جدلية الواقع السياسي العربي ـ1
حين يشاهد الإنسان العربي ما يجري اليوم في وطنه، يتساءل فيما إذا كانت القومية العربية قومية من الأعداء والجهلة، وفي محاولة لاستعادة توازنه يستدعي نظرية المؤامرة التي لا يعرف متى بدأت ولا متى تنتهي.
لا يختلف إثنان في أن الواقع السياسي العربي أوصلنا إلى ما نحن فيه من التشرذم والإقتتال والحروب الأهلية التي لا تنتهي. ولكن قبل أن نضع النقاط فوق حروف واقع السياسة العربية لا بد من معرفة وتعريف منظومة العمل السياسي الموجودة بشكل عام في كل دول العالم والتي تتكون من:
1 ـ النظام السياسي: رافق النظام السياسي الإنسان منذ تشكيل الوحدة الاجتماعية الأولى، ومثل قمة الهرم في التنظيم الاجتماعي، ورغم قدمه وإختلاف صوره وأشكاله ومسمياته وأطره الفكرية ودرجة تطوره، بقيت وظيفته الأساسية ثابتة لم تتغير على مر العصور، وتتلخص في تنظيم العلاقات الداخلية والخارجية للمجتمع. كذلك أركان النظام السياسي المتمثلة في السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية ثابتة وغير قابلة للتغيير.
2 ـ السياسة: السياسة هي التنافس على السلطة وحق استعمالها، وهي نشاط إنساني هدفه السيطرة على مواقع إتخاذ القرارات الملزمة لكافة أفراد المجتمع تحت طائلة القانون.
3 ـ السياسيون: هم الأفراد والكيانات التي تسعى للسيطرة على مراكز إتخاذ القرارات التي تمكنهم من فرض رؤياهم فيما يجب أن يكون عليه المجتمع، وتحديد من يأخذ ماذا ومتى.
4 ـ المواطنة: هي استكمال الاستيعاب الذهني والعاطفي لمجموعة القيم التي تشكل الذاكرة الجماعية للمجتمع، والمرتبطة في الحدود الجغرافية التي يعيشون فيها.
5 ـ الدستور: هو العقد الاجتماعي أو الوثيقة التي تنظم علاقة الحاكم بالمحكوم، وتتضمن الحقوق والواجبات ومن يملك كلمة الفصل في تغيير نظام الحكم وتعديل مواد الدستور. ومن الجدير بالذكر أن الدستور يجب أن يكون في حالة تطور مستمر حتى يواكب التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ليكون قادرا على التعامل مع المشكلات الحديثة التي لا يمكن حلها بأدوات وأفكار قديمة.
الثابت والمتغير: من الضروري جدا التأكيد على ضرورة الفصل بين النظام السياسي (الثابت) ونظام الحكم (المتغير) خاصة في البحوث السياسية والاجتماعية، فعلى سبيل المثال إن الدكتاتورية نظام حكم يسيطر فيه فرد أو مجموعة أفراد على أركان النظام السياسي الثلاثة، وهذا يعني أن الدكتاتورية صفة لأشخاص وليست نظاما سياسيا، وكثيرا ما تستعمل هذه المفردات في الحياة العامة.
إن التناقضات الداخلية في كل مجتمع والتناقضات الخارجية مع المجتمعات الأخرى يترك الباب مفتوحا على مصراعيه للصراعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للسيطرة على مراكز إتخاذ القرار
فعلى سبيل المثال وليس الحصر كان الرئيس الأمريكي السابق دكتاتوريا حتى النخاع ولكن نظام الحكم بقي ديمقراطيا لأن ترامب لم يتمكن من السيطرة على السلطة التشريعية والقضائية. إن تسويق الدكتاتورية والديمقراطية وغيرهما من المسميات على أنها أنظمة سياسية هو ذر للرماد في العيون، حتى لا يستطيع المواطن أن يرى ويدرك أنه في مواجهة أفراد يغتصبون حقوقه يوميا، وأنه ليس في مواجهة نظام سياسي ذي برامج وأجندة وأهداف. إن جماهير الربيع العربي لم تطالب بتغيير النظام السياسي وإنما طالبت بتغيير السياسيين الذين عطلوا قدرة النظام السياسي على القيام بدوره، وقد أنجزوا ذلك بين ليلة وضحاها على الرغم من النتائج المأساوية التي نتجت عن تدخل الفاسدين بقرار ذاتي والمفسدين بتبرير ذاتي.
إن التناقضات الداخلية في كل مجتمع والتناقضات الخارجية مع المجتمعات الأخرى يترك الباب مفتوحا على مصراعيه للصراعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للسيطرة على مراكز إتخاذ القرار. إن القرارات التي يتخذها السياسيون تنعكس سلبا أو إيجابا على كافة مفاصل الدولة وعلى الحياة الشخصية للأفراد، وقد يمتد تأثيرها إلى أشخاص ومجتمعات خارج إطار الدولة التي إتخذت القرارات. إن القرار الأوروبي الأخير بشأن الحجاب وقرارات التطبيع مع إسرائيل وإعتقال الأطفال في أمريكا وإسرائيل، أمثلة واضحة على القرارات التي يتخذها السياسيون لتحقيق مكاسب خاصة ويمتد تأثيرها ليشمل مجتمعات وأفرادا في دول أخرى.
إن العدالة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الأطفال ليس لها مكان أو معنى خارج الإطار السياسي ومصالح السياسيين. إن ما يجري في العراق وما يجري في اليمن ولبنان وليبيا وسوريا خير دليل على ذلك.
ليس الإنسان في حاجة إلى عقل خاص ليدرك ذلك، وليدرك أن تغيير ما هو كائن إلى ما يجب أن يكون لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تغيير السياسيين ـ لأنهم المتغير الوحيد في منظومة العمل السياسي ـ الذين يتخذون القرارات التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، وهذا لن يتم إلا من خلال المشاركة الكاملة في العمل السياسي وإعتباره فرض عين. إن عدم إشتراك المواطنين في العملية السياسية يعني تنازلهم عن كافة حقوقهم السياسية والشخصية. إن المخاطر التي يتعرض لها من يقرر المشاركة الكاملة في العمل السياسي أقل بكثيرمن مخاطر عدم المشاركة. إن من لا يشارك في العمل السياسي لا يدرك الخطر الكامن في إنسحاب المواطنين من ساحة العمل السياسي ولا يدرك الأثر الحقيقي للصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في ظل واقع سياسي يتنازل فيه السياسيون عن المقدس والثمين للحصول على التافه والرخيص ويغتصبون العام مهما كانت قدسيته للحصول على الخاص مهما كانت قذارته، ولا يدرك أيضا أنه هو الأداة الوحيدة التي يقع على عاتقها إنجاز عملية التغيير.