المؤسس عثمان بن أرطغرل وبزوغ دولة العثمانيين
الخلافة العثمانيةفي يوم من أيام سنة 656 ه،ـ المُوافقة لسنة 1258 م، استيقظت الأمة الإسلامية على فجيعة سقوط بغداد، حاضرة الخلافة العباسية ومقتل آخر خليفة عباسي “المستعصم بالله”، وأصيبت القلوب بالصدمة، والألسنة بالذهول؛ فعجزت عن وصف هول المجازر والجرائم التي سطّرها التتار المغول السفاحون في المنطقة، حيث اكتسح اللون الأحمر المشهد، وقُتل أكثر من مليون شخص، وتغير لون النهر لحجم الدم المسفوك وحجم حبر الكتب المهدورة، وهُدمت معالم حضارة بزغت لعقود بشكل لم يسبق له مثيل. فتفشى شعور اليأس بين المسلمين وتحطمت الآمال في محنة التتار. لكن القدر كان يخبئ لهذه الأمة صناعة مجد عجيب؛ ففي الجانب الآخر من الخريطة حيث كانت قبيلة قايى التركية المسلمة تحتضن مولودها الجديد في نفس هذا اليوم الكارثي، في خيمة زعيم القبيلة الغازي أرطغرل بن سليمان شاه وزوجته حليمة خاتون. سماه والده باسم عثمان خان، تيمنًا باسم الخليفة الثالث وأحد المبشرين العشرة بالجنة: عثمان بن عفان رضي الله عنه. ولم يكن يعلم أرطغرل يومئذ أن أصغر أبنائه سنًا، عثمان، سيقترن اسمه بقيامة دولة إسلامية مترامية الأطراف تعيد للخلافة التي اندثرت في بغداد أمجادها، وتسجل أحد أروع سير بناء الدول في تاريخ المسلمين، وتنال شرف فتح القسطنطينية عاصمة الروم البيزنطيين سنة 1453 م، كما نبأنا بذلك رسول الله صل الله عليه وسلم، وهو ما سيُحدِث انعطافة تاريخية عالمية بنهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة بحسب المؤرخين. دولة يدوم ملكها لـ6 قرون متواصلة، تترامى أطرافها شمالًا وغربًا في أوربا، وتملك بلاد القرم ومحيط البحر الأسود وبلاد القفقاس وأوربا الشرقية وبلاد البلقان، وتصل إلى وسط النمسا وشمال إيطاليا، فكانت أول دولة مسلمة في التاريخ الأوربى تصل بجيوشها الجرارة إلى قلب أوربا. وتنعطف جنوبًا لتملك الشام والعراق، والحجاز واليمن، ثم وسط شمال إفريقيا وأكثر جزر البحر الأبيض المتوسط، وتستلم مفاتيح مصر وتستلم معها مقاليد الخلافة من آخر الخلفاء الرمزيين لبني العباس الذي كانوا في القاهرة في كنف دولة المماليك سنة 922 ه، وتزدان بتاريخ ماجد جمع شتات المسلمين تحت رايتها، راية الجهاد التي شقت الأرض دفعًا وطلبًا في مواجهة دول وممالك أوربا الذين ورثوا راية الروم بعد سقوط القسطنطينية. ولا شك أن أرطغرل الذي تمرّس فنون الفروسية وشهدت له الأرض بمسيرة جهاد مبهرة وفتوحات مثيرة أور ابنه أسرار النجاح والوصايا النيّرة التي فعلت مفعولها في مستقبله، كما ورثها من والده سليمان شاه الذي قضى نحبه غرقًا أثناء عُبوره نهر الفُرات بِحصانه؛ فأفلحت تربيته وبارك الله في نسله عقودًا متوالية.
وقبيلة قايي التركية الغُزيَّة (الأوغوزيَّة) التي يقال إنها تعود إلى بيافث بن نوح، دفعها تقدمُ المغول في أوائل القرن الثالث عشر الميلاديّ إلى النزوح غربًا صوب الأناضول، حيثُ سكنت في منطقة تابعة لسلطنة السلاجقة، وحازت على دعم الدولة السلجوقية وسلطانها علاء الدين الذي أقطع أرطغرل مناطق كثيرة بعد أن حاز على ثقته بسبب شجاعته وحبه للغزو والقتال. وحين توفي أرطغرل عن عمر يناهز التسعين بمرض النقرس بعد سيرة حافلة بالفتوحات والانتصارات، كان قد أسس لقبيلته ولدولة السلاجقة مكانة قوية في المنطقة. وأورث هذه المكانة لابنه عُثمان وهو في سن الرابعة والعشرين على الأرجح، نظرًا لكفاءته وقدراته القيادية التي أظهرها خلال مرافقة أبيه في الحروب والغزوات وخلال مجالس القضاء والمشورات، فاستلم عثمان قيادة القبيلة واستمر على نهج أبيه، وحقق نجاحات مبهرة. وكذلك فعل خُلفاؤه، فقد تابعوا الحملات التي بدأها عثمان إلى أواسط القرن السَّابع عشر الميلاديّ، لتتحول الإمارة التي وضع أُسسها إلى إمبراطورية عالمية كبرى.
فصول من مراحل بناء الدولة
وأشار عدد من المُؤرخين إلى أن عثمان قد خاض معركة داخلية شرسة انتهت بضبطه السيطرة على مقاليد حكم قبيلته، وكانت هذه المعركة على العرش مع أقرب أقاربه، عمه “دوندار غازي”. وفي هذا الشأن نقل قادر مصر أوغلو في كتابه”مأساة بني عثمان” عن المؤرخ التركي خير الله الهندي الذي عاصر عثمان بن أرطغرل، أن دوندار كان طرفًا في مؤامرة اتفق على تدبيرها بالتعاون مع حاكم مدينة “بيله جك” البيزنطي، تستهدف اغتيال عثمان تمهيدًا لوثوب دوندار إلى الزعامة خلفًا لعثمان، فلما انفضح أمر المؤامرة نفذ عثمان حكم الردة كأحد أحكام الشريعة الإسلامية في عمه جزاء جريمته في موالاة أعداء الإسلام والتآمر معهم ضد جماعة المسلمين فقتله.
ومن بين الروايات لكيفية استلام عثمان الحكم، تلك التي تشير إلى إعجاب السُلطان السلجوقي علاء الدين بعُثمان وبشجاعته وإقدامه، حتى قال عنه: “أنا أنتظر مثله مُنذ سنوات”، ثم نصّبه زعيمًا على قبيلته دون معارضة من أفرادها.
