مفهوم القوه الناعمة ودلاله التغيير السلمي: قراءه منهجيه
د.صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم
تعريف بمصطلح القوة الناعمة (Soft power):
ا/ شيوع المصطلح: يشيع في الفترة المعاصرة استخدام مصطلح القوة الناعمة (Soft power) في العديد من المجالات كالعلاقات الدولية والسياسة والاتصال والإعلام….
ب/ الدلالة الاصليه للمصطلح: وهو مصطلح صاغه جوزيف ناي الأستاذ في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الامريكيه في كتابه ( مقدره للقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية) ، والذي صدر عام 1990 ، ثم قام بتطويره في كتابه ( القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة الدولية)، والذي صدرعام 2004 ، وقد استخدم ناى المصطلح بدلاله مضمونها وصف القدرة على الجذب والضم دون إكراه أو استخدام القوة كوسيلة للاقناع.
تعدد دلالات المصطلح: وقد اكتسب المصطلح دلالات أخرى، نتيجة لاستخدامه في مجالات أخرى غير العلاقات الدولية .
ضرورة التمييز بين دلالالتين للمصطلح: والموقف السليم من المصطلح يتحدد من خلال التمييز بين دلالتين للمصطلح :
الدلالة الأولى : وهى الدلالة المستخدمة في مجال العلاقات الدولية ، ومضمونها محاوله سيطرة شعب أو أمه على شعوب أو أمم أخرى بوسائل وأساليب غير القوه كالضغط الاقتصادي أو التبعية الثقافية والحضارية” الامبرباليه الحضارية”، وهو مضمون الاستعمار الجديد” اى السياسات الخارجية الامبريالية للولايات المتحدة الامريكيه ” والذي حل محل الاستعمار القديم القائم على الاحتلال العسكري .وهذه الدلالة مرفوضة.
الدلالة الثانية: وهى الدلالة المستخدمة في المجال السياسي ،ومضمونها التغيير السياسي السلمي، وهى دلاله مقبولة،بشرط ضبطها بضوابط معينه، تضمن تحقيق الاتساق مع واقع المجتمعات العربية المسلمة، المغاير في القيم والقواعد والمفاهيم الكلية، لواقع المجتمعات الغربية.
تعريف التغيير السلمي (Peaceful Change): والتغيير السلمي “السياسي”هو تغيير نظام سياسي “سلطه”معين، بأساليب لا تستند في جوهرها إلى العنف أو القوه- اى أن اى عنف يصاحبها عرضي – وهو احد مستويات التغيير السلمي “المجتمعي” ،الذي يهدف إلى تغيير المجتمع ككل – وليس النظام السياسي فقط – بأساليب سلميه.
أساليب التغيير السلمي: وقد أسس الفكر السياسي الحديث والمعاصر، لكثير من أساليب التغيير السلمي، بعضها مستحدث وبعضها له سوابق تاريخيه، وبعض هذه الأساليب رئيسي وبعضها الأخر ثانوي :
أولا: أساليب التغيير السلمي الرئيسية: وتشمل:ا/ التظاهر السلمي ، ب/الإضراب ، ج/العصيان المدني .
ثانيا: أساليب التغيير السلمي الفرعية: وتشمل : الخطابات العامة والتصريحات العلنية والرسائل المعارضة للسلطة، تقديم العرائض ، الرسوم الكاريكاتورية الناقدة للسلطة ، النكات السياسية، الكتابات ألجداريه و اللافتات والملصقات التظاهرية ، كتابه التعليقات والمقالات والدراسات الناقدة للسلطة ، النشرات والكتيبات والصحف والدوريات المعارضة للسلطة، الاعتصام ، توبيخ المسئولين ، الجنازات الرمزية و التظاهرية، الوقفات الاحتجاجية ، تعليق الأنشطة ، الهجره الاحتجاجية، المقاطعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،إغلاق المؤسسات، سحب الودائع البنكية، عدم التعاون مع السلطة ، سحب الولاء، رفض التأييد العام ، عدم الفعالية المقصودة، الصيام والإضراب عن الطعام، المقاطعة الكلامية للمسئولين، اداره الظهر للمسئولين، البقاء في المنزل ،كشف هويات عملاء السلطة،الامتناع عن دفع الضرائب…
في التأصيل للتغيير السلمي: هناك الكثير من مفاهيم والقيم والقواعد الإسلامية الكلية ، التي تؤسس للتغيير السلمي المجتمعي والسياسي ومنها:
الحث على الرفق والنهى عن العنف: فهناك الكثير من النصوص التي تؤسس للتغيير السلمي من خلال حثها على الرفق ونهيها عن العنف كما في قول الرسول( صلى الله عليه وسلم ) (ان الله عز وجل رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)(صحيح مسلم)، وقوله ( صل الله عليه وسلم ) (مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ) ،وفي رواية (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ? ولا ينزع من شيء إلا شانه )(صحيح مسلم).
