الآثار العربية الكنعانية في فلسطين
نتائج التنقيب تدحض المزاعم الصهيونية محمد توفيق السهلي
مقدمة:
تنبع أهمية علم الآثار من كونه علماً لمعرفة القديم والوثائق القديمة، إذ إن الآثار هي سجل الحضارة الذي يسجله باطن الأرض وسطحها، والذي يدل على هوية قاطني المكان ويلقي بعض الضوء على أساليب معيشتهم ونظامهم السياسي والاجتماعي الذي كان سائداً، وهي في والوقت نفسه إثبات للهوية وإثبات للانتماء وسند ملكية ووثيقة تعطي الوجود شرعيته، والآثار هي إثبات عراقة وإثبات أصالة، وهي سجل فكر وسجل تطور حضاري.
مواقع أثرية متعددة وهوية مشتركة:
لقد كان علم الآثار ميداناً لعلاقات الصراع والهيمنة التي ميزت موقف الغرب من الأرض العربية في فلسطين في سعيه لتحقيق أهدافه الاستعمارية بما فيها زرع كيان غريب لتحقيقها، خالقاً له تاريخاً موهوماً في المنطقة، وكثيرة هي الآثار المكتشفة في فلسطين التي تحمل دلالات قاطعة على أن أجدادنا العرب الكنعانيين هم أول من سكن هذه الأرض وتجذر وأسس فيها حضارته المميزة، فقد كشفت الحفريات في "وادي قدرون" عن وجود آبار في الطبقة الحادية والعشرين من طبقات القدس الحضارية، وشكلت هذه الآبار الحلقة الأولى التي تربط ما بين القدس كموقع وجذور حضارتها الضاربة عميقاً في التاريخ، وتعود هذه المكتشفات الأثرية غلى العصر الحجري المتأخر، حيث تطابقت مع الموجودات الأثرية المكتشفة في أريحا ونابلس ولاخيش، وكذلك في تل العجول (في غزة)، ونتيجة ذلك، وبأعلى درجات الدقة، حصلت البعثة التي تقوم بالحفريات على المعلومات التي حددت تاريخ القدس بستة آلاف عام من الحضارة، وأثبتت بذلك زيف وبطلان مقولة إنها مدينة داوود وبأن بدايتها كانت في عصره.
وفي الموقع الذي كانت تلتقي فيه وديان القدس، وعند نقطة التقاء وادي الجوز مع وادي قدرون، تم اكتشاف المدينة التي تعود للعصر البرونزي الأول (3200 ق.م) والمصنفة باعتبارها الطبقة العشرين من طبقات القدس الحضارية والتي تميزت بالتخطيط المعماري الدائري في شكل البيوت، وفي إدخال الشكل المربع في الأحواش وحفر الآبار فيها وبالاعتماد على الأعمدة الكبيرة وسط البيوت، وبالشكل الدائري للأسوار، وقد عثر فيما بعد على قواعد الأعمدة التي كانت تحمل سقوف الأبنية، إضافة إلى الموجودات الفخارية الدالة على حضارة تلك الحقبة، كما دلت المكتشفات الأثرية على اهتمام الإنسان بالزراعة، حيث وجدت المواد والأدوات الزراعية الدالة على أن هذه المنطقة كانت صالحة للزراعة، ودلت الموجودات الأثرية التي تعود للقرن الثامن عشر ق.م على توسع المدينة نحو الشرق، وأهم هذه الموجودات هي السور وبوابته الكبيرة وبقايا الأبراج التي اكتشفت بالقرب من عين سلوان، وهذا يعني أن العين كانت داخل حدود المدينة في القرن الثامن عشر ق.م، وحسب سجلات المدينة فإن البوابة المكتشفة كانت تدعى "بوابة النبع".
ومن أهم الأثار التاريخية التي وثقت للعصر البرونزي المتأخر (1550 – 1200 ق.م) رسائل "تل العمارنة" المتبادلة آنذاك بين ملك القدس (عبده حيبه) والفراعنة، والتي كتبت باللغة الأكادية، ويشتمل هذا العصر أيضاً على الاتفاقات السياسية والعسكرية والتجارية التي جمعت بين مدن فلسطينية ثلاث هي شكيم (نابلس) ولاخيش (وهي تل أثري قرب مدينة الخليل) وكيلة (القدس)، ولعلّ الأهمّ في ذلك أنّ تلك الرسائل الست التي وجدت في العمارنة وتحمل الأرقام (289 إلى 294) تنفي الوجود اليهودي في هذا العصر، وقد دلت الأساسات والبقايا المعمارية التي اكتشفت في الأعوام (1961 – 1963 م) على وجود أسوار بلغ ارتفاعها نحو عشرة أمتار. كما يدل الكثير من الأبنية المكتشفة على وجود قصور وقلاع وحصون كانت قائمة في المدينة في تلك الحقبة. ومن أعظم المواقع المكتشفة وأبدعها في ذلك العصر دار الحكومة في الجهة الجنوبية، كما أن الكهوف التي اكتشفت في منحدرات جبل الزيتون قد ساعدت في التعرف على كثير من التماثيل والمواد الأثرية التي لم يتم نشرها، بل حفظت في مجموعات توجد الآن في متحف لندن.