وبدوره قام عثمان بإثبات جدارته بالحكم، فانطلق في الغزو والفتوحات، فضمَّ لدولة السلاجقة عام (688هـ=1289م) قلعة قره حصا (القلعة السوداء)، أو أفيون قرة حصار؛ فسُرَّ علاء الدين بهذا كثيرًا، ومنحه لقب (بك)، وأقطعه جميع الأراضي التي فتحها، وسمح له بضرب العملة ورفع اسمه في خطبة الجمعة. وكان أئمة المساجد يذكرون على المنابر أولًا اسم الخليفة العبَّاسي في مصر، ثُمَّ الإلخان المُقيم في تبريز، ثم السلطان السُلجوقي في قونية، وأخيرًا اسم الأمير المحلّي عثمان.
نشأته
وُلد عُثمان يوم 8 صَفَر 656 هـ المُوافق لـ13 شُباط (فبراير) 1258م، وقيل في ليلة بدر في مدينة سُكود، التي اتخذها والده أرطغرل عاصمة لإمارته. ولا توجد الكثير من المصادر عن حياته الأولى، نظرًا لكون أقدم مصدر معروف عنها كُتب بعد حوالي مائة سنة من وفاته. حيث قال المؤرخ التركي “يلماز أوزطونه”: “يرجع غموض المراحل الأولى من تاريخ العثمانيين حتى فتح القسطنطينية بعامة إلى عدم توفر المعلومات، فقد أحرق تيمورلنك الوثائق التركية عند إغارته على بورصة سنة 1402 م (804 ه)، ولهذا فالوثائق الرسمية المتعلقة بالفترة من نشأة الدولة وحتى غارة تيمور قليلة جدًا. نشأ عُثمان نشأة فارس مسلم كما هي عادة فتيان قبائل التُرك المُرتحلة، فأتقن فنون المُصارعة والمُبارزة بالسيف منذ صغره، واحترف رُكوب الخيل والرمي بالنبال والصيد، وبرزت مهاراته أمام أقرانه، ورافق هذا الإعداد البدني إعدادٌ روحيٌ، حيث تلقى عثمان تعليمًا إسلاميًا من مشايخ الصوفية الذين تأثر بهم في زمانه، وعلى رأسهم مُعلِّمه الشيخ “إده بالي” القرماني، الذي تتلمذ على يده بتوجيه من والده.
وكان للشيخ “إده بالي” مكانة كبيرة لدى أرطغرل، وتتحدث الروايات التاريخية عن وصيته لابنه عثمان بضرورة احترام شيخه وملازمته والأخذ بنصائحه ومشورته، وهي الوصية التي بقي جزء صغير منها مكتوبًا عند قبر أرطغرل جاء فيه: “انظر يا بني! يمكنك أن تؤذيني، ولكن لا تؤذِ الشيخ “إده بالي”! فهو النور لعشيرتنا، ولا يُخطئ ميزانه قدر درهم! كن ضدي ولا تكن ضده؛ فإنك لو كنت ضدي سأحزن وأتأذى، أما لو كنت ضده فإن عينيّ لن تنظر إليك. وإن نظرتا فلن ترياك، إن كلماتي ليست من أجل الشيخ “إده بالي”، بل هي من أجلك أنت، ولتعتبر مقالتي هذه وصية لك”.
سقوط الدولة السلجوقية وبزوغ نجم الدولة العثمانية
وفي سنة 1300م تقريبًا المواِفقة لسنة 699 هـ، أغارت قطعان المغول بطريقتها الوحشية على بلاد آسيا الصغرى واحتلت مدينة قونية. أما سلطان السلاجقة علاء الدين، ففر من عاصمته ودخل بلاد الروم، وتوفي فيها في نفس العام، وقيل قُتل. وقُتل أيضًا ابنه غياث الدين في مواجهة المغول، وسقطت بعد ذلك الدولة السلجوقية؛ مما تسبب في حالة من الفوضى والهرج والمرج.
في هذه الأثناء، كان عثمان الوجهة الأنسب لجنود الدولة السلجوقية الفارين من المغول بخبراتهم العسكرية، فاحتضنهم عثمان وازداد بهم قوة. وهكذا بعد الدولة السلجوقية التي دام سلطانها لأكثر من قرنين من الزمان وانتهت على يد المغول، بدأ بزوغ الدولة العثمانية يلمع ليسد فراغها.
وكان عثمان قد أدرك مسبقًا حساسية الظرف مع توالي هجمات المغول، وأحسن قراءة المستقبل كما هي عادته، فأعلن استقلال أراضيه عن الدولة السلجوقية قبيل سقوطها، والتفت حوله الجماهير لتصبح الإمارة الواعدة في المنطقة.
ومما زاد من أهمية الإنجاز التاريخي لعثمان موقع إمارته، التي كانت بالقُرب من طريق الحرير الذي يربط المناطق الروميَّة في الغرب بالمناطق التي يُسيطر عليها المغول في الشرق، فاستفاد عثمان بشكل رائع من الخصائص الاستراتيجيَّة والاقتصاديَّة التي تميزت بها إمارته.
وبكونها منطقة محاذية للمناطق البيزنطيَّة التي لم تُفتح بعد، تحولت إمارة عثمان لقبلة للمسلمين من التُركمان الطامعين في الغزو والجهاد، والدراويش والآخرين. كما اعتُبرت ملاذًا للفلاحين الفارين من بطش المغول.
قصة زواج عثمان
يذكر أن عُثمان كان يبيتُ في تكيَّة مُعلِّمه الشيخ “إده بالي”، التي ترعرع في ظلها منذ صغره في رحلة طلبه للعلم، وكان للشيخ ابنة اسمها “مال خاتون”، بينما تذكرها روايات أخرى باسم “بالا خاتون” أو “بالا رابعة خاتون”، وما أن رآها عثمان حتى تعلق بها ورغب بالزواج منها لجمالها وصلاحها. لكن معلمه رفض هذا الزواج، وأصاب عثمان الحزن العميق لرفضه، ومع ذلك أظهر الصبر والجلد، ورفض الاقتران بغيرها حتى جاءه الفرج برؤية رآها، دفعت والدها للتراجع وقبول زواجهما مستبشرًا.