قصه ابني ادم في القرن الكريم: تؤسس قصه ابني ادم في القران الكريم للتغيير السلمي ” اللاعنفى” ، من خلال إدانتها للعنف في اجلي مظاهره “القتل “، قال تعالى(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ *لئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ *إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
المرحلة المكية “مرحله الدعوة” في منهج التغيير الاسلامى: كما يؤسس منهج التغيير الاسلامى للتغيير السلمي من خلال تقريره أوليه مرحله الدعوة (التي تقابل في السيرة النبوية المرحلة المكية التي استمرت 13 عاما )، على مرحله الدولة (التي تقابل في السيرة النبوية المرحلة المدنية )، فضلا عن أن الاخيره تأسست بطرق سلميه وقامت على الرضا الشعبي (الهجرة النبوية).
الحث على اعتزال الفتن : كما يؤسس للتغير السلمي النصوص التي تحث على اعتزال الفتن ومنها: عن أبي هريرة رضِي الله عنه قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم
(ستكون فِتَنٌ، القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، ومَن يُشرِف لها تَستَشرِفْه، ومَن وجد ملجَأً أو مَعاذًا فليَعُذْ به )(متفق عليه) . والحث على اعتزال وتجنب الفتن ،لا يعنى اتخاذ موقف سلبي من التغيير المجتمعي والسياسي، برفض كافه أساليب التغيير- كما يفهم البعض خطا – لان هذا الموقف يتعارض مع كثير من قواعد منهج التغيير الاسلامى وأهمها قاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . بل يعنى الحث على اعتزال الفتن تجنب كل ما من شانه أن يهدد استقرار المجتمع المسلم ووحدته، كأسلوب التغيير المسلح- والذي لا صله له بأساليب التغيير السلمي – اى الخروج بالسيف المجمع على تحريمه عند أهل السنة .
قاعدة “عدم جواز الخروج على السلطان الجائر “طبقا للفهم الصحيح لها :كما يؤسس للتغيير السلمي قاعدة “عدم جواز الخروج على السلطان الجائر “، طبقا للفهم الصحيح لها ، والذي مضمونه أن أهل السنة لم ينكروا- عند تقريرهم لهذه القاعدة – حق الجماعة في عزل الحاكم إذا جار – لأنه من القواعد ألسياسيه الاصليه – بل قرروا : أولا:عدم جواز عزله في ظروف زمانية ومكانية معينه ، من هذه الظروف الزمانيه والمكانية أن نموذج الدولة السائدة في عصر علماء أهل السنة ، الذين قرروا قاعدة عدم جوز الخروج على السلطان الجائر كان محتوما عليها أن تكون مقاتلة غزوا و دفاعا ، بالتالي فان القيادة القوية ضرورية لبقاء الدولة، فإذا ضعفت القيادة أدي ذلك إلى توقف الدولة عن القتال، وبالتالي الفتك بها وتمزقها ، وعلي هذا فانه في حاله عدم وجود القيادة التي تتوافر فيها الشروط الشرعية، ووجود القيادة القوية التي لم تتوافر لها الشرعية، فانه يجب استمرارها بحكم الضرورة – وليس إقرارا بشرعيتها – حتى لا تتمزق الدولة . وهناك أيضا ظروف مماثله لها ، وهى انه في أوقات الخطر الذي يتهدد الامه كلها، يجب تأجيل الدفع الاجتماعي ( خلع الحاكم الظالم) – وليس إلغائه- وتحالف كل قوي الأمة لمواجهة العدو – وليس إلغاء هذه القوي- .ثانيا: عدم جواز عزله طبقا لكيفية معينه – هي أسلوب التغيير المسلح – وليس طبقا لكل الكيفيات – فرفضهم لا ينصب على أساليب التغيير السلمي- وبالضرورة لا يتصل بأساليب التغيير السلمي التي قررتها النصوص كالتقويم و النصح
الخروج المجمع على تحريمه عند أهل السنة هو أسلوب التغيير المسلح “الخروج بالسيف “: فالكيفية التي اجمع علماء أهل السنة على تحريمها في كل زمان ومكان هي أسلوب التغيير المسلح، ، ويترتب على هذا ان الخروج المجمع على تحريمه عند أهل السنة هو أسلوب التغيير المسلح ” اى الخروج بالسيف” ، واستقراء النصوص الواردة في تحريم أهل السنة الخروج يوضح هذا المعنى – أن المقصود بمصطلح الخروج ” أسلوب التغيير المسلح – حيث تربط هذه النصوص بين مصطلحي “الخروج “و”السيف” يقول الإمام النووي (وأما الخروج عليهم وقتالهم؛ فحرام بإجماع المسلمين – وإن كانوا فسقه ظلمة – وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق) (شرح مسلم: 12 /432 – 433)، وينقل الإمام ابن تيمية من مذهب أهل السنة ( أنهم لا يرون الخروج علي الأئمة وقتالهم بالسيف، وان كان فيهم ظلم، لان الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال، فيدفع أعظم الفاسدين بالتزام الادني).
