مجلس التَّعليم العالي الفلسطيني: النشأة والتشكيل والصلاحيات
الكاتب: د. خالد التلاحمة
إنَّ الحرص على التَّعليم بشكل عام، والتَّعليم العالي بشكل خاص، امتداد طبيعي لشغف الفلسطينيين واهتمامهم بتحصيل العلوم المختلفة؛ فالتَّعليم بأنواعه مكونّ مركزي من مكونات ترسيخ الهوية الفلسطينية، ومع تطور سُبل جَني ثمار المعرفة "داخل فلسطين"، شَرعت بعض المؤسسات التعليمية في سبعينيَّات القرن الماضي بإقرار بعض البرامج الإكاديمية التي تتيح للفلسطينيين إكمال دراستهم الجامعية الأولى داخل فلسطين، ليسهم ذلك في الحد من هجرة الشباب إلى الخارج، والعمل على النهّوض بالتَّعليم العالي وتنميته وتطويره، ومن أجل ذلكَ تأسَّس مجلس التَّعليم العالي الفلسطينيي في القدس عام 1977م، كجهة مركزية أُنيطَ بها التَّخطيط والتَّطوير والإشراف على مؤسَّسات التَّعليم العالي والتَّنسيق فيما بينها، وقد ضمَّ في عضويته جميع الجامعات القائمة آنذاك، وشارك في تأسيسه عددٌ من أبرز الشَّخصيَّات الأكاديميَّة والوطنيَّة المشهود لها بالكفاءة مثل الراحلين الدكتور جابي برامكي الذي انتُخِب أوَّل رئيسٍ للمجلس في العام 1977م، والدكتور حيدر عبد الشافي، والمهندس حسن القيق، والمهندس إبراهيم الدقّاق، وبعد قدوم السُّلطة الوطنيَّة الفلسطينيَّة في العام 1994م، استمرَّ المجلسُ في عمله كالمعتاد وفق تنسيقٍ مُخطَّطٍ مع وزارة التَّربية والتَّعليم العالي التي تمَّ إنشاؤها في ذلك العام، حسب ما نصَّت عليه قراراتُ رئيس السُّلطة الوطنيَّة الفلسطينيَّة (
و (13) و(18) لسنة 1994 بشأنِ تشكيلِ مجلسِ التَّعليم العالي الفلسطيني، الذي تكوَّن من كُلٍّ من وزيرِ التَّربية والتَّعليم العالي رئيساً للمجلس، ووكيلِ وزارة التَّربية والتَّعليم العالي نائباً لرئيسِ المجلس، ومُستشار وزارة التَّربية والتَّعليم العالي عضواً، وأعضاء يُمثِّلون رؤساء الجامعات جميعها مضافًا إليهم خمسة أعضاء من الحقل الأكاديمي والتَّربوي، كان من بينهم الأكاديمي والمفكر الفلسطيني المعروف الراحل الأستاذ الدكتور إبراهيم أبو لغد، مؤسس معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية في جامعة بيرزيت.
وفي العام 1996 أُنشِئت وزارة التَّعليم العالي والبحث العلمي، واستمرَّ مجلسُ التَّعليم العالي بمواصلة مهامه، إلى أنْ صدر القانون رقم (11) لسنة 1998م بشأنِ التَّعليم العالي، والذي خلا من أيَّة نُصوصٍ تًشير إلى وجود مجلس التَّعليم العالي وتكوينه وصلاحيَّاته، وهو ما أثَّر على فاعليَّة المجلس وحضوره المعهود لسنوات طويلة استمرَّت حتَّى صدر القرار بقانون رقم (6) لسنة 2018م بشأن التَّعليم العالي، والذي ألغى صراحة بموجب أحكام المادة (45/1) منه القانونَ رقم (11) لسنة 1998م، ونصَّ في المادة (6) منه على تشكيلٍ جديدٍ لمجلس التَّعليم العالي، وفي المادة (7) منه وضَّح صلاحيَّات المجلس، ويأتي في مُقدمتها اقتراح مشاريع قوانين التَّعليم العالي وتعديلها على ضوءِ تطوُّرِ السِّياسات العامَّة في الدولة، واقتراحِ الأنظمة، وتنسيبها لمجلس الوزراء لإصدارها.