وتقول الروايات التاريخية إن عثمان قص على معلمه رؤياه حيث رأى الهلال صعد من صدر شيخه “إده بالي” وبعد أن صار بدرًا نزل في صدره (أي في صدر عُثمان)، ثُمَّ خرجت من صُلبه شجرة كالسراي نمت في الحال حتَّى غطَّت العالم بِظلِّها، واستقرَّت جبالٌ ثلاثة تحتها، وخرجت أنهارُ النيل ودجلة والفُرات والطونة (الدانوب) من جذعها، ورأى ورق هذه الشجرة كالسيوف والرماح يُحوِّلُها الريح نحو مدينة القُسطنطينيَّة. وتحت الأغصان وقف صبيانٌ نصارى شُقر وعلى رؤوسهم تُل أبيض ينشدون الشهادة يتبعها عهد الولاء للسُطان. وكان الخلق من حول هؤلاء الصبيان بلا عدد على شُطوط الأنهار وفي خلجانها، يشربون ويزرعون ويصطنعون الفساقي. وكانوا يتوالدون والخير يورف في ديارهم، دونما يكف الصبيان عن الاستظلال بغصون الشجرة والإنشاد.
فسُرّ الشيخ “إده بالي” كثيرًا بهذه الرؤية وأظهر تفاؤله الكبير بها، وقَبِل بتزويج ابنته إلى عُثمان، وبشره بأن أسرته ونسله سوف يحكمون العالم، وقال له واصفًا ما يكون عليه الحاكم الصالح: “عثمان الأول أيَ بُني! الآن أصبحت ملكًا! من الآن فصاعدًا، نحنُ نغتاظ؛ وأنت تُسعد! لنا الشَّقاء؛ وعليك الهناء! لنا الاتهام؛ وعليك الاحتمال! نحنُ العاجزون الخطَّاؤون؛ وأنت الصبور! نحنُ المتقاتلون؛ وأنتم العادلون! نحنُ الحاسدون النمَّامون المفترون؛ وأنتم المتسامحون! أيَ بُني، من الآن فصاعدًا، نحنُ نُشرذم؛ وأنت تُوحِّد! نحنُ نتكاسل؛ وأنت تُنذر وتدفع! أيَ بُني! الصَّبر الصَّبر، فالزهرة لا تتفتح قبل أوانها. إيَّاك والنسيان: ارعَ شعبك، وستزدهر دولتك! أيَ بُني! حملُك ثقيل، وشأنك عسير، وسُلطتك مُعلقة بشعرة! أعانك ربُّ العالمين!”
ويذكر أن عثمان أمهر ابنة الشيخ إده بالي قرية في منطقة “بيله جك”، حيث كان مقر التكية الخاصة بوالدها.
وقفة مع أسرته
تزوَّج عُثمان ابنة الشيخ إده بالي حوالي سنة 1280م، فولدت له.
وتضاربت الروايات بشأن اسمها، حيث ذكرت مصادر أن اسمها “مال خاتون”، وذكرت أخرى أنها “رابعة بالا خاتون”، بينما رجّح بعض المؤرخين أنه تزوج من امرأتين، إحداهما ابنة الوزير السلجوقي عمر عبد العزيز بك.
ويبدو الخلط واضحًا في المصادر التاريخية عند ذكر اسم زوجة عثمان وتاريخ زواجها ووفاتها، سواء عند ذكر اسم “مال خاتون” أو “رابعة بالا خاتون”؛ مما يجعل من الصعب الجزم بشأن زوجة عثمان هل كانت واحدة أو اثنتين.
أمَّا أولاده، فقد أنجب عُثمان ثمانية: سبعة أبناء وبنتٌ واحدة، وهم: أورخان بك، وباظارلي بك، وچوبان بك، وحميد بك، وعلاءُ الدين باشا، ومالك بك، وصاووجي بك، وفاطمة خاتون. البراعة السياسية
وأعقب محطة زواج عثمان بابنة الشيخ “إده بالي” ظهورُ عُثمان اللافت على الساحة السياسيَّة، واكتسابه لوصف زعيم الجهاد في المنطقة. واعتبرها بعض المؤرخين بالخطوة السياسية البارعة. إذ أنَّ الشيخ “إده بالي” كان قائدًا للفرقة البابائيَّة المنسوبة إلى بابا إسحٰق الذي قاد ثورة ضد سلاجقة الروم مُنذ حوالي سنة 1239م، إلى أن قُبض عليه وشُنق سنة 1241م، وكان يملك نفوذًا وتأثيرًا كبيرين في المنطقة.
لكن براعة عثمان لم تتوقف عند حسن اختياره لصهره، بل أيضًا في علاقاته مع جيرانه وتحالفاته المدروسة وتمكنه ببراعة أخرى من الدمج بين التقاليد التُركيَّة والإسلاميَّة والبيزنطيَّة وكسب قلوب الناس بحسن معاملتهم وإقامة العدل بينهم. ويذكر من هذه العلاقات، علاقة عثمان مع الآخيين، وهي من الجماعات المنظمة التي اشتهر أعضاؤها بالحرفة والتجارة ورفعوا شعار العدل ومنع الظلم واتباع الشريعة الإسلامية والأخلاق الحميدة، والتدخل عسكريًا عند الحاجة له.
ومن هذه العلاقات كانت علاقة الصداقة بين عُثمان و”كوسه ميخائيل” حاكم قرية هرمنكايا الرومي التي استفاد منها عثمان كثيرًا.
حيث تذكر الروايات التاريخية أن عثمان تلقَّى تحذيرًا من كوسه ميخائيل بأنَّ مُؤامرة سريَّة أُحيكت ضدَّه من قبل صاحبيّ قلعتيّ “بيله جك ” و”يار حصار” لقتله أو أسره، وقد وجها له دعوة إلى حفل زفاف ولديهما في القلعة الأولى. وبعد أن علم بمكرهم عثمان، أرسل أربعين فارسًا من فُرسانه إلى الحفل مُتنكرين بأزياء النساء، وفي رواية أخرى بأزياء مساكين، وما أن دخل هؤلاء “بيله جك”حتَّى أشهروا السيوف وتمكنوا من أسر كافَّة المدعوين بما فيهم العروسان، وفتحوا القلعة وسيطروا عليها.
وتشير بعض الدراسات التاريخية إلى أنَّ هذه الواقعة أُسرت فيها ابنة تكفور، وتُدعى “هولوفيرا” فاصطفاها عثمان لابنه أورخان، وأصبح اسمها “نیلوفر خاتون”، وأنجبت -أول امرأة أجنبية في سلطان عثمان- ابنًا أسموه مراد، ويقال ابن آخر أسموه سليمان.
ومن هذه العلاقات أيضًا، تحالفه مع القبائل التُركمانيَّة القادمة إلى الأناضول، فاستفاد من نشاطهم وقوتهم. حيث كان الكثير من هؤلاء التُركمان مُحاربين محترفين، يتلهفون إلى الجهاد والغزو، وبينما استفاد عُثمان من المتدينين منهم من جهة عهد، ومن جهة أخرى إلى الشُيوخ والدراويش مهمة تربية من يفتقدون التربية الإسلامية لإشباعهم بالقِيم التي تعظم من الغزو والفتوحات لزيادة رقعة دار الإسلام.
