ترامب باق وأميركا في مأزق وجودي
من تابع خطاب الرئيس ترامب بعد أحداث الكونغرس وتراجعه عن دعم مؤيديه ببضع ساعات، يعتقد أنه قد خضع للضغوط لإنقاذ سمعة الرئاسة الامريكية او ربما الحزب الجمهوري، ولكن الخطاب الذي ألقاه، لم يكتب منه حرفا ولا يعبر عنه مطلقا، واضطر لإلقائه لأهداف ذاتية محضة تنسجم مع شخصيته النرجسية، وليس لأهداف وطنية كما يخيل للبعض، أهمها أن يبعد عن نفسه شبح العزل في الأيام الأخيرة لولايته، أو ما هو أخطر شبح السجن بتهم جزائية خطيرة بعد انتهاء ولايته، منها التحريض على الارهاب والعنف والانقلاب على الديمقراطية ومقاومة رجال الأمن والتسبب في القتل والايذاء وتهديد المشرعين، وقد تصل صحيفة الاتهام إلى بضع صفحات.
ولكن القصة لن تنتهي عند هذا الحد، والنار التي أشعلها ترامب لن تخبو بعزله أو حتى سجنه، كما ومن المستبعد أن ينجح بايدن في إعادة اللحمة إلى الصف الأمريكي الذي قسمه ترامب إلى معسكرين ” نحن والاخر”، بعدما منحه شرعية الظهور إلى العلن والتعبير عن نزعاته بالقول والفعل، وشحنه بمزيد من مشاعر الغضب والكراهية تكفيه لأن يبقى وينمو ويتغذى ذاتيا ويتحول إلى قوة تدمير تهدد بتفكيك أميركا من الداخل.
والحقيقة هي أن من يدركون خطورة الرجل في أميركا هم عدد محدود من قيادات الحزبين الديمقراطي والجمهوري موزعين على المؤسسات المختلفة، ولذلك فإن بيلوسي لم تتردد في الإعلان عن نيتها عزله ومنعه من الترشح لأي منصب سياسي عبر حث قادة الكونجرس على التصويت في الأيام الأخيرة لولايته، ولكن بيلوسي تخطئ حين تعتقد أن عزل ترامب أو منعه من الترشح لمنصب سياسي كاف لكبح خطط هذا الرجل وإنهاء خطره خلال الأعوام المقبلة، لسبب بسيط هو أن ترامب لا يلعب وفق قواعد اللعبة الدستورية أو القانونية أو السياسية، وهذه الميزة بالذات هي ما جعلته يستقطب هذه الملايين من الأمريكيين الذين يتوقون بدورهم إلى تحطيم تلك القواعد ، بعدما ضاقوا ذرعا بكل القوانين والسياسات والمؤسسات التي تكبلهم والتي أحبرتهم على الانخراط في هذه المنظومة رغم أنوفهم، وهو ما لا ينسجم مع حقيقة مشاعرهم وتوجهاتهم ولا مع جيناتهم الثقافية المستمدة من تاريخ أجدادهم في مراحل ما قبل اتحاد الولايات الأمريكية وتأسيس الدولة الحديثة على قيم دستورية تعتنق إنهاء العبودية ورعاية الحقوق وإطلاق الحريات المدنية والسياسية بكل أنواعها فردية وجماعية.
هذه الفئة من الأمريكيين “الأصوليين” إن صح التعبير، الملقبين بـ “الرد نيكس” و الـ “وايت سوبريمستس”، كانت على الدوام قاعدة ثابتة للحزب الجمهوري، وكانت تحتل يمين الحزب وسبق أن عبرت عنها سارة بيلين وآخرون في حركة “التي بارتي” حين ترشح ماكين في مواجهة أوباما، ولكنها أخفقت في انتزاع السلطة لأنها لم تجد زعيما ملهما يعبر عنها بصدق كما عبر عنها ترامب. هذه الفئة هي في صراع وجودي مع الفئة الأخرى التي تمثل بعض المثقفين من أكاديميين وإعلاميين وفنانين، وجموع المهاجرين ومن يحملون الحلم الأمريكي وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي باعتها الفئة الأولى لهم في مرحلة ما من بناء الدولة الحديثة، ثم أدارت ظهرها لها مطالبة بالعودة إلى الانغلاق على الذات بعدما عجزت عن توفير فرص كافية لمعيشتها وازدهارها مع تبني سياسات ليبرالية مطلقة فتحت أبواب المنافسة مع كل شعوب العالم على الأرض الأمريكية.