وكانت فلسطين قد شهدت في العصر البرونزي الوسيط (1950 – 1550 ق.م) – وتمثل هذه الفترة جزءاً من التاريخ الكنعاني في فلسطين – انتعاشاً حضارياً ملموساً، وعودة حضارة التمدن في المراكز المدينية التي هجرت في الفترة الانتقالية بين العصر البرونزي المبكر والعصر البرونزي الوسيط، وتدل آثار المدن الكبيرة، وبتحصيناتها القوية المكتشفة في تل القدح (خربة وقاص) و أريحا ومجدو وتعنك وتل دوثان وتل بلاطة وبتين والقدس وتل الدوير على حدوث هذا الانتقال النوعي. وشهد العصر البرونزي المتأخر (1550 – 1200 ق.م) استمراراً لحضارة العصر البرونزي الوسيط، وتميزت هذه الفترة بانتعاش التجارة الدولية، وتشهد على ذلك كثافة المواد الحضارية المكتشفة في السياقات الأثرية الفلسطينية في هذه الفترة، بما في ذلك الجرار الكنعانية المكتشفة في المواقع المصرية، وهي الجرار التي حملت الزيت والنبيذ إلى مصر. وأظهرت التنقيبات في تل المتسلم (مجدو) بأن مجدو هذه كانت مدينة محصنة في العصر البرونزي المبكر الوسيط (في الألفين الثالث والثاني ق.م) وأنها ذات أهمية كبيرة، رغم أن أول ذكر لها يعود للقرن الثامن عشر ق.م، حين قادت المدينة تحالفاً من المدن الكنعانية للإطاحة بالنفوذ المصري في كنعان في المعركة التي جرت عند وادي اللجون بالقرب من مجدو. ودلت التنقيبات الأثرية في تل المتسلم (مجدو) على بقايا بنائية لمدينة كبيرة تأسست في العصر البرونزي المبكر (الألف الثالث ق.م) ممثلة بالمباني وسور المدينة والمعبد والقصر على أسس مخطط مدينة كواحدة من أقدم المدن في فلسطين، وأظهرت التنقيبات دلائل من الفترات المتعاقبة لمدينة العصر البرونزي المبكر، الثاني والثالث، وهي بقايا مدينة مسورة ذات مبانٍ عامة كالقصور والمعابد، ومع نهاية العصر البرونزي المبكر تعرضت المدنية للتدمير، لتعقبها دلائل الفترة الانتقالية، وأعيد مع بداية العصر البرونزي الوسيط الثالث تأسيس المدينة ذات التحصينات والبوابة والعديد من المباني العامة وبيوت السكن، وتمثل هذه الفترة أوج ازدهار المدينة، كما تم الكشف عن النظام المائي للمدينة والمقابر التي تحيط بها.
وأقدم الاكتشافات الأثرية التي عثر عليها في "جبل القفزة (جنوب الناصرة) في فلسطين، وفي سفح الرمل (قرب طبريا)، والتي تعود إلى الفترة بين عامي 7500 و 3100 ق.م، تؤكد أن أهم حدث شهدته تلك المنطقة كان تأسيس مدينة أريحا، التي يعتبرها المؤرخون أقدم مدينة في التاريخ، وقد وجدت آثارها قرب بلدة عين السلطان، وفي أواخر الألف الرابعة قبل الميلاد بدأ سكان المنطقة يتعرفون على النحاس ويستخدمونه في بعض الصناعات، ولذا أطلق المؤرخون على تلك الفترة اسم "العصر الحجري النحاسي"، وقبل بضعة أعوام من الآن، عثر على مقبرة كنعانية ضخمة غربي مدينة القدس وآثار ذلك اهتمام الآثاريين والمتابعين، في حين أن سلطة الآثار الصهيونية التي تحتكر التنقيب في المكان، تتلكأ في نشر المعلومات الكاملة عن هذا الكشف المهم، ووافقت على إقامة بناء على أجزاء من هذه المقبرة، وقد اعتبرت هذه المقبرة التي اكتشفت بالقرب من قرية المالحة المحتلة عام 1948م، من أكبر المقابر الكنعانية التي كشف عنها في فلسطين، ويعود تاريخها إلى نحو أربعة آلاف عام، ومن شأن هذا الاكتشاف تسليط الضوء على الأوضاع المعيشية والعادات الغذائية لسكان ريف القدس في العصر الكنعاني، وتعود هذه المقبرة تحديداً إلى أوائل العصر البرونزي الرابع (2200 – 2000) قبل الميلاد، وتمتد على مساحة أكثر من دونمين، وقد بيّنت الحفريات أنها استخدمت كمقبرة من قبل أجيال عديدة خصوصاً في العصر البرونزي (بين عامي 2200 – 2000) قبل الميلاد و (1700 – 1600) قبل الميلاد، ويعلو كل قبر من القبور المحفورة في الصخور ثقب دائري قطره متران يؤدي إلى غرفة بيضاوية الشكل حفرة تحت الأرض التي وضعت فيها الجثامين.
ودلت الحفريات بأن الموقع عرف كمقبرة في عصور لاحقة بعد الفترة الكنعانية وأنّه تم استخراج ما بداخلها خلال الفترة الرومانية، ويتضح هذا من أساليب الحفر التي تتطابق مع تلك التي استخدمها الرومان، وعدد القبور التي تمّ اكتشافها في المقبرة التي تقع على مرتفع من الأرض، نحو مئة، وعثروا داخلها على عظام وخرز ومجوهرات وتمائم وضعت في تلك القبور وأغراض معدنية كالأسلحة والأدوات والمجوهرات ونوع فاخر من الفخار، وتوجد تقديرات بأن النحاس الموجود في جنوب الأردن، وبالإضافة إلى ذلك عثر على إسفلت أخضر على الأرجح أنه من البحر الميت، ومن بين الموجودات علبة قد تكون للطعام، وأدوات صخرية استخدمت لتقسيم قطع الفخار، وتم العثور على عظام أغنام وماعز وخنازير، وأدلة على أن السكان مارسوا زراعة الحبوب في محيط المباني التي عاشوا فيها، وتم العثور على زي كامل لأحد المحاربين يتضمن خنجراً وحزاماً معدنياً، مما يشير إلى أن بعض السكان كانوا مقاتلين بينما عمل آخرون في الحقول، وربما يؤكّد هذا بأن مستوطنة كنعانية من المحتمل أنه كان لديها فريق أمني لردع أية أعمال عدوانية ومواجهة من يغزون المستوطنة، وقد وافقت سلطة الآثار الصهيونية على تدمير أجزاء من المقبرة وإبقاء أخرى وإعطاء تصريح لإقامة بناء في المكان يتبع أحد الفنادق الشهيرة التي عثر على المقبرة بجواره.
ومن المعالم الأثرية الكنعانية في فلسطين، تل "تعنك" الكائن في الطرف الغربي لقرية تعنك، وهو عبارة عن تل ومدينة كنعانية ويبعد 8 كم تقريباً شمال غرب مدينة جنين و 2 كم شمال بلدة اليامون، وهذا المعلم عبارة عن تل مثير للإعجاب يرتفع أكثر من 4 متراً عن مستوى سطح مرج ابن عامر. ويستدل من الحفريات والآثار التي تم اكتشافها على أن المنازل والمنشآت العديدة الموجودة في المعلم الأثري ترجع إلى القرن الثاني ق.م (العصر الحديدي). وهناك تل الحفيرة (المعروف باسم تل دوثان) الواقع بين سبسطية ومدينة جنين (على بعد 6 كم تقريباً جنوب مدينة جنين)، وهو عبارة عن تل ومدينة كنعانية، وهناك خربة بلعمة وهي يبلعام الكنعانية، حيث عثر على نفق مائي، وهو مدينة كنعانية، ويقع فوق تل يبعد نحو 2 كم عن المدخل الجنوبي لمدينة جنين، ويوجد فيه نفق مائي منحوت في الصخر الجيري لمنحدر التل، وتشير المكتشفات الفخارية التي عثر عليها خلال عملية مسح أثري قام بها "كوتشيف" في عام 1997 – 1998م إلى وجود مستوطنات تعود إلى العصر البرونزي القديم والمتوسط والحديث والعصر الحديدي، ويعد مدخل النفق أبرز معالم بلعمة، وقد تم حفر النفق الجنوبي خلال العصر البرونزي الحديث، حيث بني فوقه مدخل القلعة وبوابتها.