ومما صُنف عبقريةً استراتيجيةً لعثمان، تركيز فتوحاته على البيزنطيين، مما أثر بشكل مباشر في الأوساط الرومية، بذياع صيته الذي كان يوازيه انتشارُ شعبيَّتِه في الأوساط الإسلاميَّة.
وتحاشى عثمان أي صدام مع جيرانه من الإمارات المسلمة المجاورة لدولته، مثل إمارات القرمان ومنتشا وصاروخان وغيرها، رغم أنه كان يواجه تحديًا كبيرًا من هذه الإمارات المتفرقة المستبدة التي شغلتها الدنيا عن الجهاد ومقارعة الأعداء؛ ما أطمع فيهم المغول والصليبيين، وبدل أن يتحدوا مع عثمان وقفوا حجر عثرة أمام أي فرصة اتحاد، وشكلوا بذلك عبئًا ثقيلًا على حركة الفتح الإسلامي. ومع ذلك، تمكن عثمان بسياسة تفادي قتالهم من اجتذاب وتسخير جميع القوى المسلمة في حرب الروم.
براعة عثمان برزت كذلك في سياسة دولة استوحى نظامها من الدولة السُلجوقيَّة، والسعي في تحقيق أهدافه بعزيمة مبهرة ورؤية واضحة. يقول المُؤرِّخ أحمد رفيق في موسوعته «التاريخ العام الكبير»: “كَانَ عُثمَانَ مُتَدَيِّنًا لِلغَايَةِ، وَكَانَ يَعلَمُ أنَّ نَشرَ الإِسلَامِ وَتَعْمِيمِهِ وَاجِبٌ مُقَدَّسٌ، وَكَانَ مَالِكًا لِفِكْرٍ سِيَاسِيٍّ وَاسِعٍ مَتِينٍ، وَلَم يُؤَسِّس عُثمَانُ دَوْلَتَهُ حُبًّا فِي السُّلطَةِ وِإِنَّمَا حُبًّا فِي نَشْرِ الإِسلَامِ”.
ويقول المؤرخ التركي المعاصر قادر مصر أوغلو: “لَقَد كَانَ عُثمَانُ بنُ أَرطُغرُل يُؤمِنُ إيمَانًا عَمِيْقًا بِأَنَّ وَظِيفَتَهُ الوَحِيْدَة فِي الحَيَاةِ هِيَ الجِهَادُ فِي سَبِيْلِ اللهِ لِإعلَاءِ كَلِمَةِ الله، وَقَد كَانَ مُندَفِعًا بِكُلِّ حَوَاسِّهِ وِقِوَاه نَحْوَ تَحْقِيقِ هَذَا الهَدَف”.
لقد كانت أهداف عثمان سامية وسياسته بصيرة ونفسه مترفعة عن سفاسف الدنيا، فمنّ الله عليه بالنجاح والتوفيق وإقامة دولة علية.
البراعة العسكرية
سعى عُثمان بعد فتحه قلعتيّ “بيله جك” و”يار حصار” إلى القضاء على صاحب “إینهگول” الذي حالف عامل “قراجة حصار” على العُثمانيين سابقًا؛ كي يحول دون إبرام أي تحالُفٍ آخر بين بقايا الإمارات البيزنطيَّة في الأناضول. وقاد جيشه “طورغود ألب”، فحاصر قلعة إینهگول، ثُمَّ التحق عثمان به وتمكَّن من فتحها. وتقول بعض المصادر التاريخية إنَّ عُثمان منح هذه القلعة إلى طورغود ألب، ولِذلك سُميت البلدة فيما بعد “طورغود” تيمُنًا بأوَّل أميرٍ مُسلمٍ عليها.
وعاش عثمان حالة عداء قصوى مع المغول، ويعتقد أن صراعه مع المغول والكرميانيين كان أشد في أوائل عهد الإمارة. إلا أن عثمان سدد ضربات قاصمة للقوات المغولية في منطقته، فجهّز جيشًا بقيادة ابنه أورخان، وسيّره لقتال المغول قبل تحالفهم مع النصارى فأوقع بهم هزيمة كبيرة شتتت شملهم وقتلت فكرة الاتحاد مع البيزنطيين في مهدها. فأحبط بذلك مكر الروم وتخطيطاتهم.
ومن المهم الإشارة إلى أن عثمان بعد أن رتب بيته الداخلي واستتب له الأمر، ونال شرف الفتوحات المتتالية للحصون والبلدات، أرسل إلى جميع أمراء الروم بِبلاد آسيا الصُغرى يُخيِّرهم بين ثلاثة أُمور: الإسلام، أو الجزية، أو الحرب. فأسلم بعضهم وفي مُقدمتهم صديقه “كوسه ميخائيل”، والذي أصبح من خاصة عثمان، وجاءت منه ذُريَّته المشهورة في التاريخ العُثماني باسم عائلة “ميخائيل أوغلو”.
واستجاب بعض الروم بدفع الخراج والجزية والبعض الآخر بالقتال، وتبع ذلك تشكيل الأُمراء البيزنطيّين في كل من بورصة ومادانوس وأدرهنوس وكته وكستله في سنة 700هـ المُوافقة لِسنة 1301م حلفًا صليبيٍّا لِمُحاربة عُثمان والقضاء على إمارته، وحينها كان تخطيط عثمان للوصول إلى بورصة -أكثر المُدن الروميَّة تحصينًا وأهمية في الأناضول- واضحًا كهدف من أهدافه الطموحة.
وفي ربيع سنة 1302م، زحف الإمبراطور البيزنطي ميخائيل التاسع برجاله حتَّى وصل جنوب منطقة مغنيسيا وهو يعتزم الاشتباك مع العُثمانيين وطردهم من مناطق التُخوم، لكن العُثمانيين تجنّبوا القتال المباشر مع البيزنطيين وأنهكوهم بالإغارة على البلدات والمواقع البيزنطيَّة الصغيرة لينتزعوها الواحدة تلو الأُخرى حتَّى تمكنوا من تطويق الإمبراطور البيزنطي وعزلوه في مغنيسيا، فتفكك جيشه دون قتال، وانسحب أغلب الروم عائدين إلى القُسطنطينيَّة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أسلوب عثمان في القتال، حيث كان يتعمد إنهاك عدوه ومحاصرة المدن والبلدات بشكل منفرد ليسيطر عليها بعد عزلها وإضعافها، ثم بعد دخوله وضبط سيطرته يقيم فيها العدل ويحسن معاملة سكانها، مما يكسبه قبولًا وبقاء حكم.
