عدوى الفوضى الخلاقة تهزّ عرش الديموقراطية الأمريكية.. الاربعاء المظلم ونهاية مذلة لرئيس سخر ولايته لفرض قطار التطبيع واذلال العرب.. بعد الصدمة.. بايدن يتسلم بلدا مقسما ومستقبل الجمهوريين على المحك
كثيرة هي نقاط الاستفهام التي افرزها المشهد الانتخابي في الولايات المتحدة احد اقدم الديموقراطيات في العالم بعد غزوة الكونغرس اوواقعة الكونغرس التي وصفها البعض بأنها كانت اخطرعلى امريكا من هجمات 11 سبتمبر، ولكن يبقى السؤال الاكثر الحاحا بعد الانسحاب المهين والسقوط المدوي للرئيس الامريكي دونالد ترامب وفشل كل محاولاته لقلب نتائج انتخابات 2020 كيف سيكون المشهد في ظل ادارة خلفه الديموقراطي بايدن الذي يتسلم بلدا مقسما مفككا مفتوحا على كل السيناريوهات؟ لا خلاف ان ترامب سيبقى في سجلات المؤرخين عنوان الشعبوية الرسمية والتطرف والعصرية ولكن وهذا الاهم ستظل اهم واكبر انجازاته لصالح الحليف الاسرائيلي وسيحسب له انه لم يدخر جهدا طوال سنوات حكمه الاربع في دعم وتعزيز مكانة ناتنياهو واستغلال ضعف وهشاشة وانهيار المشهد العربي لإهانة دول عربية وفرض مكانة لإسرائيل بينها لتزداد قوة ونفوذا وتتحول الى شريك استراتيجي بدعوى تطويق الخطر الايراني وسيعلن وقبل اسابيع من هزيمته الانتخابية انطلاق قطار التطبيع المجاني ويدفع الى ذلك كل من الامارات والبحرين والمغرب وسوف لن ينسحب ترامب من المشهد قبل ان يلتحق السودان بركب التطبيع المجاني.. والمثير انه في الوقت الذي كان العالم يتابع احداث الاربعاء الدامي وانتهاك الكونغرس الامريكي من انصار ترامب كان السودان يعلن اتفاق التطبيع برعاية وزير الخارجية الامريكي بومبيو..
طبعا لا احد يتوقع ان تتراجع الادارة الجديدة بقيادة جو بادين عن اتفاقات سلفه ولكن الاكيد ان ما حققه ترامب لإسرائيل يتجاوز كل ما تحقق لهذا الكيان منذ نشأته..
حتى هذه اللحظة لا احد بإمكانه ان يتنبأ بما يمكن ان يقدم عليه ترامب قبل انتهاء ولايته وتسليم السلطة لمنافسه جو بايدن ولا احد يمكن ان يضمن عدم انسياق ترامب الى شن حرب جديدة قد تكون ضد ايران او حليفتها سوريا او حزب الله يورط فيها سلفه في الايام المتبقية له في البيت الابيض..
اصوات كثيرة ارتفعت داخل الكونغرس تطالب بتفعيل الفصل 25 من الدستور وإقالة ترامب تجنبا للأسوأ وهو مطلب يظل قائما في انتظار ما يمكن ان تؤول اليه الاحداث اذ وبرغم اقرار ترامب بنهاية ولايته فانه يرفض الاقرار بهزيمته الانتخابية..