وفي قرية بلاطة البلد، وفي المنطقة الشمالية منها، توجد أنقاض وآثار السور وبوابة شرقية وغربية، وقد أثبتت الحفريات التي قامت بها البعثة الهولندية عام 1913م برئاسة أرنس سلن أن هذا التل هو شكيم (نابلس) القديمة. وقد استمرت هذه الحفريات حتى بداية الحرب العالمية الأولى، حيث تم إيقافها، لتستأنف عام 1926م، واتسعت المساحة المحصورة وعثروا فيها على بقايا معبد وقصر وغيرهما. وفي الأعوام 1934 و 1956 و 1957م أعيد التنقيب في التل المذكور فعثروا في حفرياتهم بإشراف الدكتور رايت الأمريكي على آثار كنعانية ترجع إلى عام 3500 ق.م وعلى بقايا سور بني في القرن السابع عشر قبل الميلاد وكان ارتفاعه ثلاثة أمتار ونسف وكان يطوق المدينة من الجهات الثلاث بأبراجه، وأبواب وثكنات الحرس التي وجدت مصاطبها مقصورة بالكلس، ووجت عليها ستة هياكل بشرية على عمق ثلاثة أمتار تحت اللبن، كما عثروا على فخار يعود إلى العام 1600 ق.م .
ومؤخراً قالت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية إنها تمكنت من الكشف على أحد أقدم القبور الأثرية على مقربة من كنيسة المهد في بيت لحم، وفي السفوح الشرقية المطلة على بيت ساحور.. وتبين أن القبر المكتشف يعود إلى العصر البرونزي المبكر وهي الفترة الممتدة ما بين 2200 و 1900 قبل الميلاد وهذ الفترة انتقالية مهمة ما بين العصر البرونزي المبكر والعصر البرونزي الوسيط الذي يتميز بنمط حياة شبه رعوي وهي فترة تعرف من قبل المؤرخين وعلماء الآثار بالفترة الكنعانية، وهذا الاكتشاف هو أقدم دليل في هذه المنطقة التي يعود تاريخها إلى نحو أربعة آلاف عام.
وقد كشفت عمليات الحفر والتنقيب التي تجريها سلطة الآثار الصهيونية في مفترق بركائي" (على المحور الرئيسي في منطقة وادي عارة) عن كمية مدهشة تتكون من عشرات آلاف القطع الأثرية التي يعود تاريخها إلى ما قبل 5000 سنة (العصر النحاسي). وقد عثر في المقابر على عشرات الآلاف من الأدوات التي تستخدم في طقوس العبادة، بينها أوانٍ فخارية مميزة، سهام، خرز، أحجار ثمينة، أقراط، خواتم، وغير ذلك.
البقايا الجنائزية الكنعانية:
من خلال دراسة البقايا الجنائزية في فلسطين كظاهرة أثرية وسوسيولوجية، نجد أن الدفن في المدافن العامة في مقابر خارج أسوار المدينة، هو شكل الدفن السائد في العصر البرونزي المبكر الأول في فلسطين، وقد يعود ظهور المدافن العامة الخارجية إلى الوعي الصحي المتزايد بضرورة الفصل ما بين المسكن والمدفن في الفترة المدينية. وبعض المدافن مزودٌ بمنصة حجرية أو تحويطة ترمز، ربما، إلى المكانة الاجتماعية العالية لبعض الأفراد في القبيلة. وفي العصر البرونزي المبكر، دفن الأطفال واليافعون والبالغون مع بعضهم البعض في إشارة إلى المكانة المتساوية.
ويتكون الأثاث الجنائزي من الأواني الفخارية والزينة الشخصية وبعض الأدوات الأخرى. أما أكثر الأغراض الدالة على المكانة الاجتماعية والتي يمكن النظر إليها كمؤشر على المكانة الاجتماعية العالية في هذه المدافن العامة، فتتكون من الأغراض المعدنية (الذهب والنحاس) وبعض الأواني.
وتمثل الفترة الانتقالية من العصر البرونزي المبكر إلى العصر البرونزي الوسيط، واحدة من إشكاليات علم الآثار الفلسطيني. وتوصف هذه الفترة عموماً كفترة ساد فيها نمط حياة رعوي شبيه بحياة البداوة، وغياب كلي لمظاهر الحياة المدينية التي ميزت الفترة التي سبقتها وتلتها. ولذلك فإن البقايا الجنائزية تشكل في أغلب الحوال الصنف الوحيد للبقايا الأثرية المتوفرة من هذه الفترة.
أما الأغراض الجنائزية المرفقة مع الميت في هذه المدافن فهي ذات طبيعة بسيطة عموماً، وتتكون بشكل رئيسي من الأواني الفخارية والأسلحة. والعلامة الفارقة الأخرى لهذه المدافن هي نسبة التواجد العالية للأسلحة فيها كعطايا جنائزية، فهي تمثل أعلى نسبة تواجد للأسلحة في مقابر الفترة الانتقالية ربما إلى ازدياد حدة النزاعات الداخلية بين القبائل المختلفة.
وفي العصر البرونزي الوسيط الثاني، نجد أن البناء المعقد للمجتمع الديني يجد انعكاسه في الممارسات الجنائزية، وعلى النقيض من فترة التمدن الأولى في العصر البرونزي المبكر، فإن عدداً قليلاً من الأفراد وجدوا مدفونين في المقابر العامة في هذه الفترة.. وتعتبر الأواني الفخارية العطايا الرئيسية في هذه المدافن، ولا بد أنها مثلت المتطلبات الدنيا لممارسة الدفن، وتتكون الأغراض الدالة على المكانة في هذه الفترة من الأغراض المعدنية والأغراض المستوردة والأسلحة وأدوات الزينة الشخصية وبيض النعام.
