- اقتباس :
التاريخ يعيد نفسه…
ابن خلدون
من أبرز مآسي الواقع العربي المُعاصر أن الجميع يعتقد وكأنّ أزمته أو مُشكلته التي يعيشها هي حادثة مُميّزة ونقطة علّام في سياق النسيج التاريخي للحضارة الإنسانيّة، وأن ما يمر به بلده ومُجتمعه لم ولن يحدث ربما في أي عصر كان من العصور الماضية والتي ستأتي ربما.
لكنّ ابن خلدون كانت لديه نظرة مُختلفة تماماً، إذ وجدَ أن التاريخ ما هو إلا تكرار لنفس الظواهر والأحداث مع تغيّر طفيف في الأبطال والأدوار، لربما أبسط مثال نستشهد به هو العصور الوسطى الأوروبيّة والتي هي عصورنا الحاليّة بدون جدل، مُجرّد تكرار لنفس الأحداث – بعقلانيّتها وغبائها – فقط الشخصيّات والأدوار هي التي تبدّلت.
التفسيرات الخرافية للظواهر من أبرز مظاهر العصور الوسطى لأوروبا
فإذاً اعتبارنا لمشاكلنا أنها نقاط تحدث لأول مرة في ملعب التاريخ هو أمر مُبالغ فيه، كُل شيء كان قد حصل في السابق ولكن بطرق مُختلفة تتناسب مع مُعطيات عصره ومُتطلباته. وبنظرة سريعة على قصص تلك الأمم الخالية وتلك الحضارات البائدة يُمكننا أن نستقرئ ونستنتج ما سيحدث في واقعنا، وهذا طبعاً ما نتحاشى فعله، لأن هكذا أفعال تتطلب الجدّ والتعب والبحث والتنقيب لأجل المعرفة وهذا ما يتعارض مع غريزة الكسل المزروعة في نفوسنا، ولعلَ ما قاله أحدهم واصفاً حالنا خير دليل على ذلك:
- اقتباس :
إن العرب لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يعقلون
إذ لا يكفي فقط أن تقرأ أخبار الأمم التي مضت وتمشي مُستريحاً هادئاً وكأن شيئاً لم يكن، بل يجب أن نعقلها أيضاً، أن نحاول ألا نكرر نفس الأخطاء التي وقعوا فيها، نفس الغباء الذي اقترفوه، أن نعقل أفعالنا بفهم ما حدث لهم وكيف كانت النتائج والعواقب.
لأجل هذا سيكون هذا المقال عرضاً سريعاً لأبرز تقسيمات العصور التي وضعها المؤرخون، لعلّه يكون خطوة في سبيل فهم سياقات الأحداث التاريخيّة وكيفيّة حدوثها، ومن ثم عقلها لتفادي ما قد تجلبه من كوارث في حاضرنا.
قامَ المؤرخون بتقسيم العصور إلى نوعين، عصور ما قبل تاريخيّة والعصور التاريخيّة، أما الحد الفاصل بينهما فهو “اختراع الكتابة” الحدث الأبرز الذي شكّل نقلة نوعيّة في الحضارة الإنسانيّة.
عصور ما قبل التاريخ (العصور الحجريّة)
كما قلنا.. عصور ما قبل التاريخ هي العصور التي سبقت معرفة الكتابة واكتشافها وقد سُميت أيضاً بالعصور الحجريّة لأن الحجر كان الأداة الرئيسة المُستخدمة فيها والتي صنعها الإنسان، والتي شكّلت فيما بعد دليلاً قوياً لفهم كيف كانت حياة من عاش في هذه الفترة.
تقسم العصور الحجريّة إلى عدة أقسام أخرى:
1/ العصر الحجري القديم (الباليوليتيك Palaeolithic)
أحجار تعود للعصر الحجري القديم
يُعد هذا العصر من أطول عصور ما قبل التاريخ أو الحجريّة، إذ بدأ في هذا العالم منذ حوالي 2,500,000 سنة خلت، وانتهى في حدود 15,000 سنة قبل الميلاد. عاش إنسان هذه العصر في العراء مُعتمداً على الصيد كما سكن في الكهوف، ويُعدّ اكتشاف النار من أبرز سمات هذا العصر.
أما أحجار هذا العصر فقد كانت عبارة عن كتل خشنة وغير ناعمة أبداً.
2/ العصر الحجري المتوسط (الميزوليتيك Mesolithic)
أحجار تعود للعصر الحجري المتوسط
بدأ في الـ 15,000 وانتهى عام 10000 قبل الميلاد. اتصفَ هذا العصر بصفات مُشتركة ما بين العصر الذي سبقه “الحجري القديم” والعصر الذي سيليه “الحجري الحديث”.
أما من ناحية بنية أحجاره، فقد كانت أكثر نعومة من أحجار العصر القديم.