مشهد سريالي
مشهد سريالي ما كان للباحث الامريكي صموئيل هنتغتون ان يتوقعه وهو يحدد صراع الحضارات القادم وإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد لمؤلفه العالم السياسي الأمريكي صامويل هنتنغتون حول صراع الحضارات الكبرى المُشاركة في الحرب الباردة، كرد ّ مباشر لما قدمه تلميذه فرانسيس فوكوياما من أطروحة تحت عنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”…
مشهد لم يتوقعه امهر الخبراء والمتتبعون لتطورات الاحداث في امريكا. وسيظل موعد 6 جانفي 2021 محفورا لا في ذاكرة الامريكيين فحسب ولكن ايضا في ذاكرة العالم وهو يستفيق على وقع احداث اقتحام الكونغرس التي وصفها البعض بغزوة الكونغرس لتدشن امريكا العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين على وقع “يوم مظلم” على حد تعبير مايك بنس نائب الرئيس الامريكي دونالد ترامب الذي لم يصر على رفض نتائج الانتخابات الامريكية فحسب ولكنه اصر وهنا مكمن الخطر على تحريض انصاره على النزول الى الشارع واستعادة النصر الانتخابي المسروق وذلك قبل ساعات فقط على تصديق الكونغرس على فوز الديموقراطي جو بايدن بنتيجة الانتخابات الرئاسية بفارق واسع على منافسه الجمهوري رجل المال والأعمال دونالد ترامب الوافد حديثا على عالم السياسية. وقد يكون ترامب توقع او لم يتوقع ان ينزل انصاره بذلك العدد وبتلك الهمجية لاقتحام مقر الكونغرس ويدوسوا على رمز الديموقراطية الامريكية ويعبثوا على طريقة دول العالم الثالث وأعداء الديموقراطية بهيبة ومبادئ وقيم الاباء المؤسسين للدولة الامريكية في مشهد غير مسبوق حتى خلال الحرب الاهلية.. كل ذلك تحت انظار العالم المشدوه والمشدود الى الاحداث المتواترة من العاصمة السياسية واشنطن التي ستعلن حظر التجول تجنبا للأسوأ بعد سقوط اربع ضحايا في احداث الاربعاء الاسود.
وإذا كان قادة دول الاتحاد الاوروبي ومعه قادة الدول الديموقراطية قد اجمعوا على التنديد ورفض العنف غير المسبوق في الكونغرس الامريكي واعتباره تهديدا واضحا لقيم الديموقراطية فان دولا اخرى وبينها ايران والصين اعتبرت ان ما حدث يكشف الديموقراطية الامريكية العرجاء ولا يسمح لأمريكا بانتقاد غيرها فيما تعمدت روسيا الصمت معتبرة ان ما حدث شان داخلي وهو موقف ستشترك فيه مع اغلب العواصم العربية التي اختارت عدم التعليق على ما حدث بتحريض من الرئيس المتخلي دونالد ترامب الذي اكد انه خاسر سيئ بعقلية دكتاتورية ترفض خيار الصندوق رغم انه خسر كل الدعاوى القانونية التي رفعها امام المحاكم لقلب النتائج لصالحه..
الديمقراطيون يستعيدون المشهد..
ولعل ما لم يتوقف عنده الكثيرون مع اندلاع احداث الكونغرس انه في الوقت الذي كان انصار ترامب يتدفقون الى الشارع ويطوقون مبني الكابيتول كان الديموقراطيون يكسبون ورقة الهيمنة على البيت الابيض والكونغرس وذلك لأول مرة منذ عشر سنوات بعد فوز
العضو الديموقراطي جون أوسوف والقس رافائيل وارنوك الديمقراطي في جورجيا، في العبور الى مجلس الشيوخ، ما أعطى الرئيس المنتخب جو بايدن السلطة لإصدار تشريعات شاملة وليبرالية ودفع الترشيحات الوزارية دون دعم الجمهوريين، وسيكون الانقسام الحزبي في مجلس الشيوخ 50-50 مع كسر نائب الرئيس المنتخب كامالا هاريس الأصوات المتعادلة.
ترامب خاسر سيئ..
وفي خطوة لتجنب خروج مهين بعد ان ارتفعت اصوات من الكونغرس تطالب بتطبيق الفصل 25 من الدستور وإقالة الرئيس ترامب من مهامه ومنعه من الترشح مجددا في سباق 2024 وذلك قبل ايام على تدشين منافسه بايدن البيت الابيض لجأ الرئيس المتخلي دونالد ترامب، إلى محاولة التدارك باستعمال الحساب الشخصي لمساعده دان سكافينو، بعد ايقاف تويتر وفايسبوك موقعه الشخصي لنشر تغريدة تعهد خلالها بانتقال “منظم” للسلطة في 20 جانفي، بعد ليلة دامية على وقع هجمات انصاره الى الكونغرس.. والطريف ان ترامب الذي اعلن العداء للإعلام والإعلاميين اختار على مدى السنوات الاربع الماضية التخاطب مع الامريكيين عبر حسابه على “تويتر” لنقل رسائله الى الداخل والخارج او لمهاجمة خصومه او اعلان ما حققه من اتفاقات لصالح اسرائيل مع شركائها الجدد..