إن النمطية المعقدة للبقايا الجنائزية، وتمركز الأغراض الدالة على المكانة في جزء من القبور تمثل تعبيراً واضحاً عن مجتمع طبقي.
وتتميز البقايا الجنائزية للعصر البرونزي الوسيط الثاني بنسبة حدوث عالية للمرفقات الدالة على المكانة، ويشير تمركز الثروة في جزء من المدافن العامة في معظم المواقع إلى نشوء طبقة نخبة في المراكز المدينية للعصر البرونزي الوسيط الثاني في فلسطين.
دلائل على التمدن الكنعاني:
إن المكتشفات الآثارية ما تنفك تؤكد يوماً بعد يوم، أن تاريخ الوطن العربي هو تاريخ التمدن البشري على هذا الكوكب، فقد أثبتت، بما لا يبقى مجالاً للشك أن إنساننا كان أول من عرف الزراعة وفن البستنة، وأول من بنى المدن وشيد الحصون والقلاع وأول من عرف المعدن واستخدمه وأتقن فنّ التعدين وصناعة الأدوات وأول من صنع الفخار والدولاب وأول من عرف وأسس علوم الطب والفلك والسحاب والهندسة والجبر والمساحة ووضع المقاييس والمكاييل والموازين، وأول من اكتشف أن الأرض كروية وأنها هي التي تدور حول الشمس، فدرس بناء على ذلك ظاهرة الخسوف والكسوف ووضع المواقيت والتقاويم لأول مرة ووضع النظام الستيني الذي ما يزال مستخدماً حتى اليوم فقسم بموجبه النهار إلى 12 ساعة والساعة إلى 60 دقيقة والدقيقة إلى ستين ثانية، وأول من صنع السفن وأبحر في البحار والمحيطات وأوجد خطوط التجارة الدولية في البر والبحر ودار حول رأس الرجاء الصالح وبلغ الشواطئ الأمريكية منذ الألف الثاني والأول قبل الميلاد (أي قبل كريستوف كولومبوس بما ينوف عن ألفين وخمسمئة عام) وأول من أبدع عقيدة الخصب الزراعية بكل تقاليدها وتعاليمها وآدابها وأساطيرها وفنونها، وأول من أبدع عقيدة التوحيد وأول من عرف الكتابة واخترع الأبجدية وصنف الكتب والمكتبات وبنى المدارس ووضع القواميس منذ الألف الثالث قبل الميلاد (كما أثبتت مكتشفات ماري) وأول من صنع النول والمكوك وعرف الحياكة والنسيج، وأول من بنى دولة مركزية كبرى بالمفهوم الحقوقي والإداري والسياسي والاقتصادي والعسكري، فوضع الأنظمة وشرع القوانين وضرب النقود وبنى الجيوش، وأول من وضع تشريعات الزواج وبناء الأسرة، وأول من صنع العطور وأحدث مجالس الشورى والندوة وأول من وضع مجلسين استشاريين للشيوخ وللشباب، وأول من تزين بالحلي والكحل ولبس الجوارب وعرف الشطرنج والنرد والداما.
مهد الحضارة:
بالنسبة لعلم الآثار، فإن المتخصصين فيه وفي جميع العلوم المساعدة له، من علم قراءة الخطوط القديمة، إلى علم اللغات، وعلم الشيفرة وعلم الوثائق وعلم النقود وعلم الأختام وعلم النقوش وعلم الأسماء وعلم الأقوام والعروق وغيرها، قد تعاونوا معاً في قراءة آثارنا الغنية كماً ونوعاً، التي توزعتها متاحف الدول الغربية، فشكلت تسعين بالمئة من محتوياتها المتعلقة بالعصور القديمة، وهذا طبيعي، لأن تاريخ حضارات العصور القديمة، مثله مثل تاريخ حضارات العصور الوسطى، هو في غالبيته الساحقة لا يخرج عن إطار الحضارة العربية.. إن معطيات كل تلك القراءات الآثارية تؤكد وحدة الحضارة للشعب العربي في الأرض العربية كلها بكل تسمياتها... وفي الوقت الذي تؤكد هذه المعطيات جميعها أن الوطن العربي هو مهد الإنسان العاقل ومهد حضارة أخرى عاقلة متواقتة مع حضاراته أو سابقة لها، وبالتالي فقد استحق هذا الوطن بجدارة أن يسمى "مهد الحضارة".
مزاعم وتعديات صهيونية مكشوفة:
بالرغم من هذا كله، فإن محاولات الصهاينة لمصادرة التاريخ العربي الفلسطيني وسرقته وتزويره وإخفائه وطمس الهوية العربية الفلسطينية، هي أكثر من أن تحصى، فقد دأب العدو الصهيوني على محاولة إلغاء التاريخ وإيجاد شرخ بين المكان والزمان والفعل الحضاري وإلغاء حق الإنسان في أرضه وتراثه وثقافته، وتدمير آثاره.
والمخطط غير المعلن من قبل سلطات الاحتلال لنهب وتدمير التراث الحضاري وتسويقه في أرجاء العالم على أنه تراث يهودي لإعطاء الشرعية في كل ما تفعل ومنح نفسها "الحق" في هذه الأرض المحتلة، وضع بشكل دقيق بالتوازي مع الاعتداءات اليومية التي تمارس ببشاعة لم يشهد لها العالم مثيلاً، على المدنيين الفلسطينيين.
ويظن الكثيرون أن استهداف الآثار الفلسطينية كان بعيد الاحتلال الصهيوني، إلا أن الحقيقة تقول غير ذلك، فالاستهداف بدأ منذ القرن الثامن عشر، وجاء على شكل مستشرقين يهود قدموا من عدد من الدول الأوروبية هدفهم تسويق فكرة أن الأرض الفلسطينية هي "أرض الميعاد" و "أرض الحدث التوراتي"، وذلك عبر القيام بحفريات في عدد من المناطق الفلسطينية تحدثت عنها التوراة، وقد توجت هذه الحملات الاستشراقية في العالم 1867م على يد المهندس الإنكليز تشارلز وارين الذي قام بحفريات محدودة في القدس.. وكان (وارين) يحاول البحث عن ما يدعى "هيكل سليمان"، فقام بسرقة عدد من الفخاريات التي وجدها في منطقة الحفر وادعى لاحقاً أنها فخاريات يهودية، وأصدر (وارين) كتاباً (في لندن عام 1876م) ادعى فيه أن هيكل سليمان المزعوم تحت المسجد الأقصى. ويقول الحاخامات اليهود أو آثاريو "إسرائيل" اليوم إن النفق ذاته الذي حفره (وارين) هو النفق الذي سيؤدي إلى الكشف عن "مدينة داوود" القديمة حيث الهيكل المزعوم، وأن الفخاريات التي سرقها (وارين) من القدس هي فخاريات تثبت أن لليهود حقاً في القدس، وهذا الادعاء فنده آثاريون ومؤرخون عرب وإسرائيليون مؤخراً. أما هرتزل مؤلف كتاب "دولة اليهود" فقد دعا مرات عدة في كتابه إلى محو آثار القدس وتدمير معالمها الإسلامية والمسيحية.