ترامب ليس جاهلا أو غبيا أو مجنونا كما يعتقد البعض، ولكنه ببساطة نرجسي طموح مجرد من القيم السائدة التي تعتنقها الأكثرية، وعلى استعداد لفعل أي شيء لتحقيق أهدافه، ولأنه يأتي من عالم الأعمال ولم يتدرج في أي منصب حكومي، فهو متحرر تماما من قواعد اللعبة، واعتاد أن يرسم هو قواعده الخاصة التي مكنته من تكوين ثروة طائلة بأساليب لا يقدم عليها الآخرون، وقد أهله ذكاؤه الفطري وخبرته في عالم الأعمال والبرنامج الجماهيري الذي قدمه على إحدى شاشات التلفزة قبل صعوده للسلطة لاكتشاف حاجات فئة كبيرة من الأمريكيين تماهى معها ومع خطابها وأعاد إنتاجه، جاعلا من باراك أوباما أول ساحة لتجربة تلك الأسلحة، ومن هيلاري كلنتون الساحة الثانية، وحين حقق نجاحا باهرا، استمر في استثمار ذلك الخطاب لتوسيع قاعدته، وقيادة تيار جماهيري واسع يؤمن به ويصدقه كما لو كان نبيا، وهو ما تمكن من تحقيقه بالفعل حيث كسب 16 مليون صوتا جديدا في الانتخابات الأخيرة ليصل مجموع مؤيديه إلى 75 مليون ناخب، وهو رقم فلكي في تاريخ الانتخابات الأمريكية، ولولا أن بايدن حصل على 82 مليونا جراء استحداث آلية التصويت بالبريد التي مكنت الفئات الكسول واللامبالية والعازفة تقليديا عن التوجه إلى صناديق الاقتراع من التصويت، ولولا فشل ترامب -جراء نرجسيته- في إدارة أزمة كورونا متسببا في وفيات بالملايين، ولولا الضخ الإعلامي الهائل في مواجهة طروحاته التي تروجها قناة فوكس نيوز، لما كان من الممكن إزاحته عن السلطة عبر صناديق الاقتراع، لأن مؤيديه يحملون دافعية عالية لا يحملها مؤيدو الفريق الآخر في ظروف طبيعية.
ترامب لن يقر بالهزيمة ولن ينسحب من المشهد طوعا، والدليل رفضه تسليم السلطة لبايدن ورفضه حضور حفل التنصيب، وهو ما يدلل على أن روايته بأن الانتخابات مزورة وأن السلطة تم اغتصابها منه ومن مناصريه ستبقى موجودة خلال الأعوام المقبلة، وسيلجأ ترامب إلى استثمار الدعم الشعبي الكبير الذي يلقاه وتحويله إلى حركة يمينية متطرفة رافضة للمؤسسات ومن يمثلونها (وهي النزعة التي حملته إلى البيت الأبيض بالأساس)، وربما ينشئ حزبا جديدا يؤدي إلى إضعاف الحزب الجمهوري وظهور الحزب الجديد منافسا قويا في الانتخابات المقبلة، وقد يقوم بما هو أسوأ، بتوظيف الطاقة الغاضبة لدى أتباعه في مفاصل تكتيكية أو استراتيجية قادمة باتجاه مظاهرات ومسيرات تنتهي بأحداث عنف على شاكلة اقتحام الكونغرس وسلسلة الاحداث التي ميزت بداية ولايته في 2017، كل هذا سيحول سنوات حكم الديمقراطيين إلى جحيم، رغم سيطرتهم المؤقتة على الكونجرس في ضوء الانتخابات الأخيرة، وقد يمهد الطريق أمام نمو نزعات انفصالية في بعض الولايات، خاصة إن نجح ترامب في استقطاب بعض حكام الولايات المنتخبين وغيرهم من المشرعين والقضاة والسياسيين والإعلاميين والفنانين بأفكاره أو بماله ونفوذه، وربما يلجأ إلى شراء قناة الفوكس نيوز إن هي تخلت عن دعم طروحاته بعد مغادرة السلطة، أو ينشئ امبراطورية إعلامية جديدة تعبر عنه وعن أنصاره.
من الصعب هزيمة ترامب لأنه يملك كل شيء: المال والنفوذ والكاريزما والشعبية، وهو يعبر عن نزعات كانت مخبوءة لفئة كبيرة من الأمريكيين، بمعنى أنه لم ينشئ حالة، بقدر ما كشف عن تلك الحالة وأمدها بوقود لسنوات طويلة قادمة، كما أن وجوده يخدم مصالح جهات كثيرة تعمل على إضعاف النفوذ الأمريكي وتفكيك الإمبراطورية التي تربعت على عرش الهيمنة في القرن العشرين والحادي والعشرين من الداخل والإطاحة بقيمها الديمقراطية الداخلية التي مكنتها من قيادة العالم، لأن هزيمتها من الخارج تبدو بعيدة المنال، وهو ما يهيئ المناخ الدولي لصعود قوى جديدة على رأسها الصين ورسم خريطة عالم جديد لن يكون أفضل كما يتخيل البعض، لأن من يخططون له يريدونه بحكومة عالمية موحدة، حكومة تسلطية، تذوي فيها الحريات، وتموت البدائل، ويتحول البشر إلى عبيد في آلة جهنمية ترسم أٌقدارهم وتتحكم حتى في أنفاسهم وأحلامهم.
ترامب ليس مجرد شخص صعد إلى سدة الحكم في أقوى دولة في العالم وسيغادرها خلال أيام، بل هو علامة فارقة، تماما كالكورونا، سيكون لها ما بعدها، إلا إن تمت تصفيته سريعا جسديا ومعنويا، مع الاحتفاظ بإمكانية صعود شخصية كاريزمية جديدة ترث خطابه، وقد تكون من أسرته ذاتها أو من أتباعه، فالقصة ليست ترامب أو الكورونا، وإنما القصة نظام عالمي جديد بقواعد جديدة ولاعبين جدد.
كل هذا يحدث ونحن هنا في هذه المنطقة المنكوبة من العالم شهود زور على عالم يتبدل ويتحول دون أن نفهم حتى أبسط معطياته، وما زلنا ندور في حلقات مفرغة ندافع عن لقمة عيش سيتعذر الوصول إليها بعد سنوات إلا ضمن شروط صعبة ستفقدنا إنسانيتنا، وندير ظهرنا لمن يدافعون عن حرياتنا ويقرعون جرس إنذار تلو الآخر، لأننا عالقون في فخ رغباتنا المباشرة وتفكيرنا المحصور بعنقود الموز من خلف السور والصناديق التي لا توصلنا إليه.