ورغم اعلانه بان انتقال السلطة سيكون سلميا في 20 جانفي فانه لم يعترف بهزيمته الانتخابية ولكنه اعترف بنهاية ولاية اولى في تاريخ الرئاسة، و”أنها مجرد بداية معركتنا لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”. وقد اجمع نواب ديموقراطيون وجمهوريون على ان ما حدث اول امس تدنيس لمبنى الكابيتول وإراقة لدماء الأبرياء وتهديد للديموقراطية..
وحملت الصحف الامريكية الصادرة امس الرئيس ترامب مسؤولية العنف والفوضى فى الشارع الأمريكي، بعد دعوته انصاره للتظاهر في واشنطن، احتجاجا على نتائج الانتخابات الرئاسية
قبل 13 يوماً من انتهاء ولايته..
هل يتم عزل ترامب؟
بالتزامن مع الاحداث الدموية المتسارعة كشفت شبكة “سي بي إس” الأمريكية أن محادثات بين مسؤولين أمريكيين حول استخدام التعديل الخامس والعشرين فى الدستور الأمريكي، والذي يتم بموجبه عزل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية من منصبه، وبحسب الشبكة الأمريكية، دعم مسؤولون في وزارة الخارجية الأمريكية تلك المناقشات لمواجهة حالة الفوضي التي تسبب فيها الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب “.
ويبدو انه تم تشريك نائب الرئيس ترامب مايك بنيس في المشاورات لاتخاذ اجراء استثنائي وإعلان الكونغرس ان ترامب غير قادر على أداء واجباته كرئيس. وقد بادر بنيس الى التنديد بمشاهد الفوضى والعنف والإعلان صراحة ان المتظاهرين والمحتجين لم يفوزوا بالانتخابات.
وقد يكون ترامب تلقى الرسالة حيث شكر انصاره الذين وصفهم “بالوطنيين العظماء” على الحضور ودعاهم الى الانسحاب والعودة الى بيوتهم دون ان يدين ما اقدموا ويحثهم في نفس الوقت على “تذكر هذا اليوم إلى الأبد!”.. ويبدو ان سباق الاستقالات في صفوف مساعدي ترامب انطلق بالتوازي مع الاحتجاجات مع توقع المزيد في الساعات القادم..
الديموقراطية في العالم مريضة
بالأمس وفي اعقاب يوم دام صوت أغلبية أعضاء مجلس النواب الأمريكى، برفض اعتراض حلفاء الرئيس دونالد ترامب على تأكيد فوز الديمقراطى جو بايدن بولاية بنسلفانيا فى انتخابات الرئاسة، في محاولة أخيرة إما لإلغاء فوز بايدن أو تأجيل المصادقة عليه.
ومنح ترامب منافسه بايدن فرصة تاريخية لمخاطبة الامريكيين بصوت حكيم قبل تدشين البيت الابيض واعتباره ان الاعتداء على الكونغرس اعتداء على الشعب وعلى الديمقراطية وعلى من يحميها وعلى أقدس المؤسسات الأميركية. مطالبا الجميع بالانسحاب من الكونغرس والسماح للديمقراطية بأن تأخذ مجراها. ووصف بايدن المحتجين بالتطرف والخروج عن القانون..
كما دعا بنس ترامب إلى التحلي بالمسؤولية والخروج لإيقاف الفوضى، مؤكدا أن التصديق على نتائج المجمع الانتخابي يجب أن يكون مقدسا للديمقراطية الأميركية.