ولم تتوج كل المحاولات الصهيونية في سرقة الآثار الفلسطينية ومحو هويتها إلا بعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، فبعد إعلان "دولة إسرائيل" مباشرة، بدأت العصابات الصهيونية (الهاغاناه وشتيرن والأرغون) بسرقة الآثار الفلسطينية من القرى التي تحتل مباشرة، واستمرت عمليات سرقة الآثار إلى ما بعد النكسة عام 1967م حيث أصبحت السرقة علنية، وقادت حملات السرقة وعملياتها شخصياتٌ "إسرائيلية" عسكرية وسياسية كبيرة منها موشي دايان (وزير الحرب الأسبق للكيان الصهيوني) الذي كان يقود عمليات سرقة ممنهجة، وكان مدعوماً بذلك من السلطات الدينية والسياسية الصهيونية، وقد دعا (دايان) في أكثر من مرة، إلى إزالة كل الآثار المقدسية بدعوى إيجاد الهيكل المزعوم، فقد نقلت صحيفة دافار الصهيونية في عددها الصادر بتاريخ 12 آب 1971م عن دايان قوله: "إنه لا ضرورة للتأخر في الكشف والعمل للعثور على الآثار القديمة العائدة لأيام الهيكل الثاني، ويمكن تصوير بقية الآثار وإزالتها لأنها تخفي عنا رؤية الصورة الكاملة كما كانت في حينها "وهذا يعني إزالة كل الآثار والأوابد العائدة للحضارة القديمة.
ويقول الدكتور معين صادق (رئيس قسم الآثار في جامعة الأزهر في غزة)، إن الاحتلال كثف منذ العام 1967م عمليات التنقيب عن الآثار الفلسطينية، إن الإحصاءات عن تلك الفترة تشير إلى أنه في كل سنة كانت تتم سرقة مئة ألف قطعة أثرية فلسطينية. وفي كثير من الحالات كان السارق سلطة الآثار "الإسرائيلية" التي كانت تشرف على عمليات التنقيب، وما تمت سرقته والعديد مما استخرجته تم إخفاؤه. لكن هناك أيضاً مجموعة من القطع موجودة اليوم في متاحف "إسرائيلية" وفي مخازن الحكومة في تل أبيب، ومنه ما تمت سرقته من قبل تجار محترفين، ومع بداية التسعينات من القرن المنصرم، اتخذت دائرتا الآثار والسياحة "الإسرائيليتان" عملاً مشتركاً يقضي بسرقة الآثار الثابتة والمنقول أو شرائها بمبالغ طائلة من أي مكان في الأراضي الفلسطينية، وذلك لمحو كل العمق التاريخي لفلسطين، وتتوج العمل في هذه المرحلة مع بداية بناء الجدار الفاصل، حيث صودرت بحجة بنائه أراضٍ واسعة غنية بالأثار الكنعانية والرومانية والإسلامية.
وللتفصيل أكثر نقول إن النشاط الغربي في ميدان علم الآثار في فلسطين قد مر بمرحلتين: الأولى بريطانية والثانية أمريكية – إسرائيلية، ففي المرحلة الأولى كان لا بد من أجل تحقيق الأهداف السياسية التي خطت في هذه المرحلة أن يتم تحديد الوسائل اللازمة لذلك، واحد منها كان ميدان عمل الآثار، حيث كان إيجاد إي دليل أثري على صحة ما ورد في الكتاب المقدس يمثل أمراً مهماً للغاية لدى الأوساط البروتستانتية والاستعمارية البريطانية، ومن هنا جاء تأسيس "صندوق استكشاف فلسطين" عام 1838م، وحتى تكون له القوة والسلطة المعنوية فقد جرى تأسيسه تحت رعاية ملكة بريطانيا، وفي ملفات أرشيف الوثائق البريطانية توجد وثيقة تأسيس الصندوق التي تبدأ بتعريف الصندوق وتحديد أهداف لتقول إنه "دمعية تستهدف الدراسة الدقيقة والمنهجية لآثار فلسطين وطبوغرافيتها وجيولوجيتها وجغرافيتها العينية وطبائع وعادات الأرض المقدسة بغرض تصوير الكتاب المقدس (أي تحقيقه على الواقع) أي التأكيد على ما ورد فيه من خلال اكتشف الآثار التي تدل على صحته، وهذا يعني أن وجود "إسرائيل التاريخية" حقيقة ماثلة، ودور علم الآثار تثبيتها والتهيئة لخلقها من جديد.. فكان صندوق استكشاف فلسطين الذي أسس واحداً من الوسائل لتحقيق ذلك، وفي هذا الصدد لا بد من التعرف غلى الكابتن تشارلز وارين خريج كلية "سانت هيرست" العسكرية الذي كان برتبة جنرال عندما قاد في عام 1869م بعثة استكشافية للتنقيب عن الآثار اليهودية في فلسطين، وهي بعثة كانت تابعة للمخابرات العسكرية البريطانية وكانت أعمالها لبنةً لاختلاق تاريخ لم يكن له وجود.