3/ العصر الحجري الحديث (النيوليتيك Neolithic)
أحجار تعود للعصر الحجري الحديث
من عام 10000 ولغاية 4500 قبل الميلاد. يُعد هذا العصر عصر الزراعة والاستقرار وبدء التخلي عن الحجر، إذ قام الإنسان فيه بتربية الحيوانات وتدجينها، ويُعد موقع “تل المُريبط” على الفرات في سوريا من أبرز المواقع التي ازدهرت فيها الزراعة في تلك الفترة.
موقع تل المريبط في سوريا
4/ العصر الحجري النحاسي (الكالكوليتيك Chalcolithic)
أدوات نحاسيّة تعود للعصر النحاسي
بدأ العصر النحاسي في عام 4500 وانتهى عام 3200 قبل الميلاد. تطورت فيه المُجتمعات الزراعيّة التي ظهرت في العصر السابق “الحجري الحديث” فقامت باستخدام النحاس بالرغم من أنه كان استخداماً محدوداً.
ثمّ جاءت الكتابة، وشكّلت حدثاً ضخماً في التاريخ الإنساني، فوضعت حداً فاصلاً بين هذه العصور والتي سُميت بعصور ما قبل التاريخ والعصور التي ستأتي بعد اختراع الكتابة.. العصور التاريخيّة.
العصور التاريخيّة
بدأت من لحظة اختراع الكتابة في عام 3200 قبل الميلاد ولغاية وقتنا الحالي، وقد اتفق المؤرخون على تقسيمها إلى عدة أزمنة والتي هي:
1/ العصور التاريخيّة القديمة
يُجمع العلماء على أن اختراع الكتابة هو بداية العصور التاريخيّة القديمة لكنهم يختلفون على نهايتها، البعض يرى أنها تنتهي بسقوط روما عام 476 للميلاد وآخرون يرون أن انقسام الإمبراطوريّة الرومانيّة إلى شرقيّة وغربيّة هو نهاية العصور القديمة.
تميّزت هذه الفترة بظهور حضارات مُتقدّمة في كل من (العراق، سوريا، مصر، السودان، بلاد فارس، الهند، الصين) كما تميّزت أيضاً بتشكل دول وإمبراطوريّات واسعة كالإمبراطوريّة البابليّة، الآشوريّة، المصريّة، الرومانيّة، والإمبراطوريّة اليونانيّة.
خريطة توضح حدود الإمبراطورية الرومانيّة الشرقيّة والغربيّة
تميّزت هذه الفترة بظهور ديانات غير سماويّة، ومن ثم ظهرت فيها ديانات سماوية (اليهوديّة والمسيحيّة).
خلال هذه الفترة ارتقى الفن لدرجات عالية، مُتأثراً بالدين بشكل كبير، لكنّ دائماً ما يُقال أنه بمجرد وصول الأمور إلى ذروتها تبدأ بالانحسار، وهذا ما حدث فعلاً، بدأ الانحسار بظهور ظلال العصور الوسطى.. عصور الظلام.
2/ العصور الوسطى
سقوط روما
اختلف المؤرخين على تحديد نهاية العصور القديمة وبداية العصور الوسطى، ولم يقتصر على بدايتها فقط، بل على نهايتها أيضاً. فمنهم من اعتبر فتح القسطنطينيّة – إسطنبول حالياً – على يد محمد الفاتح عام 1453م نهاية لهذه العصور، والبعض الآخر اعتبر اكتشاف قارة أمريكا عام 1492م هو نهايتها.
بدأت العصور الوسطى أو عصور الظلام الأوربيّة، فكانت أوروبا تعيش حالة من الفوضى وعدم الاستقرار وذلك بسبب سيطرة رجال الدين على السياسة والفكر، كما أن سيادة الفكر الديني الجبري الذي يهمل قدرات الإنسان ويُرجع كل شيء إلى إرادة الله أدى إلى زيادة ظلام هذا العصور ظلاماً.
كما قام رجال الدين باحتكار “اللغة اللاتينيّة” لهم وقاموا بحجبها عن العامة وذلك خشية الاطلاع على النتاج الفكري والفني للحضارات القديمة ولا سيما الرومانيّة واليونانيّة، وذلك بحجة وثنيتها.
أما من ناحية الفن فقد انتشر فن العمارة القوطي ذو الأشكال المُجرّدة والمُتأثرة بنظرة الكنيسة، كما انتشر فيها النظام الإقطاعي مما أدى لجمود أوروبا من جميع النواحي تقريباً في فترة الظلام هذه، أما في الجانب الآخر من العالم فقد كانت الحضارة العربيّة تعيش أزهر أيامها.