رفض علماء أهل السنة لا ينصب على أساليب التغيير السلمي: فرفض علماء أهل السنة إذا ينصب على أسلوب التغيير المسلح ، ولا ينصب على أساليب التغيير السلمي، ومن أدله ذلك : ا/ أن استقراء النصوص الواردة في تحريم أهل السنة الخروج على السلطان الجائر ، يدل على أن المقصود بمصطلح الخروج ” أسلوب التغيير المسلح ” حيث تربط هذه النصوص بين مصطلحي “الخروج “و”السيف” و”القتال”.ب/ استثناء بعض هذه النصوص التغيير السلمي ، من حكم عدم جواز خلع السلطان الجائر ، يقول الإمام الغزالي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد انه ( يجب خلع السلطان الجائر إن قدر بلا تهيج قتال، وان لم يكن ذلك ممكنا إلا بتحريك قتال وجبت طاعة ،وحكم بامامتة)، فقول الإمام الغزالي (إن قدر بلا تهيج قتال) يشير إلى التغيير السلمي المستثنى من حكم عدم جواز خلع الجائر. ج/ إقرار النصوص لبعض أساليب التغيير السلمي كالنصح .
الاراده الشعبية العربية وضرورة التغيير السلمي”القوه الناعمة”:
التعطيل “الارتدادي ” للاراده الشعبية العربية على المستوى الرسمي و ظهورها على المستوى الشعبي: إن مرحله التعطيل “الارتدادي ” للاراده الشعبية العربية على المستوى الرسمي – والتي بدأت بتولي السادات السلطة في مصر بعد وفاه الزعيم جمال عبد الناصر عام 1970،وارتداده عن سياساته المجسدة للاراده الشعبية العربية وأهدافها في الحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة – هي ذات مرحله” ظهور” الاراده الشعبية العربية على المستوى الشعبي ، فتعطيل الاراده الشعبية العربية على المستوى السياسي ، قد فتح المجال أمام تفعيلها على المستوى الشعبي ، وفى ذات الوقت مهد الطريق إمام انتقالها من مرحله التفعيل الزعامي إلى مرحله التفعيل الجماهيري ، والتي يدعمها تطور وسائل الإعلام الاتصال ،وظهور الخاصية التفاعلية للإعلام.
مرحلتي ظهور الاراده الشعبية العربية على المستوى الشعبي: وتشمل هذه المرحلة مرحلتين من مراحل تفعيل الاراده الشعبية العربية على المستوى الشعبي.
أولا: مرحله التفعيل التلقائي: المرحلة الأولى هي مرحله التفعيل التلقائي ، والتي أخذت شكل رد الفعل العاطفي- التلقائي/ المؤقت ضد مظاهر تردى النظام السياسي العربي، ومشاريع محاوله إلغاء الاراده الشعبية العربية. وقد حققت الاراده الشعبية العربية في هذه المرحلة الكثير من الانتصارات ، بدون أن يمثلها أو يعبر عنها أو يسعى لتحقيق أهدافها اى نظام سياسي معين
ثانيا: مرحله التفعيل القصدى: ان الضمان الوحيد لحفاظ الاراده الشعبية العربية على الانتصارات التي حققتها في مرحله التفعيل التلقائي ، وعدم إجهاض أعداء الامه لهذه الانتصارات، فضلا عن تحقيقها لمزيد من الانتصارات . هو انتقال الاراده الشعبية العربية إلى مرحله جديدة من مراحل تفعيلها، وهى المرحلة ألقصديه والتي تتجاوز رد الفعل التلقائي – إلى الفعل العقلاني- المستمر – المنظم / المؤسساتي ،الذي يهدف إلى تحقيق ما هو ممكن من أهداف الاراده الشعبية العربية .
ضرورة التغيير السلمي فى مرحله التفعيل القصدى: وفى هذه المرحلة يصبح التغيير السلمي ضرورة، ذلك إن تردى النظام السياسي العربي نحو مزيد من التجزئة “التفتيت “، مع ما يلزم من ذلك من زيادة احتمالات انزلاقه نحو الفوضى،يقتضى عدم السكوت عن هذا التردي ، أو محاوله إيقافه باستخدام العنف ضد النظام السياسي العربي ، بل العمل على إيقاف هذا التردي بأساليب سلميه، وذلك بضغط الاراده الشعبية العربية على النظام السياسي العربي بأجزائه المتعددة – بأساليب سلميه – بهدف دفعه نحو التوافق “المشاركة” ، والإصلاح ” التغيير السلمي التدريجي ” – بشرط بعدم اكتمال توافر الشروط الذاتية والموضوعية” للثورة في الجزء المعين، مع الالتزام بالسلمية حتى في الحالة الاخيره.