ليس خافياً على كلِّ من يُشاركني قراءةَ مسيرة مجلس التَّعليم العالي التَّاريخية، المواقف الإيجابية لهذا المجلس في النُّهوض بالتَّعليم العالي الفلسطيني، والمحافظة على جودته، وفقاً للمعايير العالمية، ولكنَّ الناظر إلى حال مجلس التَّعليم العالي اليوم يجد نفسه مدعوًا إلى عملَ مُراجعة موضوعيَّة لمسيرته مُنذ نشأته في سبعينيَّات القرن الماضي وإِلى الآن، وتقييم مرجعيَّته التَّشريعيَّة من تعليماتٍ وأنظمةٍ وقوانين، لإحداث تغييرٍ إيجابيٍّ فيها تُسهم في تفعيل حضوره في أداء دوره المكفول في الأنظمة واللَّوائح المرعيَّة.
وأودُّ في هذا السِّياق أنْ أسترعي الإنتباه إلى مسألتين مهمّتين:
أولاهما: تتعلَّقُ بآلياتِ تشكيل مجلس التَّعليم العالي الحالي وضرورة وجود معايير تُراعي اختلاف التَّعامل بين الجامعات العامَّة التي تأسَّست في ظِلِّ الاحتلال، وبين الجامعات الخاصَّة والحكوميَّة التي تأسَّست بعد قُدومِ السُّلطة الفلسطينيَّة، فقد نصَّت المادَّةُ (6/3/أ) من القرار بقانون رقم (6) لسنة 2018م بشأنِ التَّعليم العالي على أنَّه:" يُشكَّلُ المجلسُ برئاسة الوزير وعُضويَّة كُلٍّ من: أ. ستَّة أعضاء من رؤساء الجامعات، يتمُّ اختيارهم من مجلس رؤساء الجامعات بالتَّناوب، على أنْ يكونَ من بينهم أحد رؤساء الجامعات الحكوميَّة...ح. ثلاثة أعضاء ذوي مكانة أكاديميَّة مرموقة، يتمُّ اختيارهم من قبل الوزير...".
ولأنَّ طبيعة المقال لا تتَّسعُ لذكر نصِّ المادَّة (6) بكافة فقراتها وبنودها، فإنني سأُشير إلى مضمونها في سياق التَّعليق تفادياً للتِّكرار، وذلك على النَّحو الآتي:
هناك فارقٌ زمنيٌّ كبير بين تاريخ سريان قرار الرئيس رقم (64) لسنة 2019م بشأن تشكيل مجلس التَّعليم العالي في 29/7/2019م، وبين تاريخ سريان القرار بقانون رقم (6) لسنة 2018م بشأن التَّعليم العالي الذي أصبح نافذًا بعد 30 يوماً من تاريخ نشره في العدد رقم (142) من الوقائع الفلسطينية بتاريخ 22/4/2018م، والتَّساؤل الذي يطفو للسَّطح هنا: ما هو السَّبب وراء تأخير تشكيل مجلس التَّعليم العالي أكثر من سنة وثلاثة أشهر؟ وهل هناك من تقييم للآثارِ التي ترتَّبت على عدمِ انعقاده طوال هذه المُدَّة؟ لاسيما وأَّن الصَّلاحيات المُهمَّة المُوكلة لهذا المجلس بموجب المادة (7) من القرار بقانون رقم (6) لسنة 2018م، لا يُمكنُ أن تقومَ بها أيّ جهة غير المجلس ذاته.
يُلاحظُ أنَّ عدد أعضاء مجلس التَّعليم العالي الحالي ارتفع إلى 24 عضواً، وهو أكثر من ضِعف العدد الذي كانَ عند تأسيس المجلس في العام 1977م، ويُقاربُ ضعف المجلس الذي شُكِّل في العام 1994م، كما أنَّه بمُقارنته مع ما هو معمولٌ به في عدد من الدُّول العربيَّة، يُمثِّل هذا العدد أيضاً أكثر من ضعف عدد أعضاء مجلس التَّعليم العالي في الأردن البالغ عددهم (9) أعضاء، وفق ما نصت عليه المادة (5/أ) من قانون التعليم العالي والبحث العلمي رقم (17) لسنة 2018م، وضعف عدد أعضاء مجلس التَّعليم العالي في البحرين البالغ عددهم (12) عضواً حسب المرسوم الملكي الصادر سنة 2016م، وما ورد في نصِّ المادة (4) من القانون رقم (3) لسنة 2005 بشأن التَّعليم العالي، وبالتَّالي فإنَّ الزِّيادة في عدد أعضاء المجلس كبيرةٌ جدًا، ومن المفضّل أنْ تكون بشكلٍ تدريجي، وأن لا تتجاوز15 عضواً في كلِّ الأحوال؛ لضمان سهولة عقد الاجتماعات واتِّخاذ القرارات في الوقت المناسب.