وقد دفع حراك الإمبراطور البيزنطي القُرى والبلدات الإسلاميَّة الحُدوديَّة إلى الالتفاف أكثر حول عُثمان؛ خاصة بعد ما أظهره من قدرات قياديَّة وعسكريَّة عالية ومعاملات إسلامية وقيم راقية، فتحولوا لدعامة قوية لدولة عثمان الأولى.
كما التحق بصفوف عثمان بعضُ القادة الروم الذين اختاروا العمل معه على أن يعودوا لبلادهم، وكان قسمٌ منهم من أسرى الحُروب المعتقين، وقسم آخر من المعتنقين للإسلام الجدد ممن أعجبوا بأخلاق عثمان ومبادئه فأقبلوا على الإسلام.
جاذبية مشروع عثمان لم تقف عند هذا الحد، بل جذبت أيضًا الكثير من الجماعات الإسلاميَّة تحت لواء العُثمانيين كجماعة “غُزاة الروم” أو “غزياروم” بالتُركيَّة، وهي جماعةٌ إسلاميَّةٌ كانت تُرابط على حُدود الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة وتصد هجماتهم عن المسلمين منذُ عهد الخليفة العباسي”المهدي بالله”، وقد أكسبتها هذه المرابَطة خبرات فائقة في حرب الروم.
دون أن ننسى النواة الأولى لعثمان وهم رفاق دربه من قادة الآخية الفتيان الذين سارعوا إلى الانضمام إليه وملازمته خلال مسيرته الجهادية، ويذكر التاريخ منهم “الغازي عبد الرحمٰن”، و”آقچه خوجة”، و”قُونور ألب”، و”طورغود ألب”، و”حسن ألب”، و”صالتوق ألب”، و”آيكود ألب”، و”آق تيمور”، و”قره مُرسل”، و”قره تكين”، و”صامصا چاويش”، و”الشيخ محمود”، وغيرهم من قادة الآخية وقُدامى المحاربين الذين خاضوا المعارك تحت قيادة عُثمان، وحتى تحت قيادة والده أرطُغرُل.
وانضمَّ إلى صفوف عثمان أيضًا جماعة “حاجيَّات روم” أي “حُجَّاج أرض الروم”، وهي جماعة معنيَّة بالعلم الشرعي وتفقيه المسلمين بأمور الدين، وكان لها هدفٌ جانبيّ يتمثَّل في معاونة المجاهدين، خُصوصًا في القتال.
معركة بافيوس
بعدما فشل حراك ميخائيل، أعاد والده الإمبراطور البيزنطي أندرونيقوس الثاني حشد جيوشه لِقتال المسلمين؛ فأرسل سراياه بِقيادة “جرجس موزالون”، فعبر بهم مضيق البوسفور حتى وصل سهل بافيوس على تُخوم المدينة.
وتقابل الجمعان في السهل يوم 1 ذو الحجة 701هـ، المُوافق لـ27 تمُّوز (يوليو) 1302م. وكان العُثمانيّون قد حشدوا جيشًا بقيادة عُثمان نفسه، وسُرعان ما التحم الجيشان وانكسر الخط الأمامي البيزنطي، وانهزمت مُقدمة الجيش، فتراجع موزالون بِجُنوده وسجّل عثمان انتصارًا حاسمًا.
فقد كان لِهذه المعركة أثر بالغ في التاريخ الإسلامي عُمومًا والعُثماني خُصوصًا، إذا اعتبر الكثير من المؤرخين أن النصر العُثماني في هذا اليوم يُشكِّلُ ولادة الدولة العُثمانيَّة الفعليَّة، كونها “منحت الإمارة العُثمانيَّة خصائص وسمات الدولة المستقلَّة الفعليَّة القابلة للحياة، وأثبتت لجيرانها إثباتًا قاطعًا بأنَّ جُيوشها قادرة على الغزو وإلحاق الهزيمة بأكبر الأعداء والتصدي لهم”.
كما أتاح هذا النصر لِعُثمان أن يُسيطر بعد حين على مدينتيّ إزنيق ونيقية، بالإضافة إلى مدينة بورصة الاستراتيجية لاحقًا.
اختار عثمان مدينة “يني شهر” عاصمة لإمارته، ثم ركز تحركاته العسكرية بعد ذلك في التوسع في اتجاهين اثنين: اتجاه إلى الشمال حتى نهر سقاريه باتجاه البحر الأسود، واتجاه إلى الجنوب الغربي باتجاه بحر مرمرة، وحقق أهدافه في كلا الاتجاهين حتى سنة 1308 م، حيث نجح في عزل آخر مدينة بيزنطية استراتيجية في المنطقة، وهي بورصة التي تقع أسفل جبل أوليمبس (أولو طاغ).
وكانت بورصة محصنة تحصينًا جيدًا، وتمكن البيزنطيون من الاستمرار في فتح طرق الاتصال الخاصة بهم مع البحر لتلقي حاجياتهم من الإمدادات من القسطنطينية، ما مكّنهم من الصمود طويلًا بعد سقوط المناطق المحيطة ببورصة في أيدي العثمانيين. ولكن سيطرة عثمان على مودانيا قطعت آخر اتصال بين بورصة والعالم الخارجي سنة 1321 م الموافق لـ721 ه، واضطر المدافعون عنها لتقديم الجزية لعثمان لمدة 5 سنوات، ثم انتهت بالسقوط في نهاية 6 أبريل سنة 1326م (2 جمادى الأولى 726ه) على يد الجيش العثماني الذي قاده أورخان بن عثمان، الخليفة الحقيقي في شؤون الحرب والسياسة لأبيه، الذي كان ينتظر خبر هذا الانتصار بشغف كبير وهو على فراش المرض.
وشكّل فتح بورصة بعد صبر كبير وجلدة من العثمانيين خطوة هامة لهم، فقد تغيرت أملاكهم من إمارة ذات تخوم بدوية إلى ولاية حقيقة بعاصمة وحدود وسكان مستقرين وقدرات لتكوين جيش منظم يسمح بحمايتها وقيادة مزيد من الفتوحات، وكانت خطوة كبيرة نحو الاستقلالية والاكتفاء.