وفي بداية القرن العشرين خبت حركة التنقيب عن الآثار الفلسطينية، وقدمت بريطانيا مشروع صك الانتداب إلى عصبة الأمم متضمناً مادةً خاصة بالآثار في فلسطين نظراً لأهميتها في إثبات ما لا يمكن إثباته عن علاقة العبرانيين بأرض فلسطين، وعندما بدأت حكومة فلسطين الانتدابية عملها برئاسة هربت صموئيل اتخذ هذا خطوات عملية تمهيداً لتحويل فلطسين إلى "وطن قومي لليهود" ووفر كافة الظروف السياسية والاقتصادية والإدارية لتحقيق هذا الهدف، كما أنشأ دائرة الآثار ووضع على رأسها عالم الآثار البريطاني جون غارستنغ الذي اتبع سياسة مفتوحة في التنقيب عن الآثار سمحت لجمعيات ومدارس غير بريطانية بالنشاط في هذا المجال، وهو ما هيأ للمرحلة الثانية الأمريكية – الإسرائيلية التي انصب عملها في استكمال المرحلة البريطانية من حيث زرع الأسس المادية الاختلاق أسطورة "إسرائيل القديمة"، ممهدةً بذلك لإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين، لكنه تميز عن المرحلة السابقة بالعمل المتخصص بآثار فلسطين والخروج باستخلاصات تدعي العملية لإثبات وجود عبراني قديم في أرضها أنشأ "دولة إسرائيل" التي ذكرتها التوراة.
ومن الجدير بالذكر هنا، أن الخطاب التوراتي لمدارس الآثار الغربية بدأ يتداعى على أيدي علماء غربيين تحرروا من الرؤية السابقة فأسسوا لحركة مضادة في ميدان علم الآثار، بدأت تتبين في ضوء حقائق التنقيبات الفلسطينية أن الخريطة التوراتية لفلسطين تضاريس وتاريخاً هي مجرد صناعة لاهوتية تخدم أغراض سياسة استعمار فلسطين لا أغراض العلم. وظهرت دراسات لعلماء موضوعيين مناقضة لعلم الآثار التوراتي وتستند إلى نفس المكتشفات التي اعتمدها هذا الاتجاه، والمفارقة أن هؤلاء العلماء قد نشؤوا وتبنوا في البداية اتجاه المدرسة الأمريكية للدراسات الشرقية، ومنهم عالم الآثار (كيث وايتلام) وهو يعمل أستاذاً للدراسات الدينية في جامعة ستيرلينغ (في سكوتلاندا) وقد أصدر كتابه "اختلاق إسرائيل القديمة وإسكات التاريخ الفلسطيني" سنة 1996م، ويركز (وايتلام) على البعد السياسي من وراء محاولات الطمس والتفسير المغلوط للتاريخ، حيث يذكر "أن تاريخ إسرائيل المخترع في حقل الدراسات التوراتية كان ولا يزال صياغة لغوية وأيديولوجية لما كان ينبغي أن تكون الممالك اليهودية عليه، وليس ما كانت عليه في الواقع". ولقد بذل الاتجاه التوراتي واليهود محاولات مستميتةً لخلق حضارة لهم وخلق تاريخ زائف، ويقول (كيث وايتلام): "ومن المرجح أن تستعيد فلسطين صوتها وحقها في تمثيل نفسها في تلك الفترة – بين العصر البرونزي المتأخر وبداية العصر الحديدي". وتشير المعلومات الأثرية المكتشفة التي أثارتها تنقيبات (عاي) – وهي مدينة كنعانية قديمة بالقرب من القدس – وحسب رواية التوراة بأن (يشوع) قد مرها، إلا أن التنقيبات الأثرية لم تجد أثراً لهذا التدمير المزعوم، وقد نقب علماء آثار مشهورون في هذه المنطقة وأعلنوا أنهم لم يعثروا على مدينة معاصرة لــ "يشوع" كما زعمت التوراة.
وهناك عالم آخر كان له موقف من التزوير التي تقوم به الاتجاهات التوراتية وهو "توماس. ل. طومسون"، فقد أصدر طومسون (وهو أستاذ علم الآثار في جامعة ماركويت في الولايات المتحدة) كتابه الأول: "التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي" عام 1992م، وفي كتابه هذا دعا صراحة إلى "نقض تاريخانية التوراة: أي عدم الاعتماد على التوراة ككتاب لتاريخ المنطقة والحضارات، وإلى اعتماد الحفريات الأركيولوجية وثروة الآثار الكتابية القديمة كمصادر لإعادة كتابة تاريخ فلسطين. ويتفق طومسون مع وايتلام في كثير من الاستنتاجات ويشير إلى أن هناك عملية ممنهجة لكثير من الدلالات التاريخية للمكتشفات الأثرية ومحاولة لتفسيرها بطريقة مغلوطة لمصلحة اختلاق "إسرائيل القديمة".
أما عالم الآثار الأمريكي المعروف (بول لاب) الذي ترأس بعثة تنقيب في فلسطين عام 1962م بالقرب من نابلس، فق تفح عمله الطريق لنقد علم الآثار التوراتي أما الآخرون من أمثال وليام ديفر وتوماس ليفر وجوناثان تب و وماس طومسون وكيث وايتلام، وكان لموقف لاب من تزييف معاهدة البحث التوراتي والتشويه الذي أحلقته بآثار فلسطين وتاريخها والذي ترافق مع دحضه للكثير من التصورات التي فرضت على التاريخ الفلسطيني، أثر بالغٌ في تعزيز هذا التيار النقدي.. وبعد احتلال 1967م احتج (لاب) علناً على الحفريات التي سارع إليها الجيش الإسرائيلي وفريق علماء آثاره المرتبط بنشاطه الاحتلالي في الأراضي المحتلة، وكان لاحتجاجه أثرٌ بالغٌ في اتخاذ منظمة "اليونسكو" قراراً بطرد إسرائيل من عضويتها بعد إدانتها لقيامها بحفريات غير مشروعة في أرض محتلة وتدميرها المتعمد للآثار الفلسطينية مثل إزالة حي كامل هو "حي المغاربة".. ويذكر أن الدكتور بول لاب قد غرق أو أغرق عمداً على شاطئ قبرص الشمالي، وهو الماهر في السباحة، ولفتت هذه الجريمة، شأنها في ذلك شأن الجرائم الإسرائيلية ضد العلم والعلماء، لفتت الأنظار إلى عمق الأثر الفكري والسياسي لعلم الآثار الفلسطيني، وفي هذا السياق فإننا لا ننسى كيف أن الصهاينة قاموا عام 1992م باغتيال عالم الآثار الأمريكي ألبرت غلوك الذي كان يعمل محاضراً في جامعة بيرزيت لأنه كان يتولى قيادة مشروع استكشاف التاريخ الفلسطيني، وأسس "معهد الآثار الفلسطيني" وهو الأول من نوعه في الوطن العربي.