اقتصرَ تمثيلُ الجامعات في عضوية المجلس على ستَّة أعضاء من رؤساء الجامعات، والتَّساؤلُ الذي يبْرُزُ هنا: لماذا تمَّ حصر المُشاركة في عضويَّة المجلس على ستِّة جامعاتٍ فقط؟ وبعمليَّةٍ حسابيَّةٍ بسيطة، نرى أنَّ الجامعات لها خمسة أصواتٍ فقط من أصل (24) صوتًا باستثناء صوت الجامعات الحكوميَّة، ووزارة التَّعليم العالي لها خمسة أصوات: (الوزير، وكيل الوزارة، الوكيل المساعد لشؤون التَّعليم العالي، الجامعات الحكوميَّة وصوت الكُلِّيَّات الجامعيَّة وكُلِّيَّات المُجتمع)، من هُنا برزت الدعوة لإجراء تعديلات على تشكيل المجلس، أهمُّها:
ضرورة استثناء الجامعات العريقة ذات التَّصنيف المُتقدِّم في أبرز التصنيفات العالمية، والحضور اللَّافت على المستوى الدَّولي كجامعة بيرزيت من قاعدة التَّناوب في عضويَّة المجلس بحيث تكون عضويتها مستمرة فيه، لما لها من مكانةٍ وخبراتٍ معرفيٍّة مُتراكمة يحتاج إليها المجلس.
تخفيض ممثلي الوزارة، في ظِلِّ وجود الوزير الذي يستعين بهم بالتأكيد.
إعادة النظر في عضويَّة وكيل وزارة الماليَّة، لاسيما وأنَّ وزارة المالية مطلوبٌ منها تنفيذ قرارات مجلس الوزراء بناءً على تنسيب مجلس التَّعليم العالي، وإِذا دعتِ الضَّرورةُ حضورَه، يمكنُ دعوتُه في الاجتماعات التي تتطلَّب ذلك، خاصَّة وأنَّ الفقرة السَّادسة من المادَّة (6) مَحلَّ النِّقاش تُجيزُ للمجلس الحقَّ في دعوة من يراه مُناسبا لحضور جوانب متعدِّدة من اجتماعات المجلس للاستئناس برأيهم في الموضوعات المُدرجة على جدول أعماله، دون أنْ يكون لهم حقُّ التَّصويت.
تخفيض تمثيل المُجتمع المدني والقطاع الخاص بعضوين بدلاً من أربعة، عضوٌ واحدٌ للمجتمع المدني وآخرُ للقطاع الخاص.
تخفيض عدد الأعضاء من ذوي المكانة الأكاديمية الذين يختارهم الوزير إلى عضوٍ واحد بدلاً من ثلاثة، لا سيما في ظلِّ وجود عضوين آخرين من ذوي المكانة الأكاديمية أحدهما من الشتات، والآخر من الداخل الفلسطيني يتمُّ تنسيبهما من مجلس رؤساء الجامعات.
أمّأ المسألة الثَّانية، فتتعلَّقُ بصلاحيَّات مجلس التَّعليم العالي، فقد جاء في المادَّة (7) من القرار بقانون رقم (6) لسنة 2018م بشأن التَّعليم العالي ما نصُّه:" يُمارسُ المجلسُ الصَّلاحيات الآتية:1. إقرار السياسة العامَّة للتَّعليم العالي والبحث العلمي في فلسطين، وتطويرها 2. إصدار معايير حَوْكمة المُؤسَّسة.... 12. اقتراح الأنظمة، وتنسيبها لمجلس الوزراء لإصدارها".
واضحٌ من هذا النَّصِّ مدى أهميَّة دور مجلس التَّعليم العالي في رسم السِّياسة العامَّة للتَّعليم العالي، وفي إصدار معايير حَوْكمة مؤسسات التَّعليم العالي، واقتراح مشاريع الأنظمة، وتنسيبها لمجلس الوزراء لإصدارها. كما أنَّ هناك مسؤوليَّة على رئيس المجلس (وزير التَّعليم العالي) بالدَّعوة إلى عقدِ اجتماعاتِ المجلس العاديَّة وغير العاديَّة سنداً للمادَّتين (
و(9) من القرار بقانون رقم (6) لسنة 2018م بشأن التَّعليم العالي، لتفعيلَ دوره في ممارسته لصلاحيَّاته التي كفلها القرار بقانون رقم (6) لسنة 2018م في المادة (7) منه، وفي مقدمتها عمل التَّوازن المنشود ما بين اتاحة الفُرصة للطَّلبة للتعليم الجامعي وإكمال دراساتهم العليا من جهةٍ، والمُحافظة على مخرجات التَّعليم العالي المرجوة من جهةٍ أُخرى.
* أستاذ القانون الخاص- جامعة بيرزيت