكون من الممكن القول بالإشارة إلى ما سبق، أن الدول العربية لم تتمكن من وضع تصور عربي لحل المسألة الفلسطينية، إذ أن تعريب المسألة الفلسطينية منذ أواسط الأربعينيات قد أدى إلى تغليب مصالح كل دولة عربية على المصلحة الفلسطينية، حيث أصبحت المسألة الفلسطينية تعني ضرورة عدم انعكاسها سلباً على مصالحهم السياسية الخاصة. كما وكان العرب ضعفاء بفعل التنافس القائم بينهم ولم يتمكنوا من الاستفادة من الأهمية الإستراتيجية للمنطقة بالنسبة لبريطانيا والولايات المتحدة.