ومن العلماء أيضاً "كاثلين كينيون " التي يشهد لها دورها في حقل الآثار الفلسطينية، حيث عملت ما بين 1952 و 1958م ومن 1960م إلى 1961م في البحث والتنقيب في أريحا والقدس، وخرجت باستنتاجات جريئة نقضت الفرضيات القائمة على المدلولات التوراتية غير العلمانية، ولم يلبث جميع الذين خالفوها في البداية أن أعلنوا صواب وموضوعية اكتشافها، فمن اكتشافاتها أن سور أريحا المكتشف يعود إلى العصر البرونزي القديم، وأن أريحا لم تكن مسورة خلال العصر البرونزي الأخير (أي زمن يشوع بن نون كما تزعم التوراة)، وأن ما ظن المنقبون من ساروا وأبراج تعود إلى عهد داوود، أو من قوسٍ اعتقد روبنسون أنه يعود إلى عهد داوود أيضاً، هو خطأ، بل إن جميع هذه المنشآت تعود إلى القرن الثاني الميلادي أي العصر الروماني، ونفت أن تكون الحجارة من بقايا الهيكل.
ويقول البروفيسور زئيف هيرتسوغ (وهو أستاذ في قسم آثار وحضارة الشرق القيم في جامعة تل أبيب): "إن الحفريات الأثرية المكتشفة في أرض إسرائيل خلال القرن العشرين، قد أوصلتنا إلى نتائج محبطة، كل شيء مختلق، نحن لم نعثر على شيء يتفق مع الرواية التوراتية، إن قصص الآباء في سفر التكوين (إبراهيم – إسحق – يعقوب) هي مجرد أساطير "كما يقول (هيرتسوغ): "إنني أدرك باعتباري واحداً من أبناء الشعب اليهودي وتلميذاً للمدرسة التوراتية، مدى الإحباط الناجم عن الهوة بين آمالنا في إثبات تاريخية التوراة، وبين الحقائق التي تتكشف على أرض الواقع".. وتبدو شهادة زئيف هيرتسوغ مثيرة للاهتمام وذات أهمية بالغلة، كونها تصدر عن عالم آثار يهودي، يشاركه الرأي – كما يقول هو – معظم علماء الآثار الإسرائيليين، الأمر الذي يزيد من مصداقية التساؤلات المثارة حول التوراة وتاريخ بني إسرائيل وعلاقته بالمنطقة عموماً.
ويؤكد هذا الموقف أيضاً "إسرائيل فنكلشتاين" في تصريح لصحيفة "نيويورك تايمز" إلى أن "التاريخ التوراتي منذ عهد ليس ببعيد كان يملي مسار البحث والتنقيب الذي استخدم ليثبت الرواية التقليدية، ونتيجة لذلك اتخذ علم الآثار المقعد لخلفي كتخصص علمي، وأعتقد أن الوقت قد حان لكي نضع علم الآثار في المقدمة".
ويشير العديد من الباحثين إلى أن علماء الآثار الإسرائيليين قد بدأت تضمحل أمام أعينهم تواريخ الروايات التوراتية في ضوء الآثار المادية الفلسطينية. وتبدأ الحكاية كما يرويها بعض الباحثين "بالهوس التوراتي" الذي رسم خريطة لفلسطين نابعة من التصورات اللاهوتية، وظل يفرضها طيلة أكثر من مئة عام على تضاريس فلسطين. هذا الهوس الذي قلب منهج البحث العلمي وجعله يسير على رأسه لم يكن خافياً على قلة من العلماء من أمثال الإيرلندي ماك أليستر منذ البداية، فقد أكد هذا الباحث منذ العام 1925م في كتابه "نصف قرن من التنقيب في فلسطين" على أن ثم نزعة غير علمية تسود مبحث التنقيب هنا، فالباحثون ينطلقون من فرضيات مسبقة ويحاولون التفتيش عما يدعمها في المواقع الأثرية، ويهملون في سعيهم كل الآثار المكتشفة التي لا تدعم فرضياتهم أو يختلقون قراءات للآثار المكتشفة تعزز ما في أذهانهم، إلا أن هذه الشكوك لم تستطع التغلب على خطاب تدعمه في العقلية الغربية رواياتٌ دينية، ثم أصبحت تعززه المطامع الاستعمارية في الأرض الفلسطينية وهي مطامع عبر عنها علناً رعاة صندوق استكشاف فلسطين البريطاني منذ إنشائه فزعموا أنهم يذهبون إلى استكشاف أرض هي لهم، لكن هذا الخطاب لم يفتأ أن بدأ يفقد سطوته على هذا الحقل الذي أطلقوا عليه اسم "علم الآثار التوراتي".
ومن المعروف أن مكتبة "إيبلا" التي تقع شمالي سورية لم تؤكد أي حدث تناولته التوراة، مما شكل صدمة لدى علماء الآثار الصهاينة ومفاجأة لدى العلماء الأجانب الذين يعتمدون التاريخ التوراتي.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، أعلن العالم جورج مندهول سنة 1974م أن الفصل القديم كله في التوراة ليس سوى أسطورة وهمية بعيدة عن الواقع التاريخي الذي ترسمه الحفريات الأثرية في المكان، وقال: "هناك تناقضات عدة بين ما ورد في التوراة وبين ما تقوله الحفريات "وأوضح أن الحفريات على رغم احتمالات الخطأ فيها، تظل أهم إثبات علمي للأمور"، وقد وجد (مندهول) من يناصره في موقفه داخل الكيان الصهيوني وبين اليهود، أحد أبرزهم البروفيسور فلنكشتاين الذي مر ذكره والذي يقول في كتاب أصدره مع العالم نيل سيليومن:
"مادة الفصل الأول من التوراة كتبت في نهاية القرن السابع قبل الميلاد، والسؤال هو إن لم يكن كاتبوها بشراً مثلنا ينسون أو يتناسون، كما نلاحظ الآن من بعض الوقائع المنطقية، فيعتمدون على الذاكرة وعلى التقديرات وفي بعض الأحيان يعتمدون على الرغبات" ويضيف: "أثبت البحث الأركيولوجي في السنوات الأخيرة أنه لم تكن هناك شريحة من اليهود الذين يعرفون القراءة والكتابة، ومن يقول أنه يرسم التاريخ القديم اليوم بالاعتماد على الثائق، فإنه يخدع نفسه، فلا توجد مواد مكتوبة من فترات التاريخ القديم، وما وقع من أحداث هناك في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، كتب بعد 500 سنة من وقوعها وضم الكثير من القصص الوهمية". ويضرب (فنكلشتاين) مثلاً على ما يقولك: "هناك رواية في التوراة عن سنحريب الآشوري تقول إنه اجتاح المنطقة واحتل القدس، لكن عجيبة حصلت ومني بالهزيمة" لكن من يفحص الآثار التي تم العثور عليها في المنطقة يتوصل إلى نتيجة معاكسة، إذ إن الآشوريين حققوا انتصاراً ساحقاً، وهناك ما يثبت ذلك في الحفريات الأثرية.