واستسلم حاكم بورصة، أفرينوس، لجيش عثمان وسط حالة من الضعف الكبير الذي نخر في القصر البيزنطي المنهار، واعتنق الإسلام بعد ذلك، بل ودخل في خدمة الجيش العثماني، فمنحه عثمان لقب (بك)، وأصبح من القادة العثمانيين البارزين، ودخل معه عدد من القواد الذين أعجبوا بالإسلام ويأسوا من دائرة الفشل البيزنطي الذي أنهكها الصراع على العرش. وقد سجل التاريخ لجوء المتصارعين على هذا العرش في بيزنطة للعثمانيين طلبًا للمساعدة؛ ما أكسب دولة عثمان مكانة ثقيلة في المنطقة.
عوامل مساعدة وتأثير المماليك
ولا شك أن عوامل أخرى في خارطة العالم الإسلامي ساعدت عثمان على بسط سلطانه وتجاوز تحديات كبرى كتحدي المغول، فقد كان المسلمون في عصر المماليك يقودون معارك ضارية ضد المغول ويواصلون قتالهم منذ معركة عين جالوت الفاصلة بقيادة السلطان سيف الدين قطز والظاهر بيبرس. ومن المعارك التاريخية التي تسببت في انهيار إمبراطورية المغول، معركة مرج الصفر (شقحب) التي وقعت فصولها في 2 رمضان 702هـ الموافق لـ20 نيسان (إبريل) 1303م بالقرب من دمشق في الشام. وكانت المعركة بين المماليك بقيادة الناصر محمد بن قلاوون سلطان مصر والشام، والمغول بقيادة قتلغ شاه نويان (قطلوشاه) نائب وقائد محمود غازان إلخان مغول فارس. وانتهت المعركة بانتصار المسلمين، لتنتهي معها طموحات محمود غازان في السيطرة على الشام والتوسع في العالم الإسلامي. وشهدت المرحلة بعدها ضعفًا كبيرًا للقوَّة الميدانيَّة للمغول. وملك عثمان بدوره الأرض، ووزع المناطق على أقاربه وقادة جيشه، فأعطى إسكي شهر لِأخيه “گندز بك”، وقراجة حصار لابنه “أورخان”، ويار حصار لحسن ألب، وإینهگول لِطورغود ألب.
واستتب الأمر في يد عثمان بشكل كامل بعد نزوح قسم كبير من الروم عن ثغور آسيا الصُغرى إلى القُسطنطينيَّة وما تبقى لهم من بلاد في أوروبا، بعد أن حسم أمرهم عثمان بتخييرهم بين البقاء والعيش في ظل دولته أو الالتحاق بإخوانهم.
وبقي قسم آخر شكّل شريحة كبيرة من رعايا الروم القاطنين في ظل الدولة العثمانية.
وأمام هذا المشهد من الضعف والهزيمة، لجأ الإمبراطور البيزنطي أندرونيقوس الثاني إلى التحالف مع المغول الذين كانوا يُسيطرون آنذاك على وسط وشرقيّ الأناضول، فأرسل إلى الإلخان محمود غازان يعرض عليه التقارب الأُسري بالزواج، وقيام تحالف بين الدولتين الإلخانيَّة والبيزنطيَّة. لكن كما أسلفنا حرمت هزيمة غازان في شقحب المغول من طموحاتهم التوسعية. وتتحدث الروايات التاريخية عن مدى تأثير هزيمته في شقحب وحجم الهم والغم الذي وقع على قلبه، حتى مرض وسال الدم من أنفه، وأفرغ غضبه على قادة جيوشه فأعدم بعضهم وأذلّ البعض الآخر. ولم يعش بعد ذلك طويلًا، فتوفي يوم 6 شوَّال 703هـ الموافق لـ11 أيَّار (مايو) 1304م، ومات غازان ومات معه أي أمل في تحالُف مغوليّ بيزنطيّ، لكنه فتح الباب واسعًا لطموحات عثمان.
وفاة عثمان في قلب مشهد النصر
وواصل جنود عثمان زحفهم حتى فتحوا مدينة بورصة بعد حصار طويل، ثم شرع ابنه أورخان في تنظيم أحكامها وتحصين قلاعها، ليتوجه بعد ذلك بالبشرى لوالده الذي كان طريح الفراش. ولما دخل على والده وشاهده ينازع الموت، اغرورقت عيناه بالدموع وخاطبه بقول: “يا أعظم سلاطين البر والبحر كم قهرت أبطالًا وافتتحت بلدانًا، ما لي أراك في هذه الحالة؟!” فأجاب عثمان: “لا تجزع يا بني هذا مصير الأولين والآخرين، وأنني الآن أموت فرحًا مسرورًا لكونك تخلفني وتقوم مقامي بإدارة هذا الملك السامي”، ثم فاضت روحه بعد صراع مرير مع داء المفاصل أو النقرس إلى جانب الصرع الذي أُصيب به في سنواته الأخيرة. وكان النقرس مرضًا وراثيًّا في الأُسرة العُثمانيَّة، وعانى منه الكثير من سلاطينها.
ولم يفت عثمان تنظيم أمور دولته من بعده، حيث أوصى بالملك لأورخان، ابنه الثاني، لامتلاكه مقومات الإمارة الفذّة، على عكس أخيه الأكبر علاء الدين الذي كان يميل أكثر للورع الديني والعزلة.
واختلف المؤرخون في تحديد موعد وفاة عُثمان، فقيل إنه توفي يوم 21 رمضان 726هـ المُوافق لـ21 آب (أغسطس) 1326م، ولهُ من العُمر نحو سبعين سنة. وقال المؤرخ العُثماني روحي چلبي الذي عاش خلال القرن الخامس عشر الميلاديّ ودوَّن تاريخ الدولة العثمانية حتى سنة 1481م في كتابه حامل عنوان “تواريخ آل عُثمان” أنَّ وفاة عُثمان الغازي كانت سنة 1320م، وتعددت الروايات التي اختلفت في تحديد موعد وفاته، إلا أن المؤكد أن وفاته كانت بعد فتح مدينة بورصة، وبعد وفاة الشيخ إده بالي بِثلاثة أو أربعة أشهر، وبعد وفاة زوجته ابنة شيخه بِشهرين. ودُفن عثمان في سُكود بدايةً، ثُم أمر ابنه أورخان بِنقل جُثمانه إلى بورصة، العاصمة الجديدة لمملكته. وذلك تنفيذًا لوصيَّة عُثمان التي كتبها قبل مماته، حيث قال فيها:”يَا بُنَيَّ، عِندَمَا أَمُوتُ ضَعْنِي تَحْتَ تِلكَ القِبَّةِ الفِضِّيَةِ فِي بُورُصَة”.