وبمصادقة الكونغرس على انتخاب بايدن رئيسا يخسر ترامب كل فرصه في البقاء في البيت الابيض مع كل ما يعنيه اصراره على رفض النتائج من خروج مهين له بعد فشله في قلب النتائج بعد خسارته اكثر من 60 دعوى قضائية رفعها في المحاكم للتشكيك بصحة نتائج الانتخابات، كما أن طلبات إعادة فرز الأصوات في عدة ولايات، أدت إلى النتيجة ذاتها: فوز بايدن…
صعود وسقوط ترامب المدوي يعكس جملة من الحقائق وأولها ان الديموقراطية في العالم مريضة وان القوة الاولى في العالم ليست بمناى عن كل الامراض والعلل السياسية التي تلوث المشهد السياسي في اكثر من بلد وان الاسباب تكاد تتشابه حتى وان اختلفت التأثيرات والنتائج فالمال السياسي الفساد واللوبيات المؤثرة والإعلام المتنفذ يسير المشهد ويدير لعبة الانتخابات.. وقد كشفت الاحداث الاخيرة في واشنطن ان ما كان يحدث من انقلابات على السلطة ومن رفض لنتائج الانتخابات في دول افريقية وآسيوية ليس حكرا على الانظمة الدكتاتورية بعد الاربعاء الدامية في واشنطن.. ولكن مع اختلاف مهم وجب الانتباه له وهو ان المؤسسات الديموقراطية والأصوات الحكيمة كانت مهيأة لرفض الانقلاب الشعبي لأنصار ترامب.. ولعل الايام القادمة تكشف المزيد عن مصير الحزب الجمهوري وما اذا كان مستعدا لإعادة تقييم ما حدث او ما اذا كانت الشعبوية الرسمية خيارا.. الارجح ان الرأي العام الامريكي لا يمكن ان ينساق الى تشويه وتدمير الديموقراطية التي اجتمع حولها الاباء المؤسسون قبل قرنين من الزمن.. صورة امريكا وتجربتها باتت محاطة بالكثير من الشكوك وسيكون من الصعب ان يكون للموقف الامريكي من التجارب الانتخابية صوتا نافذا قبل تصحيح المسار والاعتراف بالأخطاء وبان وصول ترامب الى السلطة كان كارثة على الامريكيين وعلى العالم..
ولكن وجب الانتباه ايضا الى ان من سبقوا ترامب في رئاسة البيت الابيض لم يكونوا اكثر رأفة بهذا العالم او اكثر احتراما والتزاما بالعدالة الدولية وبحق الشعوب في تقرير المصير والمتأمل في المشهد العربي والنزيف الحاصل من فلسطين الى سوريا والعراق ولبنان واليمن ومالي والصومال يدرك عمق الاخطاء الامريكية ودورها في تدمير المجتمعات وتخريب الاوطان وانتهاك حرمة الشعوب..
ترامب الرئيس الذي خدمه العرب فأهانهم..
بنهاية مرحلة حكم ترامب وفشله في البقاء في السلطة لولاية ثانية يكون الرئيس الامريكي المتخلي سجل صعود الشعبوية وفتح المشهد السياسي امام التطرف الرسمي والفوضى الهدامة وتداعياتها وهو الذي فرض طوال سنوات حكمه سياسة داخلية وخارجية بلا ضوابط او ثوابت ففشل في تطويق جائحة كورونا في بلاده بما جعل امريكا تتصدر قائمة الدول الاكثر ضحايا منذ ظهور الفيروس بوفاة اكثر من ربع مليون امريكي وإصابة عشرين مليونا اخرين بسبب استهانته بالخطر وإنكاره للفيروس واعتماده خيار مناعة القطيع قبل ان يدرك حقيقة المشهد.. ويصح القول ان ترامب الذي وعد الامريكيين بانجازات كبرى افلح في دور لم يسبقه اليه غيره من الرؤساء الامريكيين وهو خدمة اسرائيل ورعاية مصالحها وتهيئة الارضية لعقد الاتفاقات والشراكة والتطبيع مع الدول العربية بعد ان احكم قبضته على الفلسطينيين وجمد المساعدات المخصصة لهم وجفف منابع الاونروا وأغلق سفارة فلسطين في واشنطن ونقل سفارة بلاده من تل ابيب الى القدس متجاوزا بذلك كل القرارات الدولية والاتفاقات التي تقضي بتدويل القدس ..والحقيقة انه اذا كان لا احد ينكر ان الادارات الامريكية المتعاقبة دأبت على سياسة الدعم والتأييد لإسرائيل ولسياسة الاستيطان والتوسع والتهويد والاحتلال فان ترامب سخر ولايته لرفع العزلة على اسرائيل وتوقيع شراكات جديدة ما كانت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة لتحلم بها في السابق وقد تجند ترامب لإطلاق قطار التطبيع بعد اعلانه صفقة القرن وتبنيه اتفاقية ابراهام.
لقد عزز ترامب القناعة بعد اربع سنوات من حكمه أنه لا وجود لديموقراطية عريقة ومحصنة امام محاولات العبث والفوضى وان للسلطة وجه اخر سيئ حتى في الانظمة الديموقراطية عندما تنتصر لدى الحاكم الرغبة في التفرد بالحكم فيسقط في فخ الاغراءات ويتحول الى عبد لها..