وبالعودة إلى عالم الآثار الإسرائيلي هيرتسوغ فإنا نجده ينفي قصة المذبح فوق جبل عيبال (في نابلس)، علماً أن اليهود يعتقدون بأن المذبح الذي اكتشف فوق الجبل المذكور هو المذبح الذي أقامه إبراهيم الخليل لذبح ابنه اسحاق عندما أراد الله سبحانه وتعالى امتحان مدى إيمانه.. وقال (هيرتسوغ): إن أحداً لا يملك إثباتاً علمياً واحداً عن هذا المذبح.. لقد أرادوا أن يسيطروا على الجبل المطل على مدينة نابلس الفلسطينية، أكثر مما أرادوا إحياء ذكرى إبراهيم وإسحاق، وقاموا بجمع الحجارة على شكل كبش ماعز، رمزاً للكبش الذي جلبته الملائكة وأنقذت بواسطته إسحاق، وأعادوا بناء المذبح ليصبح ملائماً للتوراة، وكل ذلك فعلوه من دون أية شهادة أو تصريح من أي علم آثار.
وفي أواخر شهر تموز من عام 2003م أعلن البروفيسور الإسرائيلي جدعون فرستر أحد كبار علماء الآثار في الكيان الصهيوني المتخصص في الآثار الرومانية في الجامعة العبرية في القدس، أنه عثر على مستندات وآثار تؤكد أن "طنطورة فرعون" القائمة في الشمال الشرقي لمدينة القدس هو أثر مقدس للمسيحيين وليس لليهود كما يعتقدون في إسرائيل، ومثل هذا الكشف يمس عصباً أساسياً من أعصاب الحركة الصهيونية التي تبذل منذ نشأتها جهوداً خارقة للبرهنة على أن كل شيء في هذا البلاد له أصل يهودي، ويردونه إلى التوراة، ويحيطونه بالروايات المأخوذة منها بهدف إثبات "الحق اليهودي" في فلسطين. و "طنطورة فرعون" التي أمساها العرب بهذا الاسم كون قبتها شبيهة بالقبة التي كان يعتمرها الفراعنة، وهي معروفة لدى اليهود في فلسطين باسم "يد أبيشالوم"، وهي مقدسة لدى اليهود منذ القرن الثاني عشر، حيث يعتقد بأن نجل النبي داوود (أبيشالوم) كان أقامها نصباً لنفسه، وأبيشالوم هذا كان متمرداً على والده، وقد اتخذ اليهود، وفيما بعد المسلمون من هذا المكان رمزاً مقدساً للعن الأبناء المتمردين على آبائهم، فكانوا يأتون غليه من كل الأرجاء ليرجموه، وأكدت هذه الرواية أبحاثٌ علمية عدة في الكيان الصهيوني، وفي عام 2001م حصل الباحث اليهودي نحمان أبيجاد على لقب الدكتوراه بفضل الأطروحة التي أعدها عن المكان و"أثبت" أنها واحدة من أهم عشرين موقعاً أثرياً لدى اليهود. لكن البروفيسور جدعون فرستر أثبت أن هذا الموقع مقدس للمسيحيين منذ القرن الرابع الميلادي، وهو حقق اكتشافه هذا بالصدفة عندما تفرس في صورة كان التقطها في المكان راهب مسيحي تبين منها أن هناك كتابة يونانية. وكانت هذه الكتابة محفورة في الحجر، وتبين أن الكتابة تقول: "هذا هو ضريح القديس زخريا، الكاهن المؤمن، والد يوحنان".. وزخريا الكاهن هذا هو حسب الإنجيل، والد يوحنا المعمدان، ومن التحليل الأركيولجي تبين أنها نقشت في القرن الرابع بعد الميلاد، أي بعد 300 سنة من إقامة الضريح، ومضمون الكتابة يدل على أن المكان كان مقدساً للمسيحيين في تلك الفترة، ووضع (فوستر) بذلك تحدياً أمام المؤرخين لتفسير سبب سيطرة اليهود على المكان في القرن الثاني عشر الميلاد، وتحدياً أمام المؤسسة القضائية في الكيان الصهيوني التي سيكون عليها أن تعترف بالبحث وتصادق عليه وتسقط "طنطورة فرعون" من الأماكن المقدسة لدى اليهود.
خاتمة..
بعد هذا، كله، أفلا ينبغي على العرب بشكل عام والفلسطينيين منهم بشكل خاص أن يعطوا علم الآثار الفلسطيني الأهمية القصوى، باعتباره أحد وأبرز ميادين الصراع العربي – الصهيوني؟!
المصادر والمراجع:
1.د. إبراهيم حجازين، علم الآثار الفلسطيني القديم.. الرابط :
www.fahmialatout.com2.المكتشفات الأثرية في القدس.. الرابط:
www.quran.com3.حمد طه، معركة مجدو، مجلة الكرمل، العدد 61، خريف 1991م، ص 242، 245، 246، 247.. الرابط:
www.alkarmel.org4.القدس، مؤسسة فلسطين للثقافة، 2 تشرين الأول ص2007م.. الرابط:
www.alquds-online.org5.www.dalem.net
6.www.balata-albalad.org
7.www.alwatanvoice.com
8.وكالة الأنباء الإسرائيلية/عيتيم، 28 تموز 2003م.
9.حمدان طه، الجنائزية والتمايزات الاجتماعية في فلسطين، مجلة الكرمل، العدد 63، ربيع 2000، الرابط:
www.alkramel.org10.د. أحمد داوود، العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود، دمشق، ط1، 199م، ص 9 و 10
11.المرجع السابق ص 56 – 57.
12.حسن الباش، إسرائيل واغتيال التاريخ العربي.. الرابط:
www.wajeb.org 13.د. إبراهيم حجازين، مرجع سابق.
14.www.freearabi.com
15.مجلة الوسط العدد 603، 18 آب 2003م.
16.المرجع السابق.
17.المرجع السابق.