ولكن في عهد السلطان عبد العزيز، أعيد بناء قبر عثمان بعد أن تهدَّم القبرُ الأوَّل تمامًا في زلزالٍ شديدٍ ضرب المنطقة سنة 1855م، ثم أمر السُلطان عبدُ الحميد الثاني ببناء مقام له في سُكود حيثُ دُفن عُثمان للمرَّة الأولى.
وصيَّته
بحسب المصادر التاريخية التركية فقد ترك عثمان وصيَّةً مكتوبة لِولده أورخان يوصيه فيها بإكمال مسيرة الغزو والجهاد ضدَّ الروم، والتزام تعاليم الشريعة الإسلاميَّة وملازمة العُلماء والعدل مع الرعيَّة والإخلاص للإسلام ورسالته. وتضمنت الوصية بعض النصائح إلى جميع أبنائه وإلى رفاق دربه. ويبرز نص الوصيَّة معالم تفكير عثمان ومنهجه وأسرار نجاحه حيث قال: بسم الله الرحمن الرحيم يا بُنيّ: إيَّاك أن تشتغل بِشيءٍ لم يأمر به الله ربُّ العالمين، وإذا واجهتك في الحُكم مُعضلة فاتخذ من مشورة عُلماء الدين موئلًا. يا بُنيّ: أحِط من أطاعك بِالإعزاز، وأنعم على الجُنود، ولا يغُرنَّك الشيطان بِجُندك وبِمالك، وإيَّاك أن تبتعد عن أهل الشريعة. يا بُنيّ: إنَّك تعلمُ أنَّ غايتنا هي إرضاءُ الله ربِّ العالمين، وأنَّ بِالجهاد يعِمُّ نور ديننا كُلَّ الآفاق، فتحدُث مرضاة الله جل جلاله. يا بُنيّ: لسنا من هؤلاء الذين يُقيمون الحُروب لِشهوة حُكمٍ أو سيطرة أفرادٍ، فنحنُ بالإسلام نحيا ولِلإسلام نموت، وهذا يا ولدي ما أنت لهُ أهل.
اعلم يا بُنيّ أنَّ نشر الإسلام وهداية النَّاس إليه وحماية أعراض المسلمين وأموالهم أمانةٌ في عُنقك سيسألك الله عز وجل عنها.
يا بُنيّ: إنني أنتقلُ إلى جوار ربي، وأنا فخورٌ بك بأنَّك ستكون عادلًا في الرعيَّة، مُجاهدًا في سبيل الله لِنشر دين الإسلام. يا بُنيّ: أوصيك بِعُلماء الأُمَّة، أدِم رعايتهم، وأكثِر من تبجيلهم، وانزل على مشورتهم؛ فإنهم لا يأمُرون إلَّا بخير. يا بُنيّ: إيَّاك أن تفعل أمرًا لا يُرضِي الله عز وجل، وإذا صعُب عليك أمرٌ فاسأل عُلماء الشريعة، فإنهم سيدلُّونك على الخير. واعلم يا بُنيَّ أنَّ طريقنا الوحيد في هذه الدُنيا هو طريقُ الله، وأنَّ مقصدنا الوحيد هو نشر دين الله، وأننا لسنا طُلَّاب جاهٍ ولا دُنيا. وصيَّتي لِأبنائي وأصدقائي، أديموا عُلوَّ الدين الإسلامي الجليل بِإدامة الجهاد في سبيل الله. أمسِكوا راية الإسلام الشريفة في الأعلى بِأكمل جهاد. اخدموا الإسلام دائمًا؛ لِأنَّ الله عز وجل قد وظَّف عبدًا ضعيفًا مثلي لِفتح البُلدان. اذهبوا بِكلمة التوحيد إلى أقصى البُلدان بِجهادكم في سبيل الله، ومن انحرف من سُلالتي عن الحق والعدل حُرم من شفاعة الرسول الأعظم يوم الحشر. يا بُنيّ: ليس في الدُنيا أحدٌ لا يُخضِع رقبته للموت، وقد اقترب أجلي بِأمر الله جل جلاله، أُسلمُك هذه الدولة وأستودعك المولى عز وجل. اعدل في جميع شؤونك…”.
وهكذا أنارت هذه الوصية طريق ورثة عثمان لنيل السؤدد والملك. ومع ذلك، لم يترك عثمان شيئًا مما يترك ملوك الدنيا لورثته رغم حجم دولته وحجم فتوحاته وانتصاراته، سوى سيفه الخاص الذي اشتهر باسم “سيف عُثمان” فورثه عنه ابنه أورخان، ثُمَّ حفيده مُراد، ليتوراثه السلاطين العثمانيون من بعده كتقليد في حفل تتويج السلاطين ومُبايعتهم بالخِلافة في حفل كبير يقام عادة في جامع أبي أيُّوب الأنصاري بالآستانة على يد شيخ الإسلام في ذلك الزمان، أو شريف قونية.
وحصل عثمان على هذا السيف من شيخه “إده بالي” لِيكون “سيف الإسلام المسلول على الكُفَّار”.
عثمان الذي وصفه المؤرخون بالرجل طويل القامة، وأبيض البشرة، وكستنائي الحاجبين. بينما وصفه آخرون بأسمر البشرة، وعاقد الحاجبين، ومُستدير الوجه، وعريض المنكبين، وتصل يداه إلى رُكبتيه عند وُقوفه. عاش حياةً بسيطةً زاهدة بعيدةً عن البذخ واللهو والسفاهة. يأكل من عائد إنتاج أغنامه الخاصَّة، يقول قُطب الدين النهروالي عنه: “…مَا خَلَّف نَقدًا وَلَا مَتَاعًا إلَّا دِرعًا وَسَيفًا يُقَاتِلُ بِهمَا الأَعدَاءَ الكُفَّار، وَبَعضُ خَيلٍ وَقَطِيعًا مِنَ الغَنَمِ اتَخَذَهَا لِلضَيفَانِ، وَأَنسَالُهَا بِاقِيَةٌ إلى الآنِ تَرعَى حَولَ بِلَادِ بُورصَة أَبقُوهَا تَيَمُنًا وَتَبرُّكًا”.