كاتدرائية كولونيا، أبرز معالم الفن القوطي
عاشت الدول العربيّة في العصور الوسطى فترة ازدهار وتقدّم لا مثيل لها وذلك بفضل انفتاحها على بقيّة الحضارات والثقافات وقيامها بتشجيع الترجمة، كما قامت أيضاً بنقل المعارف والفنون المتنوعة. وقد أنتج هذا التمازج والاندماج مع بقيّة الأمم حضارة مزدهرة ارتقى فيها الفن والفكر.
إذ أنُشئت فيها المراكز العلميّة كما تحولت العديد من الدول العربيّة والإسلاميّة إلى مراكز إشعاع، فأصبحت مقصداً لطلاب العلوم في كل مكان، وهذا ما كان له دور كبير في إعادة نقل المعارف إلى أوروبا والمساهمة في ظهور عصر النهضة فيها.
فتح القسطنطينيّة، نهاية العصور الوسطى
ثم أتت بعدها العصور الحديثة، العصور التي أخرجت أوروبا من عصور ظلامها، ووضعتنا في ظلمات عُرفت بدايتها ويبدو أن نهايتها غير مرئيّة لحد الآن.
3/ العصور الحديثة
رحلة كولومبوس واكتشاف قارة أمريكا
بدأت هذه العصور مع نهاية العصور الوسطى ولا تزال مستمرة إلى الآن، ونتيجة غنى هذا العصور بالأحداث السياسيّة والمُنجزات الحضاريّة، قام المؤرخون بتقسيمها إلى قسمين، التاريخ الحديث والتاريخ المعاصر.
يفصل بين هذين القسمين قيام الثورة الفرنسيّة عام 1789م، وقد تم اختيارها كحد فاصل لما كان لها من تأثير قوي على أوروبا وعلى باقي دول العالم.
بدأت العصور الحديثة مُنتشلةً أوروبا من عصور ظلامها، إذ حدثت فيها نهضتها المشهورة، فانتشرت فيها حركات الاكتشاف الجغرافيّة ثم الثورة الصناعيّة التي أدت إلى تقدّم اقتصادي مُميز، رافقه فيما بعد تقدّم سياسي تمثل بالثورات وقيام الحركات القوميّة واعتماد الديموقراطية كشريعة أساسيّة للحكم. كما انتشرت فيها المدارس الأدبيّة والفنيّة التي عبرّت عن أفكار هذا العصر وتوجّهاته.
الثورة الصناعيّة في أوروبا
أما الدول العربيّة فقد خرجت من ازدهارها وتقدمها لتنزل إلى أقبية الجهل والتراجع والتخلف. إذ أن تعرّض الوطن العربي في نهاية العصور الوسطى لسيطرة الدولة العثمانيّة لمدة دامت حوالي أربعة قرون ساهمت بإبعادها كُلياً عن جميع التيارات الفكريّة والنهضة الأوربيّة الحديثة.
ليس هذا فقط، بل إن الأطماع الأوروبيّة في هذه المنطقة واحتلالهم لقسم كبير من أراضيها ونهب ثرواتها وتكريس عوامل الضعف والتفرقة بين صفوف سُكانها أدى إلى هذا الانحدار الشديد الذي نراه ونسمعه ونلمس نتائجه يومياً على شاشات التلفاز ومواقع الإنترنت.
خريطة سايكس بيكو وتقسيم المنطقة العربيّة
نعود إلى النقطة التي انطلقنا منها بعد هذا العرض السريع والمُوجز لتقسيمات العصور مع أبرز خصائصها. التاريخ يُعيد نفسه ولا شك أن ما نمر به الآن من جهل وانحدار في مستنقع الغباء الجمعي كانت أوروبا قد عاشته في عصور ظلامها. ولعلَ احتكار رجال الدين في تلك الفترة للغة اللاتينية خشية اطلاع العامة على النتاج الفكري لبقيّة الحضارات لا يذكرني إلى بالقرارات التي تصدر لمنع بيع الكتب تحت تهم مُختلفة مما يؤدي لدعاية مجانيّة لها تحت شعار:
- اقتباس :
كل ممنوع يصبح مرغوباً
الأزمة والمشكلة التي تُعاش الآن ليست نُقطة علاّم في التاريخ، ربما كل ما يحدث وسيحدث سيكون عبارة عن سطر أو سطرين في أحد الكتب التي ستحكي قصة حضاراتنا في السنين القادمة، لأجل هذا حاول أن تفهم التاريخ وأحداثه، أن تعرف العصور وتقسيماتها وعقليّة كل من عاش فيها، واتخذ من هذا المثل الياباني القديم قاعدة لك في القراءة:
- اقتباس :
إن كنت تصدق كل ما تقرأ، فلا تقرأ
لا تصدق كل ما تقرأ، اِعقل ما تقرأه. ليسَ لأجل شيء، فقط لأجل ألا نكرر نفس الحماقات التي وقعَ فيها من عاش قبلنا وأدت لهلاكهم المُحتّم.