مناقبه
كانت سياسة عثمان المالية مبهرة، فسمح له زهده بتقديم أفضل إدارة مالية سواء في الحرب أو في السلم، في الغزوات أو في التمكين، وكان يعتبر الأموال والغنائم من حق الناس أجمعين وليست حكرًا على الأُمراء. ويذكر أنه في زيارة له مع قادة جيشه إلى سوق مدينةٍ فتحوها لم يستطع تقبُّل فكرة أنَّ الضريبة من حق البكوات وحدهم، فرفض الحُصول عليها على الرُغم من أنها كانت تُمثلُ مدخولًا كبيرًا لدولته، ورأى بدلًا من ذلك أن توزع على الناس بالحق أو لا يؤخذ منها البتة. وكانت هذه الصفة انعكاس شخصيته التي تربت على التعاليم الإسلامية والعادات والتقاليد البدوية التي تجعل من الإيثار والجود والكرم صفة الفارس من فرسانها. وهذا يدفعنا لذكر قصة يوم النهب في السادس من شهر أيار (مايو) من كل عام، وفيه يفتح زعيم القبيلة بيته للناس، يأخذون منه ما يشاءون دون أن يخرج منه شيئًا لنفسه، وسمي هذا اليوم “فتح بيت السيد” أو “نهب بيت السيد”، وكان عثمان يحرص على هذا التقليد طيلة حياته.
ولم يورث عثمان ورثته ذهبًا ولا فضةً، بل أورثهم سيفًا ومجدًا. وقد وصفه المُؤرِّخ قُطب الدين النهروالي قائلًا: «وَكَانَ لِلسَّيفِ والضَّيفِ كَثِيرُ الإِطعَام فَاتِكُ الحُسَام، كَثِيرُ البَذلِ وَاسِعُ العَطَاء، شُجاعًا مِقدَامًا عَلَى الأَعدَاءِ».
زهدُ عُثمان في حياته ظهر على ملبسه، فلم يكن يرتدي إلا الملابس البسيطة. وكان كثير الصدقة على الفقراء والمساكين، وذكر أنه تصدق بكل ما يقع في يده حتى بملابسه التي وهبها للفقراء.
وفتح عثمان بيته ليضيّف فيه الجميع دون تمييز بين غني وفقير، أو بين مسلم ونصراني، فاستقطب بذلك الكثير من الروم الذين اعتنقوا الإسلام على يديه، وتآلفت القلوب من حوله.
وساعدته سياسة حسن المعاملة مع غير المسلمين تحت ظل سلطانه في كسب تأييد الأهالي النصارى، وحتى جنود الحاميات الذين لم يقفوا ضده، فقد تولَّى عثمان رعاية الأرامل والأيتام الروم ومنحهم العطايا وغنائم غزواته، كما كان يفعل مع أبناء قبيلته، وأظهر رفقًا بِكبار السن خُصوصًا، وكان إذا وعد أوفى. فعندما اشترط أمير قلعة “أولوباد” البيزنطية حين استسلم للجيش العثماني ألا يمر من فوق الجسر أي عثماني مسلم إلى داخل القلعة التزم بذلك عثمان، هو ومن جاء بعده.
فكانت سياساته بعيدة النظر، سببًا في إسلام عدد كبير من النصارى.
ولا شك أن تدين عثمان والتزامه بالشريعة الإسلامية كان عنوان مسيرته، ويظهر ذلك في طريقة تعامله مع الدولة السلجوقية، فقد كان عثمان يرسل خُمس غنائم الغزوات والمعارك إلى السُلطان السُلجوقي ويُقسِّم الباقي على جُنُوده المحاربين؛ فكسب محبة جنوده وبالمقابل استياء السلطان. وحين راجعه في ذلك، ردَّ عليه عُثمان بِأنَّهُ يُنفِّذ أمر الله لا أمر السُلطان، لأن هذا حُكم شريعة الإسلام، فكان أمر السُلطان بِأن يفعل ما يشاء ولا يتجاوز أوامر الله.
وتُنسب لعثمان أبيات شعر تصور جمال همته يقول في ترجمتها:
“ابنِ مدينةً وسوقًا جديدةً بِموادَّ بناءٍ من القلب * اعمل ما تُريد ولكن لا تظلم فلَّاحًا
انظر إلى المدينة القديمة الجديدة إینهگول فهي قائمةٌ دائمًا * اهدم بُورصة التي كسرتُ فيها الكُفَّار وابنها من جديد
اغدُ ذئبًا واقصد قطيعًا، وكُن أسدًا ولا تتقهقر * افعل شيئًا وكُن جُنديًّا، وحاصر مضيق اللسان
لا تستخف بِمدينة إزنيق، ولا تتدفَّق كنهر صقارية * خُذ إزنيق، ولا تُبالِ، وابنِ سُورًا لِكُلِّ بُرجٍ فيها
أنت عُثمان بن أرطُغرُل من سُلالة الغُز وقره خان * أكمل حقَّك، وافتح إسلامبول، واجعلها حديقة ورد.
الخلاصة
أن إنجاز عثمان الباهر خضع لجملة من القواعد التي استوعبت متطلبات مشروع استراتيجي تضافرت فيه جهود قوى المجاهدين الغزاة والآخيين والدراويش، وطوائف الطرق وشتى التنظيمات والمؤسسات العلمية والاجتماعية التي احتضنها نسيج المجتمع الإسلامي في آسيا الصغرى. وساعده في ذلك امتلاك مقومات القيادة من أمانة وقوة، تدفعه الروح الإيمانية والخلقية والجهادية، ثم عوامل جانبية كالموقع الجغرافي وتكامل وترابط مكونات خريطة العالم الإسلامي.
وهكذا سقطت دولة بني العباس، وقامت محلها دولة بني عثمان، فكان قدر هذه الأمة أن تتحول المحنة الكبرى لمنحة كبرى، وإن أبلغ درس نخرج به من قصة هذا البطل المسلم، هو أن السبب الأول لنجاحه وتمكنه من إقامة دولة إسلامية عظمى هو إيمانه وصدقه وصبره وإخلاصه لأهدافه، التي كانت أهداف أمة لا أهداف رجل واحد.
وإن حاول أحدهم بخس هذا النجاح وتقزيم هذه البطولة فيكفي عثمان شرفًا أن أقام فريضة الجهاد وأعاد أمجاد الفتوحات معتزًا بإسلامه رافضًا أن يعيش عبدًا عند الصليبيين والمغول، ولا يمكن لمن كان ينادي بالشهادة في سبيل الله ويدعو لنصرة المسلمين وعزتهم عن طريق القتال ومراغمة الأعداء -زاهدًا في الدنيا وغنائمها مقيمًا للعدل وأحكام الشريعة- إلا أن يكون صاحب حق ودعوة صادقة، فلم يضيّع اجتهادهَ مولاه وأناله توفيقه.
رحم الله الغازي عثمان بن أرطغرل، وجعل من سيرته وقود مسيرة ونفحة انبعاث لأمة سئمت الهزيمة.
المصادر